الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

على هامش الجدل الأخير حول "العقوبة المقيتة".. كيف صرت مناهضا لحكم الإعدام

 
حمه االهمامي
 
حمه االهمامي، الأمين العام لحزب العمال التونسي، واحد من أبرز وخيرة المناضلين في الساحتين التونسية والمغاربية، يساهم في الجدل الدائر جول حكم الإعدام، أو ما نسميه "العقوبة المقيتة"، من خلال هذا المقال الذي كتبه قبل سنتين، وكأنه كتبه اليوم، لراهنيته، وظروف كتابته...
كتبه في سبتمبر 2018، عقب جريمة اغتصاب فتاة قاصرة، سنها دون الخامسة عشرة، وقُتلت والدتها وجدتها، كان ذلك في نهاية غشت 2018، فتعالت الأصوات، وتعالى التهييج، وبدأت المحاكمات الإعلامية لمرتكبي الجريمة، فأصدر الهجيج الشعبي والنخبة المثقفة حكم الإعدام دون انتظار قول القضاء... تماما مثلما وقع عندنا عقب جريمة اغتصاب وقتل الطفل عدنان...
فكتب حمه الهمامي هذا المقال، ولكأنه كتبه اليوم، ولكأنه كتبه في المغرب، الذي شهد نفس الملابسات، التي وقعت في تونس، بما في ذلك انطلاق درجة العنف الكبيرة التي ميّزت الجدل حول عقوبة الإعدام، وفي صدارة ذلك خروج بعض المثقفين، الذين كان من المفروض أن يُسْهموا في عقلنة النقاش، فإذا بهم يفسحون المجال لغرائزهم كي تعبّر عن نفسها بأشكال بدائية، مما يؤكد أن كل هذه الغرائز المنفلتة، التي تُخرج ما في أعماقنا من أدران العفونة والتوحّش، يُبَيِّنُ أننا مجتمع لم يتمدّن ولم ينضج وأننا لم نعتدْ مناقشة قضايانا الحارقة بهدوء وعمق، بل إننا اعتدنا ردود الأفعال المتشنجة واللاعقلانية التي تدفع أحيانا إلى الهاوية... في ما يلي نص المقال:
 
شهدت الساحة الحقوقية في المدّة الأخيرة جدلا واسعا حول حكم الإعدام. كان ذلك بمناسبة الجريمة البشعة التي ارتكبت في جهة قبلاط بولاية باجة. جدةٌ وأمٌّ ماتتا متأثرتين بجراحهما الناجمة عن العنف الذي تعرضتا له. وصبية اغتصبت، حسب ما جاء في وسائل الإعلام، وماتزال إلى حدّ الآن تحت الصدمة. وقد شارك في الجدل عدد كبير من الناس من مختلف المشارب الفكرية والسياسية والأوساط الاجتماعية. وما لفت انتباهي هو درجة العنف الكبيرة التي ميّزت هذا الجدل بما في ذلك ما صدر عن بعض المثقفين الذين كان من المفروض أن يُسْهموا في عقلنة النقاش وتعميقه فإذا بهم يفسحون المجال لغرائزهم كي تعبّر عن نفسها بأشكال بدائية.
 
ما لفت انتباهي هو درجة العنف الكبيرة التي ميّزت الجدل حول عقوبة الإعدام بما في ذلك ما صدر عن بعض المثقفين الذين كان من المفروض أن يُسْهموا في عقلنة النقاش فإذا بهم يفسحون المجال لغرائزهم كي تعبّر عن نفسها بأشكال بدائية
 
