الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

أردوغان هناك.. العثماني هنا

 
 
محمد الهرادي
 
 
لا تستغرق الرحلة بالطائرة من إسطنبول إلى إزمير سوى ساعة واحدة، ومع ذلك حين تنزل في مطار عدنان مندريس، وتجد نفسك محفوفا من كل جانب بزرقة وصفاء بحر إيجه، وبمدينة تكشف لك عن حيويتها ولطف ناسها وجمالها الداخلي، تكتشف أنك خدعت، أو ربما ضللت بأكذوبة حملتها معك من المغرب، وهي أكذوبة تحوّل "الحزب الديني" إلى "حزب مدني"، فـ"العدالة والتنمية" التركي هنا له مشروع تحقق على الأرض، لم يبدأ بالطبع من عدم، ولكنه حصيلة تحويل جذري في بنية ومهام الدولة العلمانية التي أسسها أتاتورك منذ أوائل العشرينات الماضية، وذلك بعد صراع وحروب دموية لا تخلو من أخطاء، ولا مقارنة بينها وبين ما يحدث هنا في المغرب، حيث "العدالة والتنمية" مجرد ظاهرة انتخابية، وحزب له "منهج" باطني يعتمده دون أن يكشف عن ملامحه، ولذلك تُحوِّله حربائيته السياسية إلى حزب بلا مشروع مجتمعي، وبلا برنامج أو خريطة عمل.
 
"العدالة والتنمية" التركي له مشروع تحقق على الأرض، ولا مقارنة بينه وبين ما يحدث هنا في المغرب، حيث "العدالة والتنمية" مجرد ظاهرة انتخابية تُحوِّله حربائيته السياسية إلى حزب بلا مشروع مجتمعي، وبلا برنامج أو خريطة عمل
 
مطار مندريس المشيد بمنظور وتصميم هندسي يمزج بين صلابة الفولاذ وشفافية الزجاج المفتوح على سماء وسحب خفيضة، سمي تيمنا بأول رئيس حكومة منتخب خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي هو عدنان مندريس، وطيلة عشر سنوات من حكمه، بنى مندريس عشرات السدود وفتح طرقا نحو القرى النائية ووزع الجرارات وبنى مصانع ومدارس، وحتى اليوم، ما زالت البنية التي أسسها وطورها مندريس هي القاعدة التي يعمل أردوغان على توسيعها وتنميتها، ولذلك، حين صوت الأتراك بفارق ضئيل لصالح التعديلات الدستورية التي تمنحه سلطات واسعة تقيه من غلو "الوطنية العسكرية" ذات الولاء لعلمانية أتاتورك، وتحد من الصراع المألوف في الأنظمة الديمقراطية بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان، زار أردوغان قبر مندريس تبركا به واستحضارا لتجربته ومصيره، ولا شك كان يستحضر المآل الذي لقيه مندريس حين انقلب عليه الجنرالات وأعدموه صحبة خيرة وزرائه، بحجة تشجيعه للميول الإسلامية وتهديده لثوابت الدولة. لا شيء يمنع الجيش من تكرار ما حدث مع مندريس، وهذا ما يفسر، إلى حد ما، ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في الصيف ما قبل الماضي، حملات أردوغان الشرسة ضد الخصوم الحقيقيين، والمحتملين.
 
التاريخ هنا يعيد نفسه مع مندريس ويتم استحضاره ونحن نقطع الحي الشاسع المسمى أيضا حي مندريس بدائرة بارباروس، على اسم القائد البحري الشهير، وعبر الطريق السيار رقم 500، لكنني حين أسأل إلكاي، المهندس الشاب ذي العينين الزرقاوين الذي كان يقود السيارة الرباعية نحو المركز عن رأيه في تصويت إزمير ضد التعديلات الدستورية، نظر إلي بنباهة وأحنى رأسه وابتسم، وغرق مع ابتسامته في صمت دال.
 
سألني إلكاي: كيف تجد تركيا؟
 
ــ ماذا أقول لك؟ تركيا اليوم هي نصف نصف، لا هي شرقية، ولا هي غربية، لا هي علمانية بالمطلق، ولا هي إسلامية بالكامل، مرة يصعد أتاتورك إلى السطح برمزيته، ومرة يصعد أردوغان بنزعته الوطنية المتعصبة ثم يختفي.. أو ربما هما معا مجتمعين فيها دفعة واحدة، ويتصارعان.
 
