8 مارس.. مناسبة يلتفت فيها العالم إلى المرأة، بكثير من التقدير والامتنان، والاعتراف بدورها المحوري في صناعة المجتمعات، وإن كان هذا اليوم، يختزن في عمقه دلالات النضال النسائي في بداية القرن العشرين، حين انتفضت المرأة في وجه الحيف الذي حنَّطها في وعاء من النمطية القاتلة للفعل والإبداع.
8 مارس 1908.. أي قبل أربع سنوات من خضوع المغرب للحماية الفرنسية، خرجت آلاف النساء الأمريكيات ممن يعملن آنذاك في قطاع النسيج إلى شوارع نيويورك للاحتجاج على السياسة التميزية ضد المرأة، لم يكنَّ آنذاك يملكن سوى أصواتهن، وكسرة خبز يابس في يد ووردة في اليد الأخرى.. هدفهن الأسمى تخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق التصويت في الانتخابات...
هكذا تشكل الوعي النضالي النسائي هناك، لتَخرج من "ثورة الخبز والورد" هاته، حركة نسائية نشيطة في بلاد العم سام، واكبها دعم نساء الطبقة المتوسطة، ليرتفع النقاش من تخفيض ساعات العمل وحق الاقتراع إلى المطالبة بالإنصاف والمساواة وعدد من الحقوق السياسية، أبرزها الحق في الانتخاب...
وعبر هذا التاريخ، تحوّل يوم 8 مارس من محطة نضالية إلى أخرى لتكريم المرأة الأمريكية، كنوع من الاعتراف بشجاعتها في الخروج إلى العلن بحس نضالي للمطالبة بحقوقها المشروعة.. فانتقلت العدوى، شيئا فشيئا، ليصبح الاحتفال كونيا، خاصة بعد الاعتراف رسميا بهذا اليوم من قبل منظمة الأمم المتحدة سنة 1977.
وبعيدا عن تفاصيل وحكايات ومعاناة هذا التاريخ، وبالرغم من ابتداع هذا اليوم المطل على فصل الربيع، والمفعم بخصوبة العبارات التي تمجد المرأة، والحابل بكل تلاوين المديح والإطراء في حقها، إلا أن الاحتفال في حد ذاته، بشكل موسمي، مناسباتي، فيه كثير من الإجحاف في حق هذا الكائن الرائع الذي خلقه الله، كمصدر للألفة والعطف، ومنبع للسعادة التي يشقى كثيرون من أجل نيلها في أرض الله الواسعة.
فالمرأة لا تحتاج إلى يوم رمزي لتكريمها، وليست في حاجة إلى تحنيطها في تاريخ معين، حتى يقول العالم إن لها كذا وكذا مميزات.. إنها في حاجة إلى تكريم يومي، واحتفال متواصل، واعتراف دائم بلمستها الساحرة في حياة الأفراد والمجتمعات.. إنها للأسف، رغم هذا اليوم المغلف بحمرة الورود، ما تزال أسيرة لعقلية ذكورية، ترى في المرأة جسدا بلا روح، وكثلة لحم بلا قلب، ووعاء لتفريخ البشر.. فقط ثمة قليلون، يعرفون أن هذا الكائن الجميل، هو صنع الله الفريد في الأرض، أو كما قال أحد العلماء المتنورين، هي منتهى الخلق الإلهي...
في المجتمعات العربية التي تتنفس التخلف في أعلى درجاته، بغض النظر عن بعض الاستثناءات التي لا تشكل قاعدة أو فارقا، ظلت المرأة في نظر الرجل العربي على امتداد العصور، حرمة وعورة لا غير، ووعاءً لإنتاج اللذة لا أقل ولا أكثر، وفي أقصى الحالات، لا تعدوا أن تكون عنده مجرد فاكهة قابلة للعصر في المساء، وآلة لتحسين صورة الرجل في النهار...
أما في المغرب السعيد، ففيه شيء من هذا التصور "الإيروتيكي"، وإن كانت المرأة قد تفوقت في كثير من المجالات على شقيقها الرجل، حتى أنها لم تترك مجالا إلا وصبغته بلمستها الأنثوية، بنوع من التميز والكفاءة والجدارة والاستحقاق.. غير أن بعض العقليات السائدة عندنا، خاصة تلك الغارقة في الظلامية والأخرى المتأثرة بفتاوى "ما تحت الحزام"، لا ترى تطور الأداء المذهل للمرأة بعين الرضا والامتنان، ولا تنظر إلى اقتحام المرأة هكذا مجالات بنوع من الاعتراف بمساهمتها في تنمية البلاد، لذلك، تجدهم لا يعيرون أي اهتمام لها ولا لدورها أو مكانتها في المجتمع، فتراهم يبالغون في توصيفها بنعوت حاطة من كرامتها وذاتيتها وكينونتها كإنسان، في البيت، الشارع، مقر العمل، والأكثر من ذلك في التداول العام.. فأي رجل هذا الذي يُصر في عصرنا الحالي على قول "لمرا حاشاك"، وهي التي وضعته من عمق الألم، وآنسته بالأخت، وآزرته بالعمات والخالات، وأهلته ليكون في صحبة الزميلة والصديقة، ووضعته حين اشتد عوده بين أحضان الزوجة، قبل أن تشد على يديه حين رُزق بالبنت والولد؟ أي معدن هذا الذي يجعل رجلا يعتبر ضرب المرأة صقلا للرجولة، وفي اعتقاده أنه يروض حصانا جامحا عصيا على الضبط؟ أي رجل هذا الذي يجرد المرأة من آدميتها حينما ينمطها في ظرف مكاني لإنتاج المتعة؟
إن تشييء المرأة، ينم عن قصور فكري للعقلية الذكورية السائدة. وهذا التصور للأسف يكرسه قصور عند بعض النساء أنفسهن اللواتي يرين في التنميط والتشييء "غيرة" واهتماما من الرجل، ويشجعه أيضا، سكوت القيمين الذين يظهرون دائما في صورة طبيب، "يُقطر" جرعات من الحقوق لـ"الذات النسائية" في البلاد..
لكل هذه الأسباب، أرى أن يوما واحدا كوعاء زمني، لا يمكنه أن يحف المرأة في عيدها الموسمي، ولا يعطيها تلك القيمة التي تستحقها في مجتمع يحتفظ لها بلمستها الأنثوية الفريدة، ولا يمكنه أن يستوعب كل أنواع المديح والإطراء والمجاملات الوقتية لكيانها الرائع.. ومع ذلك، سأقول بقليل من الأسف، إن رقم 8 يليق بك، على الأقل هو انتصار باذخ للمرأة التي تسكننا، للأم والأخت والزوجة والجارة والصديقة والزميلة والفاعلة في المجتمع.. فكل عيد والمرأة بخير، وإن كانت تستحق أعيادا بعدد الأيام التي نعيشها معا.