ليس الموضوع متعلقا بوحشية الجريمة. فهذا الأمر غير قابل للجدل. وليس الموضوع حول ضرورة معاقبة مرتكبيها، فالعقاب ضروري وبما يناسب فظاعة الجريمة. ولكن الموضوع هو طبيعة هذا العقاب، فهل هو بالضرورة حكم الإعدام؟ وهل يمثّل الإعدام حكما عادلا في مثل هذه القضية أو غيرها من قضايا القتل؟ إن المذهل في الأمر أن العديد من المتدخلين في الجدل، ومن بينهم "مثقفون" لم يُنصّبوا أنفسهم قضاةً ليحقّقوا ويدينوا ويصدروا الأحكام القطعية فحسب، بل إنهم راحوا "يتفنّنون" حتى في الكيفية التي ينبغي أن يُنَفَّذَ بها حكم الإعدام. فهذه جامعية تقدّم على أساس أنها "مثقفة" ذهب بها الصلف (cynisme) إلى حدّ الدعوة إلى تعذيب الجناة حتى الموت لأنها رأت في إعدامهم شنقا حكما خفيفا بل مريحا.
 
إن كل هذه الغرائز المنفلتة، وما أكثرها في واقعنا الحالي المتأزم الذي من ظواهره إخراج ما في أعماقنا من أدران بكلّ ما فيه من عفونة وتوحّش، إنما يُبَيِّنُ أننا مجتمع لم يتمدّن ولم ينضج بما فيه الكفاية. وهو السبب في أننا لم نعتد إلى الآن مناقشة قضايانا المجتمعية الشائكة والحارقة بهدوء وعمق، بل إننا اعتدنا ردود الأفعال المتشنجة واللاعقلانية التي تدفع أحيانا إلى الهاوية. لذلك جال بخاطري الخوض في مسألة حكم الإعدام والبوح للقراء بالظروف التي حوّلتني من مناصر لحكم الإعدام إلى مناهض له عسى أن يدفع ذلك البعض لا إلى مراجعة موقفهم بالضرورة، بل على الأقل إلى إعمال عقولهم قبل إطلاق العنان لغرائزهم. إن الحيوان غريزة. أما الإنسان فهو غريزة وثقافة، وكلما تغلَّب العامل الثاني على العامل الأول سما الإنسان بنفسه عن عالم الوحشية.
 
كنت مع حكم الإعدام
 
كُنْتُ في طفولتي، كغالبية الناس، مع حكم الإعدام. تلك هي الثقافة الأولى التي تلقَّيْتُها في وسطي الريفي الذي يغلب عليه الجهل في ذلك الزمن. فالقاتل ينبغي أن يُقتل. وكنت أسمع أحيانا بعض التعابير من قبيل: "هذا ينبغي أن يُعلّق من أشفار عينيه" وذاك "ينبغي أن يقطع إربا إربا" والآخر "ينبغي أن يرفس في مهراس" (في كراكة حلق الوادي كان أحد أساليب الإعدام في عهد البايات وضع المحكوم في مهراس كبير ودقّه بيد المهراس ثم يفتح المهراس من أسفل وتسقط الجثة المطحونة في البحر). بالطبع هذه الصور كانت ترعبني. ولكن مع ذلك كنت أعتبر حكم الإعدام حكما عادلا.
 
هناك "مثقفون" لم يُنصّبوا أنفسهم قضاةً ليصدروا الأحكام القطعية فحسب، بل إنهم راحوا "يتفنّنون" في كيفية تنفيذ الإعدام وهذه جامعية ذهب بها الصلف إلى حدّ الدعوة إلى تعذيب الجناة حتى الموت لأنها رأت في إعدامهم شنقا حكما خفيفا
 
وحتى عندما نجحت في "السيزيام" (جوان 1964) وذهبت إلى المعهد الثانوي بمجاز الباب في باجة، وبدأت عيناي تتفتّحان أكثر على العالم، ممَّا جعلني آخذ مسافة من بعض الأشياء المرعبة والوحشية كالتعذيب والقتل المجاني مثلا، فإنني بقيت مقتنعا بمشروعية حكم الإعدام "الذي تنفّذه الدولة باسم المجتمع" وفق "معايير قانونية معينة". ولا أخفي أنّ بشاعة الجرائم المرتكبة كان لها تأثير كبير في تبنِّيَّ حكمَ الإعدام ظنّا منّي بأنّه كفيل بإنصاف الضحايا وردع المجرمين المفترضين.
 
