الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

محمد الأشعـــري.. قـصــة ألــــــوان وحـيــــاة

محمد الهــرادي
 
 
لا أستطيع أن أتذكر في أي عام جرى هذا. ربما حدث في وقت سابق على انقلاب الصخيرات، وربما بعده بقليل.
كان الوقت مساء، وقد حدث ذلك منذ النظرة الأولى، وبدا الأمر أقرب إلى اكتشاف شبيه للإمام علي (ك) وهو على قيد الحياة، يجول في الشارع ويختلط بالناس، تراءى لي بنفس ملامحه المرسومة في المنمنمات الفارسية، لكن بلا حسن وحسين موضوعين على الركبتين.
 
ذكرني وجه الأشعري بصورة الإمام علي (ك) ذي الملامح المطمئنة حين كنت أراه معروضا على الأرصفة في زمن ولّى. لكنني سأتذكر بعد ذلك أن هناك اختلافا بينهما جعل هذا التشابه صعب التصديق
 
ذكرني وجهه تلك اللحظة بصورة الإمام علي ذي الملامح المطمئنة حين كنت أراه معروضا على الأرصفة في زمن ولّى. لكنني سأتذكر بعد ذلك أن هناك اختلافا بينهما جعل هذا التشابه صعب التصديق، إذ بدا لي أن محمدا الأشعري كان، على عكس "سيدنا علي"، شابا نحيفا وهو يصافح أحمد المجاطي في شارع محمد الخامس بالرباط، مع ملامح تشي بأنه قبل قليل تناول شراب الفرح، الشيء البارز فيه كان هو الجزء العلوي الخارج عن أي تصنيف، فقد كان رأسه المتوج بسواد واثق من نفسه هو علامته المميزة، بلحية كثيفة وشعر رأس غزير، وبقامة تميل إلى القصر، وكل هذه السمات تعطي الانطباع لكل حالم تتداخل في رأسه الأزمنة أن الأشعري كائن طوى المكان ونزل توا من الجبل حيث تدور العمليات، ملفعا بزهو المنتصر بعد أن أنهى إحدى معاركه، تمتزج في هيئته المركبة ألوان الأسود والأبيض والبني، وقطعة شاردة من الأزرق، يحمل معه وهو يحييك تلك النظرة التي تكشف لك عن تساؤلات لا تنتهي، فيما هي نظرة قلقة تقترب من خباياك، نظرة تقرأ لغة جسدك في شروده واضطرابه، بمثل ما تنصت إلى لحظات الصمت المحرج بينكما.
لم أكن قد زرت شقته الصغيرة في شارع النصر قريبا من المدرسة الإدارية، وإن كانت تصل من حين لآخر أخبار النقاشات والمغامرات التي تحدث داخلها. هناك إذن شيء ما يحدث غيّر نظام الأشياء وسرّع الزمن، لكن ما الذي جعل الأشعري يجتاز مفازة باب الرواح ويغامر بالجولان في الشارع العام، الشارع الذي تحول إلى رمز للاستقلال المغشوش، ومظهره يشي بمكنونه وشكوكه؟
 
أحيانا أعيد تركيب هذه الصورة التي انبثقت من رحم زمن هارب تشكل في أوائل السبعينات من القرن الماضي فأجدها قد تحولت إلى حلم يقظة: أكتشف أن محمدا الأشعري لم يكن يحمل اسمه، وإنما اسم شخصيته الروائية: الفرسيوي. ربما. هذا مجرد افتراض. يحمل على كتفه الأيسر بندقية صيد على طريقة ميخائيل كما تخيله ماريو بوزو حين كان يبحث عن هدف نبيل وهو متجه نحو قرية كورليوني بصقلية. ينزل المنحدر الصخري، مبتعدا عن قريته (كرمة) بنواحي زرهون. يجوب الأحراش، ويفحصها بنظرة فيها تصميم وعناد، يتلمس بقدميه خطى والده وعمه حين كانا شابين يتسلقان نفس الجبل، وينحدران مع السفح الخلفي الذي نبتت فيه شجيرات شوكية لا ظل لها، قبل أن يشرفا على بيت الفقيه بولحية.
 
