تقديم أحمد الحجامي لمذكرات يساري مغربي: شيء من فكري ومن مروءةٍ وإنسانيةٍ ورفاقيةٍ لجيل أحلام كبيرة
الكاتب :
"الغد 24"
أحمد الحجامي
بداية، لابد من توجيه التحية إلى هذا الرجل الذي أتحفنا بهذا السفر الزاخر بالحياة؛ حياته هو وحياة العشرات والمئات من المناضلين الذين التقى بهم على درب النضال الطويل والمتواصل منذ ستين عاما... هذا والمؤلف لم تكن الكتابة أحد انشغالاته في حياته النضالية كلها. فكري كانت مهمته الأساس معالجة كتابات رفاقه في الحزب أو في النقابة طباعة وإخراجا. عمل في ذلك مع الحبيب الفرقاني أوائل الستينيات وطبع بيانات ووثائق الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالرباط أواخر الستينيات، وتفرغ مع منظمة 23 مارس ابتداء من السبعينيات لطباعة النشرات السرية وآلاف المناشير على الآلة الكاتبة أوليڤيتي التي اشتراها بعشق كما تشترى هدية العيد، رفقة القيادي رشيد فكاك. وعندما اعتقل في 1974 كانت "حبيبته" أوليڤيتي قد سبقته إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف لتكون شاهد إثبات ضده. ومن ثمة فهذا الكتاب لا يعتمد على الصنعة والتنميق واختيار الألفاظ الرنانة والعبارات الموشاة بقدر ما هو بوح مباشر وفياض.
"مذكرات يساري مغربي" لمؤلفه محمد فكري، كتاب يضم بين دفتيه كنزا ثمينا قلّما حظينا بمثله في هذا النوع من التأليف. عبر سيرته الذاتية التي تبدأ قبيل الاستقلال؛ نسافر مع هذا "الزغبي المنحوس" في تضاريس الوطن. كلمة السر: الحرية؛ بها تبدأ الرحلة وبها تنتهي. ولعل اختياره لبطل هو الزغبي المنحوس، كمتحدث بالنيابة عنه، غير بعيد عن عشق فكري للحرية وهيامه بها منذ نعومة أظفاره. فمع الزغبي المنحوس يحس فكري بأنه حر في تصرفاته و"مغامراته"؛ إنه شيطانه الذي يسبقه إلى اقتحام أدغال الحياة وإنقاذه من المطبات، تماما كما كان شياطين الشعراء قديما يلهمونهم الشعر ويتحملون عنهم أوزار ما يقولون..
"الزغبي المنحوس" هو أبو الفتح الإسكندري أو الحارث بن همام في أدب المقامات، أو هو مثل أبطال القصص المصورة Bande dessinée في انتصارهم للمظلومين والمقهورين والمستضعفين.. الزغبي المنحوس هو "حنظلة" فكري في سعيه ونضاله من أجل الحق والعدل. وهل كان باستطاعة فكري لـ"وحده"، دون حنظلته، أن يشغب، مع شباب الرابطة الفكرية، على المسؤول الحزبي والمناضل الكبير الحبيب الفرقاني في انتقادهم للحزب؟!
الأستاذ والتلميذ: سيدي أحمد الحجامي ترك المشعل في جريدة أنوال لسعيد البعقيلي
منذ نعومة أظفاره، بدأ محمد فكري تمرينه الأول على الحرية. فقام بـ"ثورته الثقافية" الأولى على الأسرة والدين والتقاليد ولما يبلغ العاشرة؛ أي قبل ظهور أفكار ثورة ماي 68 في فرنسا على النظام البطريركي ومحاولة الصعود إلى عنان السماء. كان ذلك إبان نفي محمد الخامس، وذلك برفض الأسلوب القمعي للفقيه و"تواطؤ" الوالد مع هذا الفقيه في إطار التحالف المقدس بينهما حسب ميثاق "أنت تذبح وأنا أسلخ"..! فكان الهروب الأول من مقام الأسرة في زعير إلى أرض الأجداد والأخوال في الصحراء حيث شساعة فضاء الحرية ورحابة التقاليد وسعة "الخاطر" رغم ثقل حضور الاستعمار وأذنابه في كل مكان سواء في الشمال أو في الجنوب.. لكن بعض الشر أهون من بعض. تزامنا مع عودة محمد الخامس يعود الزغبي إلى أحضان والدته وكنف والده في زعير من جديد. ومن جديد أيضا، يثور ثورته الثانية على الروتين وضيق الأفق وشبح المستقبل الظلامي الذي يتم إعداده له، أي فقيه كحد أقصى.. يكتب الأحجبة ويقرأ القرآن في المآتم ويحضر "الزرود". وحتى لو ذهب بعيدا في "العلم" فأقصى جهده أن يصير شيخا من هؤلاء الشيوخ الذين يملأون الفضاءات السمعية البصرية والمكتوبة ويبيعون للناس مواد منتهية الصلاحية؛ وهو في انتظار ذلك، محكوم عليه بأن " يطلع ويهبط في السلكة " في عبث سيزيفي ممل..