تركيا اليوم هي نصف نصف، لا هي شرقية، ولا هي غربية، لا هي علمانية بالمطلق، ولا هي إسلامية بالكامل، مرة يصعد أتاتورك إلى السطح برمزيته، ومرة يصعد أردوغان بنزعته الوطنية المتعصبة ثم يختفي
 
لا شيء يحجب تلك الخضرة الممتدة من حولنا ونحن نستكشف ضواحي إزمير قبل العودة إليها مساء لتناول ما لذ من فواكه البحر والراكي، أشجار الكروم تفيض عناقيدها على جنبات الطرق المرصوفة دون أن تتعرض للاغتصاب من طرف العابرين، وبساتين مزروعة بأشجار الزيتون واللوز والتين والشمام والبندق وغيره، أما الفلاحون بأقمصتهم النظيفة، والذين يشربون الشاي في المساء مع أطفالهم تحت عرائش بيوت مسقوفة بالقرميد، فإنهم يبدون كشخصيات خرجت توا من تلافيف رواية وردية، رومنتيكية. أسأل إلكاي الذي كان مستغرقا في سماع غناء تركي حزين ويترجم أحيانا بعض أشعاره المغناة:
 
ــ ماذا تقرأون هذه الأيام في إزمير؟
 
تكلم إلكاي عن روايات إيلاف شافاك وأورهان باموك التي تثير نقاشات جريئة حتى داخل البيوت التركية، لكنهما في رأيي اسمان مبتذلان، وحدثته من جهتي عن نديم غورسيل ويشار كمال وناظم حكمت، هذا الأخير الذي يحبه ويقدره البيبيسيون (الشيوعيون سابقا) عندنا، وانعطف الحديث إلى الموضوعين الأثيرين لديه: التاريخ العثماني، وأتاتورك، هذا الرجل المحارب الذي كان يحب سماع موسيقى تشايكوفسكي، وصوت زوجته ذات الشخصية القوية التي تم تطليقها، لطيفة هانم، وقد تم مؤخرا صدور كتاب يحكي سيرة حياتها ويعيد لها الاعتبار.
 
إذا كان أتاتورك يعشق تشايكوفسكي، فلدينا زعيم يساري كان يحب سماع موسيقى الجاز هو عبد الرحيم بوعبيد، وربما نقل عدوى الجاز إلى رئيس برلماننا الحبيب المالكي، لكن رئيس الحكومة العثماني لا يحب الموسيقى والغناء، ولم يستمع في حياته إلى مقطوعة جاز
 
قلت: إذا كان أتاتورك يعشق تشايكوفسكي، فلدينا في المغرب زعيم يساري كان يحب سماع موسيقى الجاز هو عبد الرحيم بوعبيد، وربما نقل عدوى الجاز إلى رئيس برلماننا الحالي الحبيب المالكي، لكن رئيس الحكومة العثماني لا يحب الموسيقى والغناء، ولم يستمع في حياته إلى مقطوعة جاز. هوايته الوحيدة بلا شك هي جمع الدرهم الأبيض لا غير، لكن الوحيد الذي يغني في حزب "العدالة والتنمية" المغربي بصوت مضحك هو عبد الإله بنكيران، وقد أتحف المغاربة ذات يوم بغناء مقطع صغير لأم كلثوم جلب له سخرية الناس. هكذا تتلخص الحياة لدى إسلاميي "العدالة والتنمية" في الاستمتاع بالنساء وفي الأكل والاستنجاء ومراكمة مداخيل الريع. تساءلت: وهل الحياة تساوي شيئا بدون موسيقى وسينما ومسرح وضحك على سخافات العالم؟. ابتسم إلكاي مع أن علامات اندهاش بادية عليه.
 