لازمني هذا التفكير حتى دخلت الجامعة في عام 1970. ولكن في الأثناء حدث ما غيّرني وغيّر تفكيري. دخلت السجن لأول مرة في فيفريي 1972. كانت المناسبة حركة فيفريي الطلابية المجيدة. لكن قصر المدة التي قضيتها بالسجن هذه المرّة والعزلة المطلقة والمطبقة التي عشتها بزنزانتي بجناح السجن المضيق بسجن 9 أفريل بالعاصمة لم تمكنّي من معرفة الشيء الكثير عن عالم "الحبوسات". ولكنني حين سجنت في المرة الثانية في خريف 1974 لأحال مع رفاقي ورفيقاتي في "منظمة العامل التونسي" على محكمة أمن الدولة، وأقضي بالسجن حوالي 6 سنوات، كان الوقت كافيا والظرف مناسبا لأطّلع أكثر وأتعلّم.
 
بداية المنعرج
 
بعد نقلي، في أواخر شهر أكتوبر 1974، من مصالح أمن الدولة بوزارة الداخلية إلى سجن 9 أفريل، علمت عن طريق أحد الحرّاس العربي (...)، أنّ سجينا محكوما بالإعدام أطلق سراحه قبل أيّام. استغربت من الخبر وسألته عن السبب. أجابني بكل بساطة "ما هو طلع خاطيه، موش هو اللي قتل (...) شدّوه بعد ما طاحت روح في جهة الملاسين وركحوا فيه بالعصا اعترف وشخّص وصحّح.. ". ثمّ أضاف "شويّة وإلاّ عدموه عدّى 4 سنين وتحكم عليه بالإعدام والتعقيب أكّد الحكم ومازال كان الرئيس باش يصحّحْ على التنفيذ ويشنقوه...".
 
سألته من جديد ما الذي حصل في الأثناء؟ كيف ظهرت براءة الرجل؟ أجابني: "ما هو صارت جريمة أخرى في الملاسين وشدوا مجرم وقت ما بحثوه قالهم اللي هو ما قتلش الروح الجديدة لكن قتل الروح القديمة اللي اتهموا بيها صاحبنا... سيبناه وقلنالو برّا روّح هاك منعت..."، هكذا بكلّ بساطة لخّص العربي (...) الموضوع.
 
إن كل هذه الغرائز المنفلتة، التي تُخرج ما في أعماقنا من أدران العفونة والتوحّش، يُبَيِّنُ أننا مجتمع لم يتمدّن ولم ينضج وأننا لم نعتدْ مناقشة قضايانا الحارقة بهدوء وعمق، بل إننا اعتدنا ردود الأفعال المتشنجة واللاعقلانية التي تدفع أحيانا إلى الهاوية
 
عدت إلى زنزانتي مصدوما. قضّيت الليلة أتقلب على "البياص" (حصيرة من الحلفاء). الأسئلة تهاجمني من كلّ الجهات؛ ماذا كان سيحصل لو أنّ ذلك الشخص أُعْدِمَ قبل اكتشاف الجاني الحقيقي؟ روح بشريّة بريئة كانت ستُزْهقُها الدولة بعد حكم قضائي يبدو "ملائما للقانون" ومبنيّا على "أبحاث جدّيّة" لدى الشرطة و"تشخيص دقيق للجريمة" و"تحقيق قضائي جدّي". ماذا سيكون موقف سلسلة المحقّقين والقضاة أمام ضمائرهم حين يعلمون أنّهم أرسلوا شخصا بريئا إلى المشنقة؟ ثم هل من إمكانيّة لمراجعة هذا الحكم لو تمّ تنفيذه؟ بالطبع لا. فالإعدام المُنَفَّذُ حكم غير قابل للمراجعة.
 