"ثورة" فكري الثانية، أو هروبه الثاني من بيت الأسرة إلى المجهول، تتم في ظروف أنضج؛ القرآن الآن محفوظ في الصدر بشكل لا رجعة فيه، وفي الدماغ بجانبه أشياء أخرى، أو بالأحرى "علوم" ومدارك أخرى ليس الفقيه مصدرها، بل الراديو الذي اشتراه الوالد لمتابعة الاحتفالات برجوع محمد بن يوسف إلى عرشه يصدح به صوت محمد بنددوش الهادر.. ولكن الابن التواق إلى عوالم أرحب سيجني من الراديو فوائد أخرى لا تقدر بثمن. فأزرار الراديو تحيل على "هنا لندن" و"صوت العرب" في القاهرة.. وينكشف الغطاء عن عوالم ودول وأحداث وماجريات وشخصيات أين منها عاد وثمود وفرعون وهامان وذو القرنين.. وماهي زعير؟ وحتى آيت وابلي وآقا؟
قال له شيطانه، أي "الزغبي المنحوس"، وقد قرر الهروب ثانية، أن وجهته هذه المرة إلى أم الدنيا مصر القاهرة للدراسة في الأزهر. لكن الحافلة المهترئة لن تذهب به أبعد من تمنار ومدرستها التي ستسلمه بدورها إلى كلية بن يوسف في مراكش بعد أن زودته بذخيرتها من علوم الأجرومية والألفية وابن عاشر والشيخ خليل والبخاري ليستعين بها على زاده الأصلي، القرآن. لكن إلى جانب القرآن وعلومه، أمامنا الآن شخص مكتمل الرجولة رغم صغر سنه. شخص حر، متحرر من كل القيود التي تعيق تحركه في الحياة التي اختارها أو أتيحت له، متحرر من الارتباطات الأسرية ومتخفف حتى من تلك الارتباطات المادية البسيطة المباشرة التي تجسدها النقود. ففكري ربما أحد القلائل الذي لم تعن له النقود شيئا منذ ذلك الزمن البعيد والى يومنا هذا. فرأسماله الوحيد، كما قال، هو فلذتا كبده سناء وزينب. وإنه لأمر غير بسيط أن تتحرر من الملكية، هذه الآفة، هذه الجائحة التي دشنت بها الإنسانية منذ فجر التاريخ بداية الغنى والفقر، وبداية صراع لا ينتهي بين من يملك ومن لا يملك.
يلتقي فكري بالسياسة في أول منعرج بعدما كان قد استأنس بها في ما مضى سواء من خلال جريدة الشعب التي كان يصدرها الشيخ المكي الناصري، أو من خلال جريدتي السعادة والوداد المقربتين من الإقامة العامة وما كان ينشر بهما من أخبار "الإرهاب" كناية عن العمليات الفدائية ضد رموز الاستعمار، أو من خلال الراديو حينما تعرف على عبد الناصر ونهرو وتيتو وباندونغ.. وسمع بموسكو وبيكين وهاڤانا.. يلتقي الآن بالسياسة وجها لوجه وفي عز عنفوانها ومن مصادرها، وينسج الصلات والعلاقات شيئا فشيئا مع رموزها وصانعيها.. يتعرف فكري على السياسة في السوق وهو بعد طالب في تمنار. تجمع لحزب الاستقلال يخطب فيه مسؤول الحزب بأگادير محمد الباعمراني، ثم يتحول التجمع إلى شجار وصدام وسباب بين متخاصمين فهم منه أنه ربما صراع بين العرب والشلوح على خلفية التناقض داخل حزب الاستقلال بين جناحين، يميني محافظ ويساري تقدمي تمخض عنه انتظام أنصار الجناح اليساري في إطار أطلقوا عليه اسم "الجماعات المتحدة لحزب الاستقلال"، الذي سيفضي في يناير 1959 إلى الانشقاق عن حزب الاستقلال وتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحت شعار "لا حزبية بعد اليوم"! ويجد فكري نفسه بـ"قوة الأشياء" في قلب هذا الغليان؛ ومن ثمة من أوائل الملتحقين بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وهج السياسة والنقابة لفحه في كلية ابن يوسف أيضا في شكل الهرج والمرج والخطب الحماسية التي كان يتردد صداها في جنبات تلك الجامعة مطالبة بتحقيق الإصلاح ومعادلة الشهادات وتعبئة الطلاب حول الشعارات التي يرفعونها بذلك. ومن بين أولئك الخطباء الفصحاء المصاقع كان هناك شاب تخرج لتوه من جامعة بن يوسف اسمه امحمد الخليفة.
