الحسن الثاني السلطان.. القصيدة التي دوَّت في أرجاء القصر واهتز لها الملك فرحا وعانق صاحبها أمام الملأ
الكاتب :
حسن عين الحياة
حسن عين الحياة
هي واحدة من أكثر اللحظات التي اهتز فيها قلب الملك الراحل الحسن الثاني فرحا، وهو ينصت بإمعان في عز ليلة القدر من سنة 1998، لقصيدة رائعة من بُنيَّات أفكار الشاعر السوري الراحل خالد محي الدين البرادعي بعنوان "من دوحة المصطفى جئتم على قدر".
وكان الشاعر قبل إلقائه القصيدة التي كانت خاتمة لعدة قصائد قرأها في حضرة الملك والملأ المصاحب له، قد ذكره بزيارته إلى سوريا لبضغ ساعات من يوم 29 أكتوبر 1992، وهي الزيارة التي قام فيها الحسن الثاني بالترحم على شهداء الجولان.
وقال الشاعر محيي الدين أمام الملأ الذي تحلق حول الملك آنذاك، بأن الحسن الثاني اقتطع من فسحته ساعات ليزور مقبرة الشهداء في "نجها" جنوب دمشق التي يزورها الملوك والرؤساء ممن يحجون إلى سوريا.
وفي تلك الزيارة، تجاوز الحسن الثاني حسب الشاعر كافة التقاليد الرسمية والبروتوكولات، عندما رفض السير على السجادة الحمراء، وخلع حذاءه، وجلس على التراب، فسلم على الشهداء وقرأ لهم الفاتحة وكتب في سجل الضيوف، "في هذه اللحظة التي يضيق بها صدري، ولا ينطق لساني، أحييكم أيها الشهداء والسلام عليكم وإلى اللقاء"، وبعد انتهاء الشاعر من هذه الحكاية، أخذ في إنشاد قصيدة رائعة بعنوان "مشكاة الرباط".
وبعد انتهائه من هاته القصيدة، أنشد أخرى بعنوان "من دوحة المصطفى جئتم على قدر"، وهي قصيدة، بثها التلفزيون المغربي مباشرة أثناء ليلة القدر، وظهر الحسن الثاني كسلطان عربي قديم وهو ينصت إلى شاعر فحل يصدح بصوت جهوري يفيض غُنَّة وطربا، وأمامه ملأ كبير من كبار رجال الدولة والأمراء وولي العهد سيدي محمد. وكان الحسن الثاني يتفاعل مع كل بيت من أبيات القصيدة، تارة يطأطأ برأسه كما لو أنه يقول للشاعر صدقت، وتارة أخرى تحركه الأبيات فيتزحزح من مكانه واضعا يده على خده مستندا عليها، وفي أحايين كثيرة، كان يبتسم كطفل فرح بهدايا العيد.
وافتتح الشاعر محيي الدين البرادعي قصيدته الرائعة بصوته الطروب منشدا للحسن الثاني:
(...)
فأي تجريـــدة كانـت وما لبثــت أن زينت بالدم البكر التشارينـــا
أما مسيرتك الخضراء فهي فـــدى للمقبليـــن إذا زاروا بوادينـــا
تعثر المجــد في اثنـاء رحلتـــه كما تعثر في سوق المنادينــــا
من أخمصيه إلى عليا ذوائبـــــه فجاء يسكن في برديك مفتونــــا
وكنـت أكـرم من يعفـو بمقــدرة عن جانح الرأي في ليل المحبينــا
فيا ابن بنت رسول الله ما هــــدأت بك المراكب في أعلى شواطينـــا
إلا ارتقــاء مليـك في مراتبـــه يوم اصطفاك العلا خلقا وتكوينــا
لتمسك الطرف الغربي من غــ ـرق وتنفذ المتبقي من مواضينـــــا
وتلهب الحلم المكسور رؤيتـــ ــه لعل في الأفق الشرقي يندينــــا
ودولة الحسن الثاني غدت حلمـ ـــا للمبدعين وقد جاءوا ملبينـــــا
ليملأوا صفحات الفكر من غــــدق في منتدى عاهل يرعى المغيثينــا
وأنت في المثل الاعلى لمزدهــــر من العروض إذا غدت أوالينـــا
ترنو إليك القوافـي الغـر قابســـة من عطر دوحك ما يغني الدواوينـا
وأنت أجـدر من زفت له غــــرر من المطارف إنشادا وتدوينــــا
من دوحة المصطفى جئتم على قـ ـدر وفي حياض العلا كنتم سلاطينــا
(...)
من مقلع الضاد إيمانا ومنزلـــــة ومن صروح شهادات تنادينــــا
من شرفة الشام قد حمّلت قافيتــــي آساً، وفلا، ومنثورا، ونسرينـــا
لأفرش الطيب في أبهى مجالســــه وأجتني من روابيه الرياحينــــا
ترجمت قلبا قضى في عشق أمتـــه فصل احتراق بقهر الحب مشحونـا
خمسين عاما ومازالت بلاغتنـــــا وقفا على الجرح نستجدي فلسطينـا
أمام سبط رســول الله فاندفعـــت منه المواجع إنشـادا وتلحينـــا
فألف عذر أميـــر المومنيــن إذا في ليلى القدر جاوزت المغنينــا
عندما انتهى الشاعر من هذه القصيدة، دوى التصفيق أرجاء المكان، واهتز الحسن الثاني من مكانه ضاحكا، ووقف على عجل لاستقبال الشاعر، ومصافحا إياه بحرارة كما لو أنه يود عناقه، كما تسلم منه القصائد مكتوبة والابتسامة لا تفارق وجهه، حيث بدا كأنه تلقى هدية لا تقاس بميزان، خاصة وأنه ظل جالسا على سجادته بالقصر الملكي في الرباط ضاحكا أمام الملأ.