علمت فيما بعد أن كتاب "لطيفة هانم" أصبح نادرا في مكتبات المدينة بسبب ارتفاع الطلب عليه، وربما حدث الأمر نفسه في إسطنبول، لكن طيف لطيفة هانم، أو لطيفة أوشاكي، وهي ترتدي المعطف الأسود وتغطي رأسها بشال عوض الخمار التركي، كان حاضرا بشكل ما وأنا أخطو في شارع الجمهورية قرب الساعة الضخمة المجاورة لمبنى البلدية، وحيث ركب فنان شهير على واجهة المبنى المقابل لبحر إيجه صورة جانبية ضخمة لأتاتورك، ويوجد غيرها في كل مكان، وأينما وليت بناظريك.
 
كانت لطيفة أوشاكي أول امرأة تركية ولجت مبنى البرلمان الذي انعقد قبل الإعلان عن الجمهورية، وحيدة بين رجال شداد لهم شوارب معقوفة يعشش فيها الطير، تلك كانت علامتهم المميزة كمحاربين ووطنيين يخوضون حرب تحرير وحرب بناء أسس دولة حديثة، يضعون على رؤوسهم عمامات ضخمة، أو طرابيش و قبعات من لباد وصوف شبيهة بقبعة أتاتورك الشهيرة، وربما، حسب روايات موتورة، كانت الهانم محفزة لأتاتورك في إقرار مساواة الرجال بالنساء على مستوى الحقوق السياسية والمدنية، ومنها حق التصويت والترشح للانتخابات، وقتها كان الكشف عن وجه المرأة التي خرجت إلى الشارع من قوقعة العالم الحريمي ثورة حقيقية، وإلى الآن، ما زال زي لطيفة هانم، المتمثل في المانطو وفولار الرأس، هو زي معظم النساء من جيل ما بعد الحرب التركية اليونانية التي دامت أزيد من أربع سنوات، أعقبها تأسيس أتاتورك لدولته العلمانية.
 
حدث ذلك في أوائل العشرينات من القرن الماضي مباشرة بعد تحرير إزمير من قبضة الاحتلال، لكنك اليوم، وأنت نازل من ميدان نيسان في اتجاه الميناء وشارع الجمهورية العتيد، تركب قبل ذلك المصعد المجاني لتنزل حوالي مائة متر نحو أسفل الحيد البحري لتكتشف الأزقة التي عبرتها لطيفة هانم، عازفة البيانو، صحبة أتاتورك، تعبر زقاقا يذكرك بعوالم الشاعر ريتسوس اليوناني، لكنك عوض أن تجد الشعر تصادف تمثال داريو مورينو، هذا المغني الإيطالي رقيق الحاشية والشمائل الذي أحب إزمير وجعلها موطنا له وموضوعا لأشواقه، تماما كما أحب لورانس داريل مدينة الإسكندرية، أو ببساطة، كما يحب رجل امرأة لها شكل مدينة، تستمع إلى أغانيه الشبيهة بأغاني خوسيليتو، وتكتشف، وأنت تتحرى وتتساءل، أن أوربا ليست بعيدة، إن أقرب الجزر هنا تمنحك شعورا وأنت تتطلع إليها من خلل الضباب البحري أنك قبالة جزيرة النكور على مشارف أجدير قرب الحسيمة، وثمة شيء ما يعصر قلبك، وهناك أيضا عشرات الجزر الكبرى المنثورة على امتدادات بحر إيجه، والمحسوبة على منطقة شينغن، وهي تقع على بعد أميال بحرية قليلة أو على مرمي حجر، وجميعها تعرف حركة نقل بحري نشيطة مع المدن والمصايف الواقعة على خليج إزمير حيث يصيّف ويقضي أردوغان عطلته. هذا الأردوغان الذي لا شك يتأمل نفسه بالفعل، ويرى بالعين المباشرة، أنه يسبح ويأكل ويشرب على أطراف أوربا وعلى بعد خطوات من حدودها، بل في تماس مباشر معها من جهة بحر إيجه، وليت الأمر توقف عند ذلك، بل هو مجاور لسبع دول، ثلاث منها دول أوربية، وجزء من بلده حيث تقع إسطنبول على الدردنيل، يمتد على حافة القارة العجوز.
 
ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن ينكر البصمة التي يحفر أردوغان علاماتها في جسد تركيا الشاسعة المتعددة، مرة بنعومة ولين من خلال امتيازات المواطنة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، ومرة بقسوة مبالغ فيها إذا تعلق الأمر بالولاء للوطن وللحمته الداخلية، وحاله هنا كحالة " أب " متسلط، وثمة شبه إجماع على تنامي القوة الاقتصادية لتركيا بفعل تدابير حكومات وطنية النزعة ـ قادها حرب " العدالة والتنمية" التركي وأسس لها قبل صعود نجم الإسلاميين الأتراك رجال من طينة عدنان مندريس وتورغوت أوزال، لكن ذلك أيضا كان على حساب هوامش الحرية التي تتحرك داخلها صحافة متنوعة مؤثرة، وأحزاب معارضة قوية، متباينة الأهداف والأولويات، ومشدودة بحبال متينة إلى رمزها وملهمها مصطفى كمال ذي الخلفية العسكرية، أو لها بعد قومي جذري ومشاكس.
 
لكن وسط هذا التجاذب الذي يخلخل العمق التركي، ويفتح جبهات صدام وتطلعات مثيرة، صدر هذه السنة (2020) كتابان جديدان يجيبان عن أسئلة تثير اهتمام جميع الأتراك، وربما تحدد تطلعاتهم المستقبلية. الأول هو كتاب "الحنين إلى الامبراطورية: سياسة العثمانية الجديدة" الذي كتبه المناضل والمؤرخ هاكان ياووز، والثاني كتبه المؤرخ ألان ميخائيل، وهو متخصص معروف لدى الأوساط الأكاديمية الغربية بعنوان "ظل الله، السلطان سليم، امبراطوريته العثمانية وصناعة العالم الحديث".
 
هكذا تتلخص الحياة لدى إسلاميي "العدالة والتنمية" في الاستمتاع بالنساء وفي الأكل والاستنجاء ومراكمة مداخيل الريع. تساءلت: وهل الحياة تساوي شيئا بدون موسيقى وسينما ومسرح وضحك على سخافات العالم؟
 
وواضح أنه لا يمكن أن نفصل سلوك الأردوغانية الحالية، بكل ما تثيره من زوابع وتحديات، عن خلفيتها العثمانية المتأصلة، بهذا الصدد يثير تحليل ياكان ياووز أمورا هامة تغير نظرتنا لطبيعة ما يحدث في لحظة التقاطع التاريخي هذه، حيث تتم "أسلمة الماضي العثماني وعثمنة الإسلام بطريقة رومنسية" لدرجة "يمتزج فيها الدين بالتاريخ خلال عملية نقل المعرفة وطريقة الحياة للآخرين، ويمنح الأمل لما هو ممكن مستقبلا" في تركيا.
 
وإذن، لا تعكس هذه النظرة المختزلة إلا لمحة عن ما رآه زائر في لحظة فارقة، يكفيه أنه يجد في قولة " بضدها تعرف الأشياء " مفتاحا لفهم ما رآه واختبره، فالمقارنة بين حزبين وحركتين لهما نفس الاسم، ويتموقعان في النقيض عند المنطلق وفي لحظة الوصول إلى السلطة، لا معنى لها ولا أساس في الواقع، ولن يغامر بها إلا تحليل متهور.
 
ومع ذلك تكتشف وأنت تغادر هذه البلاد أنك لست مع الأردوغانية ولست ضدها، وأن من رأى ليس كمن سمع، وأن الأتراك المنقسمين إلى فريقين بعد الاستفتاء على دستورهم هم أدرى بطريقة معالجة مشاكلهم، وتكتشف أيضا أن رئيس الحكومة المغربية "العثماني" ليس من آل عثمان بالتأكيد، ولا يملك تطلعاتهم ولا واحدة من مزاياهم القتالية لصالح مبادئهم ومن أجل تحقيق أهدافهم، إنه مجرد "تيكيت" باهت لتحديد نوع السلعة التي وضعت داخل علبة انتخابات 7 أكتوبر المنسية، أما ما تحتويه العلبة ومن يلعب داخلها ومن يتكلم بلسانها فشيء آخر، يكفيه أنه مزيج من تلك الروحانية الكتومة التي يتميز بها فقهاء أهل سوس، مغطاة، وعلى حذر، بنوع من الاعتدال السياسي المداهن كما يتطلبه الوقت وكما يراد له أن يكون، وكل ذلك كي لا يحدث العطب الكبير في أسس وأركان البلاد. ولكن ذلك لا يكفي.