الحرب الريفية انتهت بانتصار من غرز مديته في جسد عدو دون أن يقضي عليه، هو "انتصار" جريح أشبه بشق نازف جاء في وقته على شكل هزيمة عسكرية لا منطق لها خارج منطق الغلبة
 
في تيهانه وعزلته تلك، يتذكر الأشعري ما سمع وما قرأ عن كل شيء له علاقة بحرب الريف، يقارن في ذهنه الأسماء والوقائع، وعلامات وألوان الطريق، والصخور المعلقة في المنحدر وجنب الممرات الضيقة، لكن الفقيه بولحية آنذاك لم تبق منه إلا بقايا منسية مبعثرة في المكان. خطر في ذهنه ذلك وقاوم فكرة نهاية الأشياء. الحرب الريفية انتهت بانتصار من غرز مديته في جسد عدو دون أن يقضي عليه، هو "انتصار" جريح أشبه بشق نازف جاء في وقته على شكل هزيمة عسكرية لا منطق لها خارج منطق الغلبة، وقد حدثت هذه الهزيمة بعد أن التهمت هذا الفقيه الملتحي الذي اختاره بنعبد الكريم في جمهوريته أن يكون موجها روحيا ووزيرا للعدلية، وبعدها رمت به قدرية الحرب نحو آسفي ليعيش في المنفى، وربما كان هذا القرار من بنات أفكار ليوطي المزدوج الهوية (جمهوري-ملكي)، هناك اجتر بلا شك أمجاد وخيبات قبائل الريف التي تكلم عنها مولييراس بوقار قبل أن يغادر عالمنا في صمت، لكن رفيقه محمد أزرقان، صهر بنعبد الكريم ووزير خارجية الجمهورية، لم يكن صامتا في منفاه بالجديدة، كان على بعد مسافة نصف يوم من رفيقه نزيل آسفي، ومن الصعب سماع صوته من هذه المسافة، ولذلك تمكن هذا القصير الماكر من استدراج قاضي المدينة الفقيه أحمد سكيرج ليكون صوتا له، وليبوح له بيوميات ووقائع الحرب، ويحثه على تأليف كتاب كامل عنها، وبينما وجد هو منصتا يترجم الكلام المحال، فقد شكل هذا الثنائي معا بعد ذلك بزمن كاف، الفقيه بولحية وأزرقان، في خلفية الصورة الحلمية التي يتموقع داخلها الأشعري. وجهان من ماضي و"حاضر" الريف يشبهان وجهي والده وعمه ويندمجان في صورته الشخصية ليرسما معا قسمات وجهه السري، وليخترقا سيرة حياته وعلامات وجوده في العمل السياسي والكتابة الأدبية. لكن بأية ألوان رسمت هذه الصورة المتداخلة العناصر، وبأية خطوط تمت هندستها وتشخيص مكوناتها، وتحت أية إضاءة؟ وهل كانت خطوات الأشعري وهو ينحدر مع السفح على تخوم (كرمة) تؤدي به نحو ما رسمه لنفسه في هذه الصورة المركبة المتخيلة: الوصول إلى الفقيه بولحية والتماهي معه، كما لو كان أفق هذا الوصول وتحققه الفعلي هو كناية عن بحث لا ينقطع عن "أب" يستحيل أن يطاله الموت؟
 
كان محمد الأشعري، منذ البدء، يستحضر في أشعاره سيرة الفقيه بولحية وبنعبد الكريم، ورمزية الريف وأشلاءه وضحاياه، ويتساءل: "أين نضع السلاح الذي غنمناه دون رغبة، وأصبح يعوق عودتنا من الجبهة؟"
 
هذه الصورة الحلمية تبدو متكاملة الأركان ومتحيزة لتحولات الأزمنة التالية، وكي تتوضح أكثر ينبغي عقد مقارنات ليست بالضرورة مقارنات أدبية: ففيما كان المجاطي يستحضر منذ أوائل الستينات رمزية المنفى في سيرة البارودي وهو بجزيرة سرنديب، ويتعلق بجبل قاسيون بالشام ذي الملمح القومي العروبي، ويستكنه حالة "السقوط" وهو يحمل بندقية فارس الفانتازيا التي لا تطلق سوى رصاصات فارغة، ويكسر في لحظة النهاية "صدأ القيد" ليرفع راية حملها ذات يوم عمر دهكون، كان محمد الأشعري، في المقابل، ومنذ البدء، يستحضر في أشعاره سيرة الفقيه بولحية وبنعبد الكريم، ورمزية الريف وأشلاءه وضحاياه، ويتساءل: "أين نضع السلاح الذي غنمناه دون رغبة، وأصبح يعوق عودتنا من الجبهة؟". لا يجد جوابا. ثم هو خلال ذلك يلوّن السماء النارية بلون قرمزي دال يتخلل الزرقة الكابية. وكيف حدث أن فك الخيوط التي تتشابك فيها الرموز؟. أحيانا كان يقود حصانا مرنا إلى المراعي ويحاور الماء. يعلم أنه قد "خسر الحرب". ويتساءل مرة أخرى: "أين يكمن العدو؟". تأسره "الأشياء" المتناثرة حول الخراب وفي الجبل وفي المشهد البركاني حيث النيران والحجر والشظايا، بينما المجاطي وقتها كانت "تلبسه المدينة"، يغني في ليلها كي يغرق في كأسها المكسورة..
 