وعندما ستجره قدماه إلى مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش أواخر سنة 1959 أو بداية 1960، سيكون ذلك إيذانا بدخول محمد فكري ساحة النضال السياسي التقدمي من أوسع أبوابه؛ حيث سيخوض مع الاتحاد كل المعارك التي جرت في تلك الفترة من مقاطعة الاستفتاء على دستور 1962، إلى الانتخابات التشريعية الأولى سنة 1963.. سيحضر المؤتمر الثاني للاتحاد سنة 1962 مندوبا عن إحدى مقاطعات مدينة مراكش وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، وسيجد نفسه في قلب الصراع بين أنصار التقرير المذهبي لعبد الله إبراهيم وأنصار الاختيار الثوري للمهدي بنبركة، دون وعي منه بفحوى هذا الصراع وملابساته؛ ولكنه سيغتني بالاحتكاك مع عدد من شباب الحزب ونشطائه بمناسبة هذا المؤتمر من أمثال مصطفى القرشاوي، محمد الباهي، عبد الله بومهدي، محمد علي الهواري، محمد الفاروقي، محمد الحداوي، حسن عمر العلوي.. كما سيحضر جلسات أول برلمان للمغرب بعد انتخابات 1963 والذي سطع فيه نجم محمد التبر وعبد اللطيف بنجلون وعبد الواحد الراضي وعبد الحميد القاسمي إبان ملتمس الرقابة، وسيحضر جلسات محاكمة 1964 التي حكم فيها بالإعدام على محمد البصري وعمر بنجلون ومومن الديوري، وكذا جلسات محاكمة جماعة شيخ العرب بمراكش حينما كُلف مع مصطفى فنيتير وإبراهيم موطى من طرف الحبيب الفرقاني، مدير جريدة المحرر وقتها، بتغطية وقائعها رغم المنع والتفتيش في الدخول والخروج، فكان يحفظ الوقائع والمرافعات عن ظهر قلب ليقوم مع إبراهيم موطى بعد ذلك بـ"التفريغ" والتحرير..
بمقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيتأسس كامل رصيده النضالي، تتراكم التجارب وتترسخ القناعات وتبنى العلاقات بالمناضلين الأشداء من كل الأحجام ومن كل القامات ومن كل الأعمار ومن كل التلاوين والأطياف والتوجهات الفكرية والسياسية والنقابية والثقافية... ومن هنا فإن هذه المذكرات بما هي سيرة المناضل محمد فكري، هي في نفس الآن شهادة حية على عدد كبير من الرجال المعروفين والمغمورين الذين تركوا بصماتهم على صفحات تاريخ المغرب الحديث دما وعرقا وأعصابا وتضحيات جساما، من عبد الله إبراهيم إلى محمد البصري وعبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد، ومن لحسن زغلول إلى محمد أطلس وعبد الرحيم أونس، ومن عبد النبي بلعادل والمهدي الورزازي والحبيب الفرقاني إلى أحمد الخراص وأحمد الطالبي بن مسعود وأحمد بنعبد الغني والحنفي المنتصر... وغيرهم ممن سيلتقي بهم القراء في ثنايا هذا الكتاب. فعبد الله إبراهيم مثلا بالنسبة لفكري، ليس فقط تلك الشخصية الرمزية التي لا يذكرها المغاربة إلا ويتحسرون على ما جرى لهذا المغرب وما ارتكب في حقه من الكبائر.. وإنما عبد الله إبراهيم المناضل البسيط المتواضع الذي يخف فكري مع ثلة من رفاقه إلى بيت أسرة الزعيم الكبير بأحد أحياء مراكش لتقديم التعازي في وفاة والده عندما وافته المنية. ولحسن زغلول، الذي تعرفت عليه أنا في الجزائر سنة 1971، وكنت فخورا باشتغالي معه، باعتباره قيدوم اللاجئين المغاربة وأحد قدماء المقاومة وجيش التحرير، في إصدار نشرة التضامن لدعم المعتقلين في محاكمة مراكش الكبرى، وفي انضمامه لاحقا إلى تنظيم "23 مارس"، لم أكن أعرف أن فكري الذي هو في مثل سني، اشتغل قبل عشر سنوات مع لحسن زغلول عندما كان مسؤولا عن حزب القوات الشعبية بمراكش وكان يكلفه ببعض المهام الحساسة وقتها.. ولا ننس علاقة فكري بالحزب الشيوعي المغربي سواء على مستوى مناضليه بمراكش مثل عبد الله الستوكي ومحمد المعطاوي.. أو مع الزعيم علي يعتة نفسه عن طريق المراسلة، وقد كان فكري معجبا بفصاحته وحسن إلقائه، وبدأ يراسل جريدة الكفاح الوطني عن أوضاع ومشاكل الفقراء والمحرومين حتى أن بعض "أصحاب الحسنات" ذهبوا إلى حد "اتهامه" بأنه شيوعي مندس في الاتحاد.
والجميل في كل هذا، والجدير بالتسجيل، أن علاقة فكري بأولئك المناضلين لم تنقطع لا بسبب القمع ولا بفعل نوائب الدهر ولا بفعل تفرق السبل بالناس وتغير الانتماءات واعتناق الإيديولوجيات.. فعلاقاته مستمرة إلى الآن مع عدد من الذين ما زالوا على قيد الحياة أو من ذوي من فارقوا الحياة ممن كانت تربطه بهم علاقات النضال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهذه فضيلة يغبط عليها.
الانتقال إلى اليسار سيتم بشكل سلس، وبشكل طبيعي تقريبا، بالنسبة لفكري وبالنسبة لشباب الرابطة الفكرية وحتى بالنسبة لعدد من المناضلين الحرفيين الذين كانوا أكثر توقا إلى الانخراط في ممارسات أكثر ثورية، خاصة بعد أن جاءت سنة 1965 بتطورات زادت من تعميق الشرخ بين النظام والجماهير الشعبية من جهة، وبينه وبين الحركة التقدمية من جهة أخرى، بعد القمع الدموي لانتفاضة 23 مارس العفوية، وبعد اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بنبركة، فضلا عن وجود عدد من قادة الاتحاد وراء القضبان وسيف الإعدام على رقاب البعض منهم، ووجود عدد آخر منهم في المنافي، والباقي يرزح تحت سطوة المنع والتكميم وثقل الآلة القمعية. حاول الاتحاد الجواب على الوضعية بترميم الحزب وإعادة البناء فأصدر "المذكرة التنظيمية"، التي صاغها الشهيد عمر بنجلون وهو في وضع من لا يخرج من السجن إلا ليعود إليه. لكن المذكرة لم تجد طريقها إلى التطبيق، خاصة عندما وقع الحزب في الجمود التام خلال فترة القيادة الثلاثية (عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق) بعد هزيمة يونيو 1967.. كانت تلك فترة حرجة ومنعرجا خطيرا يمر منه المغرب.. بدأ عدد من المناضلين وعدد من القادة التاريخيين، حتى قبل هذه الفترة، وربما مباشرة بعد ضربة 16 يوليوز 1963، تحت ثقل المسؤولية التاريخية، يبحثون عن المخارج الممكنة وعن السبل الكفيلة بوضع حد للانزلاق. لجأ الفقيه البصري إلى الجزائر مباشرة بعد خروجه من السجن في 1965 لنفخ الروح في التنظيم السري واستئناف المشروع "الثوري" حيث تركه شيخ العرب. واتجه عدد من الشباب من مواقع مختلفة إلى التفكير في حل بعيد المدى لهذا التناقض الحاد بين الشعب من جهة والنظام القائم من جهة أخرى بوضع التناقض في إطاره الصحيح من الصراع الطبقي بارتباط مع النضال القومي ضد الصهيونية والنضال ضد الإمبريالية على المستوى الأممي.. بمعنى الانخراط في الصيرورة التاريخية للنضال التقدمي العالمي وتبني إيديولوجية الاشتراكية العلمية، أي الماركسية اللينينية، دون لف أو دوران.