يا للفظاعة! الدولة بأجهزتها الأمنية والقضائية والسياسية تخطئ وتجني على بريء. أليس من المعقول، لاجتناب عواقب مثل هذه الأخطاء، إلغاء حكم الإعدام وتعويضه بالسجن المؤبّد؟ أليس من الأفضل الحكم بالمؤبّد على 99 مجرما جرائمهم ثابتة لإنقاذ حياة بشر واحد حكم عليه بالإعدام خطأً؟ أليس إلغاء حكم الإعدام هو السبيل الوحيد لمراجعة الأحكام الجائرة عند حصولها وإنقاذ حياة الأبرياء؟ إذا تمّ تنفيذ حكم الإعدام فمن سيعيد الحياة لذلك المعدوم ظلما؟ أليست هذه جريمة في حدّ ذاتها؟
 
الدولة تعدم الطفل حطّاب
 
لم تتوقف مأساتي عند هذا الحدّ، بل ازدادت حين وقفت عند حالة جديدة مرعبة ومكربة بجناح السجن المضيّق. كنّا نعيش معزولين بعضنا عن بعض في هذا الجناح. كلّ سجين في زنزانة. وكنّا وقتها خمسة سياسيّين من منظمة العامل التونسي (الصادق بن مهنّى وأبو السعود الحميدي وإبراهيم الميداسي وعبد الله الحسني وأنا) ومجموعة أخرى اكتشفناها وهي مجموعة "الجبهة القوميّة التقدّمية لتحرير تونس" (جماعة المرغني). وإلى جانب هؤلاء جميعا كان يوجد مساجين حقّ عام معزولون بسبب عقوبة أو لأنّهم مازالوا تحت البحث لدى حاكم التحقيق أو لأنّهم من المثليّين الجنسيّين. كما كان يوجد شاب علمنا أنّه محكوم بالإعدام وهو يشغل الزنزانة رقم 4. كنّا في الليل، بعد خروج الحرّاس، ننبطح على بطوننا أمام أبواب زنزاناتنا ونضع أفواهنا قريبا من فتحة الباب التحتيّة ونتبادل الحديث. كان مساجين الحقّ العام يسمحون لنا ببعض الوقت لتبادل الأخبار ثم يدخل الجميع في الحديث "لتقصير الليل" ومقاومة الأرق.
 
ماذا سيكون موقف سلسلة المحقّقين والقضاة أمام ضمائرهم حين يعلمون أنّهم أرسلوا شخصا بريئا إلى المشنقة؟ ثم هل من إمكانيّة لمراجعة هذا الحكم لو تمّ تنفيذه؟ بالطبع لا. فالإعدام المُنَفَّذُ حكم غير قابل للمراجعة
 
ليلة بعد ليلة، دخل معنا ذلك الشاب المحكوم عليه بالإعدام في الحديث. عرفت اسمه: "حطّاب". ذكر لنا أنّ سنّه لم يكن يتجاوز 16 سنة وبضعة أشهر عند إيقافه بتهمة قتل والدته. حطّاب، الشاب الوسيم جدا، غادر مقاعد المدرسة بجهة منّوبة على ما أتذكّر ليشتغل عند "خضّار" ويعيل أمّه وأخويه بعد أن توفّي والده. كانت أمّه جميلة. وكانت محطّ الأعين لأنّها أرملة. وخرجت عنها إشاعات بكونها "قاعدة تفسد". ووصلت هذه الإشاعات إلى حطّاب الذي بدأت تلتهمه الوساوس. تحدّث مع أمه وطلب منها أن تتزوّج وتضع حدّا للشائعات فرفضت. وذات مرّة خطر له أن يذهب إلى مركز الحرس الوطني ليعبّر لرئيس المركز عن وساوسه فنهره وطرده.
 