في تيهه الأولي يتذكر الأشعري تلك اللوحة التي علقت بالصالون حين كان يقيم في زمن ما بحي السلام بسلا: حصانان يشتبكان مع بعضهما، أو هما يتصارعان حيث نهضا على قوائمهما الخلفية وكشفا عن ملامحما القاسية. هل نسمع "صهيل الخيل الجريحة"؟. ربما. كل ذلك الصهيل المكتوم تجده وسط كتلة من البني المائل إلى حمرة تراب بركاني. يقود الأشعري إذن خطاه الشعرية الأولى نحو "الفراغ الأبيض" المقابل للموت حيث يقيم الفقيه بولحية، كاتبا جملته الأولى بالماء، ولذلك حين كان يتبع أثر خطوات والده وعمه على السفح في حلم يقظته وجد هذا السفح "مضاء بأشجار مغسولة"، أما الماء الذي غسل كل شيء فقد تحول إلى "سيل" جارف، ثم وجد "السيل" يدنو منه، دنو "أحصنة مروّعة"، ومع أننا نعلم أن بين هذين "الموقفين" المتقاطعين نقط التقاء وتباعد، فقد خطا محمد الأشعري نحو الأمام وأفصح عن ذاتية متفردة في همومها ووجودها الأنطلوجي، ومختلفة عن صياغة ذاتيات أخرى متساكنة، تتوالد من حوله، ولذلك حدث لي حين لقائنا الدال الأول أن طرحت سؤالا عن أحوال الفقيه بولحية الذي كان قد سكن فعلا في "البياض" دون أن تموت فكرته وصورته، وذلك في إشارة تحيل إلى آخر قصيدة نشرت للأشعري وقتها بـ"المحرر" وتستحضر سيرته، وكأن السؤال عن هذا الشيخ الذي ما عاد منسيا في مماته هو سؤال عن الأشعري بذاته وصفاته وعنفوان حياته، وكأن التماهي بينهما في الحياة والشعر والكلام والضحك والصفات ونقلها من الماضي إلى الحاضر قد تم في ذاك "البياض"، وأن كلاهما أصبح يكافئ الآخر. كان ذلك هو الهدف من السؤال. وضحك الأشعري وهو ينظر حواليه بحثا عن شيء ما ضائع، وقد وجده في النهاية: الفقيه بولحية بخير. يشير إلى نفسه وهو يضحك. إنه بخير كما تعلم. وأنت، هل أنت بخير؟. ربما.
 
كان الأشعري "حاضرا" وقتها في فندق "النخلة"، كناية عن سجن العلو بالرباط حيث قضى أيامه وشهوره المتوالية، شق طريقه بين السجناء المتمددين على أرض حكاياتهم واختزن بطريقته الفريدة كلمات ستصير فيما بعد "مادة خام" لروايته "علبة الأسماء"
 