شهادة فكري عن ميلاد اليسار مهمة لأنها لا تكتفي بتقديم العوامل المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة لهذا الميلاد فحسب، بل وتثبت شجرة أنساب هذا المولود، هذا اليسار الجديد؛ فالمراحل يُسلم بعضها لبعض بشكل عياني وملموس وكذلك الأجيال، فشباب الرابطة الفكرية: المصطفى فنيتير، علال الأزهر، الحنفي المنتصر، إبراهيم موطى، عبد الواحد بلكبير، عبد الصمد بلكبير، محمد الحبيب طالب، محمد المريني، محمد فكري، مبارك المتوكل، أحمد طليمات، محمد جاري... وغيرهم، كانوا في احتكاك مستمر مع المناضلين الحرفيين كعبد العزيز إسعاد ومولاي أحمد بوقال، وعلى اتصال بعدد من المناضلين القدامى الذين كانوا يبحثون عن "المعقول"، فضلا عن القادة التاريخيين لحزب الاتحاد بمراكش والنواحي.. كان هناك نوع من "كلمة السر" يرثها جيل عن جيل. وعقيدة النضال تتداولها الأسرة الواحدة من الأب إلى الابن كما في حالة الحاج محمد بن قدور المنبهي وأبنائه عزيز وحسن وعلال الأزهر، أو الأخ إلى إخوته كما في حالة أحمد طليمات وإخوته جميعا، على سبيل المثال فقط. هكذا يوثق فكري لتأسيس اليسار الجديد في مراكش وينسب للحنفي المنتصر الإدريسي كاريزما استثنائية ودورا تربويا تثقيفيا أخلاقيا عاليا، كما ينسب لمحمد حبيب طالب دورا فكريا مميزا في المجموعة خاصة بعد عودته من سوريا بزاد سياسي فكري استقاه من احتكاكه المباشر بعدد من أقطاب الفكر القومي اليساري ومن قراءته لأدبياتهم وفي مقدمتهم ياسين الحافظ وإلياس مرقص، فضلا عن إلمامه الكبير بالفكر الماركسي.
محمد فكري يتوسط محمد السمهاري وأحمد نشاطي
في نفس هذه الفترة، أواسط الستينيات، سيحدث تطور مماثل لدى مجموعة من شباب الحزب بالدارالبيضاء، تحلقوا حول جمعية مماثلة للرابطة الفكرية بل توأم لها هي جمعية "نادي الوعي الثقافي"، التي يمكن اعتبار عبد الغني أبو العزم صلة الوصل بين الجمعيتين، وقد استقطبت هي الأخرى في صفوفها نخبة من شباب المدينة يستهويهم التعارف والحوار وتبادل الرأي حول الشأن العام بمعناه الواسع؛ وقد عرفت ساحات النضال عددا من هؤلاء الشباب في فترات مختلفة منهم على سبيل المثال: محمد كرم، لحسن مختبر، عبد الله الدباغي، حسن السلمي، محمد مغلي، محمد صبري (النقابي الراحل)، محمد الصبري (المحامي الراحل)، حسين كوار، مصطفى مسداد، محمد السمهاري... وكان جل هؤلاء مناضلين في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبالأخص الثلاثة الأخيرين الذين جعلوا من المقاطعة 11 بدرب الشرفاء، التي تشرفت بتسيير مكتبها نهاية الستينيات، معقلا لنشاطهم، في تنسيق مكثف مع المقاطعة الأولى التي كانت بدورها معقلا للمناضل الشهيد زكريا العبدي وعدد من رفاقه.