شيئا فشيئا أصبح يشكّ في رئيس المركز ويتساءل إن لم تكن له بدوره علاقة بوالدته لماذا تصرّف معه بتلك الطريقة؟ "صرت يا عبّاس (وهو اسمي الحركي في الجناح، كانت لنا أسماء حركيّة بهدف التمويه على الحرّاس) محاصرا.. العينين ماكلتني وتقول لي إنّ أمّك عاهرة.. أصبحت لا أنام الليل، هجرت الشغل.. لكن ذلك لم ينفع.. أصبحت حياتي جحيما.. ضاقت الدنيا بي فلم أفكّر إلاّ في شيء واحد "قتلها" فترتاح وأرتاح.. وهو ما فعلته. اشتريت بيدون بنزين واستدرجتها إلى طريق يؤدّي إلى جهة فوشانة وفي منتصف الطريق قيّدتها من ساقيها ويديها وسكبت عليها البنزين وأحرقتها وهي تستغيث راني أمّك...".
 
كان حطّاب يروي تفاصيل جريمته وهو يبكي بالغصّة. اعتقل وأحيل على القضاء وحكم عليه بالإعدام شنقا.. كان وقتها السنّ الجزائي 16 سنة. بورقيبة هو الذي أمر في عام 1968 بالنزول بالسنّ الجزائي من 18 سنة إلى 16 سنة إثر عمليّة قتل ارتكبها طفل وذهبت ضحيّتها سائحة أوروبيّة. كان حطّاب الطفل ضحيّة نزوة من نزوات بورقيبة الذي قرّر تغيير السنّ الجزائي خلافا لكلّ القوانين والأعراف الدوليّة التي تمنع إعدام الأطفال. حطّاب حكم عليه بالإعدام على جريمة ارتكبها وهو طفل. الحكم في هذه الحالة كان من المفروض ألاّ يتجاوز 10 سنوات سجنا.
 
المجتمع حكم على حطّاب
 
حطّاب كان يحدّثني كلّ ليلة تقريبا. كان دائما يعيد على مسمعي نفس الحديث: "يا عبّاس أنا حَكَمَتْ عليَّ عينين الناس. أنا طفل صغير والإشاعات تحاصِرْ فيّ وما لقيت حد ياخذ بيدي. إمّا أنّي أقبل الوضع وأموت وأنا حيّ وإلا أقتلها وأموت أنا بعدها.. المجتمع قاسي يا عبّاس... ما يرحمش. الناس وحوش... علاش رئيس المركز ما عاونّيش؟"... وبعد مدّة جاء موعد إعدام حطّاب. ليلة إعدامه ما تزال، بعد 43 سنةً، عالقة بذهني كما لو أنّها البارحة. تفطّنّا الصادق بن مهنّي وأنا، من خلال تحرّكات الأعوان، إلى قرب موعد إعدام حطّاب. وذات ليلة سهرت أتبادل الحديث معه كلّ من زنزانته إلى ساعة متأخّرة.
 
لا يُخلَق الإنسان مجرما بل الظروف، من اقتصاد واجتماع وثقافة وعادات وتقاليد، تخلق منه مجرما. لا أقول هذا لتبرير الجريمة بل لفهمها والمؤسف أنّنا اعتدنا في مجتمعاتنا التفكير السطحي. نحصر المسؤوليّة في الفرد لنتفصّى من المسؤوليّة وتتفصّى الدولة منها
 
كان حطّاب ليلتها يشعر بأرق قاتل فطلب منّي محادثته. وفي وقت من الأوقات، حوالي الثالثة فجرا استمعت إلى "صرير المفاتيح". كعادتنا حتى لا نقع في فخّ الحرّاس، سكتُّ وسَكَتَ حطّاب. فُتِح باب إحدى الزنزانات. سمعت كلاما لم أتمكّن من فرزه. لكن كان من الواضح أنّ الأمر لا يتعلّق بعون واحد بل بمجموعة أعوان.. وما هي إلاّ لحظات حتى سمعت صوت حطّاب: "الوداع يا عبّاس... الوداع...". خارت قواي ولم أتمكّن حتى من الردّ عليه. سقطت على "البياص" وبكيت... وبكيت... وبكيت.
 