منذ تلك اللحظة السريعة التي تكاثفت فيها الحالات على تباينها الظاهري انبجست رؤيا غريبة، هي امتداد لذلك التوقع الذي يستحث الغيب على الظهور. لم يكن هذا "الغيب" سوى حالة تراخ وعياء عبر عنهما المجاطي منذ "ملصقات ظهر المهراز" بمزيد من العزلة على المستوى الشخصي، أدى به إلى أن بات شخصا "آخر" بين "وجوه" المجالس. كان قد كفّ عن أن يكون "شاعر الحزب" مقابل ذلك السيل الهادر الذي جرف به الأشعري تلك الأرض المنتشية بسقوطها من حوله. كل شيء يتغير ويخلف بعضه وينهض من جديد مثل ربيع غير متوقع، ولكنه ضروري، ومع ذلك، بالنسبة للأشعري، كان يصل هدير ذاك السيل الجارف الذي أعلن عنه في تلك المرحلة "ممتلئا بأجنحة الموت"، وفي النهاية لم يخسر أحد حربا أو يكسبها رغم شظايا ونيران مشهد شعري متنوع وحيّ، يصح أن يوصف بأنه "مشهد بركاني". كان الأشعري قد فك نفسه من أسر البدايات وأصبح بعدها وريثا وحيدا للقب "الشاعر" الناطق بلسان "الحزب" في لحظته الانتقالية الحرجة. ابتدأت هذه النقلة منذ منتصف السبعينات، لكن في ذروة هذا المشهد المراوح بين صراع الشرعيات المتنازعة على المنزلة والاستحقاق قرر أن يكتشف حقيقته النثرية التي تبلورت فيما بعد عن طريق الصحافة. كان الأشعري في العمق قد تبنى قرارا دفاعيا يتجاوز التكتيكات العابرة. هكذا اخترق بوابة النثر، وكان ما كان.
 
لكن "أين يكمن العدو" الحقيقي في المتن الشعري للسبعينات؟ وهل "توقف الجبل عن أن يكون جبلا" قابلا للاستشهاد؟ وهل توارت صورة الفقيه بولحية وغلفت بالنسيان؟ لا أحد يدري الجواب.
 
كان الأشعري شاعرا شابا  ولج تجربة جديدة يمتزج فيها الشعري بالنقابي. وقف على كتلة من الطين الطري وبدأ يحفر في عمق "الأراضي المسترجعة" وتفاهات "المغربة"
 
الرباط نفسها كانت، ككل مدينة متحركة، عطشى للماء. أما الدار البيضاء القريبة من كل شيء فكانت تفتح نوافذها كي تموج الرياح لتنقلب العاصفة على ذاتها أو لتنتحر. يركب الأشعري دراجته النارية الفلاندريا وينتقل إلى العدوة الأخرى بسلا كل يوم. لا توجد سوى مساحة رملية عميقة الغور صعبة العبور. اللوحة الحصانية التي ما زالت هناك معلقة على صدر الجدار صار لونها البني الغامق أقرب إلى الحمرة النبيذية، والخيل التي لم تسرج بعد انتصبت على قوائمها الخلفية. كانت تبدو مثل خيول جريحة، تصهل وتروع المكان الفارغ. أما الأشعري فكان "حاضرا" وقتها في فندق "النخلة"، كناية عن سجن العلو بالرباط حيث يقضي أيامه وشهوره المتوالية، يشق طريقه بين السجناء المتمددين على أرض حكاياتهم ويختزن بطريقته الفريدة كلماتها التي ستصير فيما بعد "مادة خام" لروايته "علبة الأسماء". ولا أحد يستطيع أن يسمع صوتا في الجوار غير "صهيل الخيل الجريحة". هنا لا أحد. هنا نحن فقط نتساقط وننقرض طيلة أيام سنة كاملة، حتى أن دراجة الفلاندريا توقف محركها عن الدوران وأصيب بحالة استسلام مزمن جراء الصدأ ومضاعفات الرطوبة البحرية. لكن، وهو يقيم قرب متاهة الشواهد والقبور الممتدة خلف سور السجن، كان الأشعري يبدو واثقا من نفسه، تكشف عن ذلك رسائله الساخرة للعالم الخارجي وميله لتعميق الأسئلة. أحيانا كان هذا الوثوق يتعرى من حمايته الذاتية بفعل تقاليد وأوهام. قيل له وقتها حين تعفف من تحمل مسؤوليات ثقافية وسياسية في الحزب واتحاد الكتاب: كيف تنسى صاحبك الفقيه بولحية؟ كيف لا تستحضر سيرة جدك بنعبد الكريم؟ ألم يتحمل المسؤولية وهو شاب؟ استبعادك لنفسك بحجة أنك "شاب" لن تمر. وهل فكرت في أن فيليبي غونساليس وفاكلاف هافل كانا مجرد شابين حين قادا تجربتهما الخاصة في لحظة انتقال، وفي وضع غامض غير مقنع وصعب التصديق؟
 