بعد هزيمة يونيو 1967 وتداعياتها، ستبدأ التوجهات اليسارية بالبروز، كما يذكر محمد فكري في كتابه، داخل الأوساط الطلابية وبمناسبة مؤتمرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، خاصة المؤتمرين 12 و13 بخصوص صياغة مقرر فلسطين أو المقرر العربي.. وهكذا ستتشكل الحلقة الماركسية الأولى من ممثلي مجموعتي مراكش والدارالبيضاء أطلق عليها في بعض المنابر مجموعة فاس لأسباب عارضة وظرفية، لأن بعض عناصرها كانوا يتابعون دراستهم وقتها بكلية فاس، ويتشكل عمودها الفقري من محمد حبيب طالب ومحمد المريني والحسين كوار ومصطفى مسداد ومحمد حمامة بوعبيد، الوحيد في الحلقة الآتي من حزب التحرر والاشتراكية الذي غادره سنة 1968 لعدم اتفاقه مع مواقف الحزب عامة وموقفه من القضية الفلسطينية خاصة، وهذا قبل مشروع روجرز في يونيو 1970، وقبل انشقاق المجموعة التي شكلت "إلى الأمام"، في غشت من نفس السنة.
باستقلال عن ذلك، وفي نفس الاتجاه، ستتشكل حلقات أخرى أو بالأحرى حلقتان: حلقة أحمد حرزني وحلقة سيون أسيدون، اللتان تتبنيان "الماركسية اللينينية - أفكار ماو تسي تونغ" والمتأثرتان بثورة الطلاب في ماي 1968 بفرنسا.
في مارس 1970 ستندمج هذه الحلقات الثلاث في ما بينها لتشكل أول منظمة ماركسية لينينية في المغرب هي منظمة (ب) أو "23 مارس". وتشكل "هيئة قيادة" لتدبير هذا الاندماج ووضع أسس العمل السري الثوري في المغرب. تشكلت هيئة القيادة من: أحمد حرزني، محمد البردوزي، سيون أسيدون، محمد حبيب طالب وبوعبيد حمامة.
مع هذه القيادة، سيدشن فكري مسيرة نضالية جديدة بمدينة الدارالبيضاء تمتد من ربيع 1970 إلى خريف 1974. وهي فترة من أخصب الفترات وأغناها وأدقها على الإطلاق. فيها سيشحذ اليسار أسلحته ويجرب في الساحة أدواته النظرية والعملية، فيها ستصاغ البرامج وترسم التكتيكات وترفع الشعارات والشعارات المضادة، "خط الجماهير"، و"لنبن الحزب الثوري تحت نيران العدو"، "المرحلة الداخلية" و"خطة العمل"، "لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة"... في هذه الفترة شاع تداول عدد من المصطلحات والمفاهيم، "العمل مع الجماهير" يكون في النقابات والهيئات المنظمة أو خارجها؟، الثورة الوطنية الديمقراطية، الإصلاحية، البلانكية، العنف الثوري... إلخ. في هذه الفترة اكتسحت الماركسية الجامعة المغربية والمدارس الثانوية واستأنفت الحركة التلاميذية كامل زخمها بعد جمود دام سنوات منذ منع الحكم الوداديات منتصف الستينيات، وتحركت البادية بدورها في انتفاضات مشهورة بأولاد خليفة في الغرب وتاسلطانت في الجنوب، وانطلقت عدة قطاعات جماهيرية في تأسيس أو إعادة تأسيس نقاباتها كنقابة البريد والنقابة الوطنية للتعليم. في هذه الفترة أيضا اهتز النظام اهتزازا قويا تحت تأثير المحاولتين الانقلابيتين وأحداث 3 مارس 1973 بگلميمة وأولاد بوعزة. في هذه الفترة أيضا تطفو على السطح قضية الصحراء بعد أن توارت إلى الخلف سنين طويلة منذ طي صفحة وزارة الصحراء وموريتانيا والتطبيع شيئا فشيئا مع هذه الأخيرة بعد تسليم فرنسا استقلال موريتانيا على طبق من ذهب إلى المختار ولد دادة. ستعيد قضية الصحراء خلط الأوراق كلها فتنزل بردا وسلاما على النظام وتشكل نذير شؤم على اليسار الذي سيغتر جزء منه بالسراب الثوري في الصحراء وسيجر الحركة الثورية كلها إلى الدمار. هذه العوامل مجتمعة ومعها عوامل أخرى أقل أهمية هي التي ستنتج مغرب "السكتة القلبية"، ومغرب الآمال والتطلعات، ومغرب الأوجاع والمخاضات التي نعيش اليوم في خضمّها.
في هذه الفترة سيعطي فكري أحسن ما عنده وسيمارس حريته وإبداعه الثوري وسيشترك في الحلو والمر والسراء والضراء مع ثلة من المناضلين الأفذاذ الذين تفرغوا للثورة وضحوا من أجل حاضر ومستقبل الوطن بالغالي والنفيس. سيحتك بهم واحدا واحدا خلال فترات الحراك الثوري وخلال فترات الراحة والاستجمام، في أمور الجد وفي أمور الهزل، وهي وضعيات وأحوال إنسانية شبيهة بوضعيات وأحوال الحرب والقتال تصفي أخلاق المناضلين وتطهر دواخلهم وتفرز معادنهم وتبرز الإيجابيات والسلبيات. وما رشح في ضمير فكري عن علاقته بعشرات الرفاق خلال هذه الفترة نلتقي بنماذج منها في ثنايا الكتاب نستشف منها احتفاظه بذكريات راقية في إنسانيتها ورهافتها عن عدد منهم أمثال عبد السلام المودن ومحمد تيريدا ومحمد حمامة بوعبيد ومحمد الكرفاتي ورشيد فكاك وإبراهيم ياسين ومصطفى مسداد ومحمد السمهاري على سبيل المثال لا الحصر.
في 2 نوفمبر 1974 سيتوقف القطار في المحطة الأخيرة من هذه المرحلة؛ فينزل فكري من القطار مع عشرات من رفاقه في منظمة 23 مارس ومنظمة إلى الأمام، ليستقبلهم معتقل درب مولاي الشريف السري. لقد كان توقفا اضطراريا ما في ذلك شك بالنظر إلى الوضع الذاتي للمنظمة وإلى أخطاء التوجه اليسراوي المندفع. الضائقة المادية لمنظمة 23 مارس بالخصوص لعبت دورا حاسما، والأسباب المباشرة للاعتقال لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير أو القطرة التي أفاضت الكأس؛ وهكذا نرى بالملموس كيف تتحول المعضلات المالية والتقنية إلى أمور من صميم السياسة؛ وإلا فبماذا يمكن تفسير عدم تغيير المقرات بشكل مستمر كما تقتضيه تعاليم ودروس التجارب الثورية ومستلزمات الاحتياطات الأمنية؟ وبماذا نفسر الإقامة في نفس المقرات رغم بدء الاعتقالات ورغم مرور أكثر من أسبوع على اعتقال أحد المسؤولين؟ ولماذا الاستسلام إلى مخاطر الاعتقال باستعمال وسائل نقل مسروقة؟.. وهكذا تتأكد للمرة الألف صدقية الحديث "كاد الفقر أن يكون كفرا"، في حالة الاعتقالات في صفوف منظمة 23 مارس على الخصوص أواخر سنة 1974.
بعد تسجيل هذه الملحوظة، يمكن القول إن الصفحات التي تتناول فترة الاعتقال هي من أجمل صفحات الكتاب من زاوية تحويل معاناة الاعتقال ومرارته إلى درس رفيع في قيم الأخوة الإنسانية والرفاقية المتعالية على السفاسف ومراتب الوضاعة والانحطاط التي يمكن أن نتخيل نزول بعض النماذج البشرية إليها وفي مقدمتها نموذج الجلاد سواء كان عنصرا مباشرا في التعذيب والاستنطاق والمعاملة اللاإنسانية أو "عقلا" موجها ومحركا من وراء حجاب. أما "ظلم ذوي القربى" والمسلكيات اللانضالية والمفتقرة إلى النضج والمسيئة لمرتكبيها قبل غيرهم.. فقد ضرب عنها فكري صفحا بينما رأى من المروءة أن يفرد في مذكراته حيزا للإشادة بخصال رفاق من طينة محمد الكرفاتي والمشتري بلعباس وغيرهما.
هذه إشارات فقط ارتأينا أن نتقدم بها بين يدي هذا الكتاب.. ومع أن هذه المذكرات لا تحتاج أصلا إلى تقديم، فإذا بها تُزَفّ في ثلاثة تقديمات حركتها بالأساس مشاعر الاحتفال بإنجاز رفيقنا محمد فكري لهذه المعلمة التي هي فضاء مشترك بيننا جميعا، أكثر مما استوجبتها دواعي كلاسيكية لتقديم إصدار جديد...