يقتنع ولا يقتنع. حينها ظهر "الماء" الحي كعنصر غير محايد والأشعري يقود نقابة الفلاحين. كان الشاعر الشاب قد ولج تجربة جديدة يمتزج فيها الشعري بالنقابي. وقف على كتلة من الطين الطري وبدأ يحفر في عمق "الأراضي المسترجعة" وتفاهات "المغربة". توارى وجه الفقيه بولحية للحظة وانكشفت ملامح جديدة مصنوعة من لوعة ذلك الطين والتراب والحجر. اللون الغالب كان هو الأزرق الشفاف الممزوج بدرجة عالية من البني، لدرجة أن هذا اللون كاد يشبه كدمة متحللة على جسد حي. يستيقظ الأشعري كل صباح وهو يفكر في "العين" التي ترى أثر تلك الكدمات في "عقول" الآخرين. يكتب ذلك العمود اليومي الذي أدمن على قراءته الحسن الثاني في جريدة الحزب وهو يعلم أنهم يقرأون من خلال كلماته أحوال طقس المغرب، بأنوائه وعواصفه وتراتيل الشكاة والمنتفضين والمحتجين، وبعلو صوت صمتهم المهيب. لم يحدث مثل ذلك إلا عندما كان يكتب عبد الرحيم بوعبيد مقالاته الترافعية في الخمسينات ضد استعمار كان يبحث عن مخرج لأزمته. لا فرق بين الحالتين إلا في الدرجة والتوقيت. الأزرق الذي صار هشا بفعل عمقه الطيني كان مشبعا بطراوة الماء، وعلى المستوى الشعري برزت خاصية غير مألوفة: وهي انحناء الكلمات التي هي بطبيعتها الشعرية متعالية نحو ملامسة الأرض، وهذا يعني عودة الشعر إلى مصبه النثر، ومن خصال هذه الحالة الاستثنائية ميل الذات إلى سرد التفاصيل عن ذاتها وعن الآخرين، وكان ذلك مدخلا مؤثثا حسن الإضاءة نحو السرد القصصي والروائي، لكن ما الذي ميز التسعينات كي يطفو النثر ويتوسع علامة على هذا "الانتقال"؟ كيف تتماهى الألوان المتباينة الدرجات في سيرة الشخص مع بعضها؟ وكيف تنتج قرينها من ضدها؟. لا جواب حتى الآن.
 
هذا الأشعري الذي كتب روايات عن الحب المسيج بالأسلاك في السجون، وعن المورسكيين المنفيين في ذواتهم، وعن قضايا المرأة وعوائق الاندماج العاطفي، كان قد ودع الأشعري الآخر، أشعري البدايات المرتبكة الطالع كنوارة من أشواك الريف
 
أحيانا يزور الأشعري مسقط رأسه ليتشمم تلك الرائحة الحميمة في الوجوه والأماكن التي يفتقدها في عاصمة المملكة الشريفة. زاد تلك الرحلات المنتظمة فيه نوع من حنين إلى أيام الفقيه بولحية وإلى ما يرمز إليه. فقدان أبوي؟. ممكن. لذلك لا يكلفه الأمر شيئا غير أن يشم هواء (كرمة) كي يشحذ عزيمته ليحارب. ألأجل هذا البحث عن "الأصل" لم يحسب نفسه يوما روائيا محترفا إلا عندما أنهى كتابه النثري الثاني أو الثالث، وخرج من الجنة الخضراء ل " السيرة الذاتية" المقنعة، تاركا مراتع الطفولة والفتوة خلفه تتمرمد في حلم مؤجل؟. سيجد الأشعري بلا شك متعة في تدبيج القصص المهندسة لتلائم موضوعات لها أهمية في السياقات الجارية، ولكن هذا الأشعري الذي كتب روايات عن الحب المسيج بالأسلاك في السجون، وعن المورسكيين المنفيين في ذواتهم، وعن قضايا المرأة وعوائق الاندماج العاطفي، كان قد ودع الأشعري الآخر، أشعري البدايات المرتبكة الطالع كنوارة من أشواك الريف، ذلك الشاب الذي كان يتنحى بخفة عن عوائق النمذجة والتنميط، الذي نظف الطريق ورسمه بالأحمر وهو يرتقي الجبل ليطل بقلبه على مقام الفقيه بولحية، ذلك الأشعري الشاب الذي تحلل في بياض غيمة واستوى ماء يهمي لينعش جفافنا الداخلي. هل ما زال حيا بكلماته؟ وأين يختفي؟.