وفي الصباح، أعلمت رفاقي. كنّا وقتها مجمّعين في الزنزانة 18. وكنّا نستمع إلى الهادي الشنّوفي الذي كان محبوسا في الزنزانة المقابلة يرتّل آيات قرآنيّة ترحّما على حطّاب الذي كان الجميع في الجناح يحبّه ويتمنّى أن يفلت من حبل المشنقة. علمنا أيضا ونحن في السجن أنّ إحدى الصحف اليوميّة أجرت سبر آراء فكان 70 في المائة من المستجوبين دعوا إلى عدم إعدام حطّاب.
 
مسؤوليّة الدولة والمجتمع
 
قضيّة حطّاب كشفت لي مرّة أخرى مسؤوليّة الدولة والمجتمع. لا يُخلَق الإنسان مجرما بل الظروف، بما تعنيه من اقتصاد واجتماع وثقافة وعادات وتقاليد، تخلق منه مجرما. فما من جريمة إلاّ وكان لهذه الظروف تأثير فيها. لا أقول هذا لتبرير الجريمة بل لفهمها والمؤسف أنّنا اعتدنا في مجتمعاتنا التفكير السطحي. نحصر المسؤوليّة في الفرد لنتفصّى من المسؤوليّة وتتفصّى الدولة منها. أفليس للدولة مسؤوليّة حين لا تخلق لمواطنيها ومواطناتها ظروف حياة متوازنة فينجرّون إلى الانحراف والجريمة؟ أليس للمجتمع مسؤوليّة حين تكون العقول مكبّلة بالعادات والتقاليد البالية؟ كلّ أرملة وكلّ طالق "عاهرة" حتى يأتي ما يخالف ذلك. من لا يعرف هذه العقليّة؟
 
قتل الشاب الفرنسي فيليب موريس عون أمن وحكم عليه بالإعدام. وحين كان ينتظر التنفيذ بقطع رأسه وصل ميتران في 1981 إلى الرئاسة وألغى حكم الإعدام ونجا الشاب من المقصلة. وأطلق سراحه عام 2000. وهو يحمل معه شهادة دكتوراه في التاريخ الوسيط. وهو اليوم يعمل باحثا في واحد من أبرز مراكز البحث بباريس
 
ألم يكن بإمكان حطّاب أن يفلت من حبل المشنقة لو ساعده رئيس مركز الحرس وأحاطه بعنايته؟ ألم يكن بإمكان حطّاب أن يبقى حيّا لو رحمه الناس وكفّوا عن إيذائه بألسنتهم ونظراتهم؟ ألم يكن بإمكان حطّاب أن يعيش لو لم يفعلها بورقيبة ونزل بالسنّ الجزائي إلى سنّ الطفولة في لحظة انفعال، وما أخطر القرارات التي يتّخذها رجل الدولة ساعة غضب خاصّة إذا كان هو "النظام"!؟ (كان بورقيبة يقول: "أنا النظام" تعبيرا عن سلطته المطلقة).
 
هل إنّ دور الدولة هو القتل أم الإصلاح والحفاظ على حياة البشر؟ ألم يكن بإمكان حطّاب حتى لو حكم عليه بالمؤبّد أن يتغيّر ويصلح ذاته ويغادر السجن إنسانا آخر؟ لماذا نُعْجَبُ بما يحصل في البلدان الأخرى ونرفض أن يحصل عندنا نفس الشيء؟ في منتصف سبعينيّات القرن الماضي قتل الشاب الفرنسي "فيليب موريس" عون أمن وحكم عليه بالإعدام. وحين كان ينتظر التنفيذ بقطع رأسه وعمره 24 سنة وصل ميتران في عام 1981 إلى الرئاسة وألغى حكم الإعدام ونجا الشاب من المقصلة. وأطلق سراحه عام 2000. وهو يحمل معه شهادة دكتوراه في التاريخ الوسيط. وهو اليوم يعمل باحثا في واحد من أبرز مراكز البحث بباريس CNRS (المركز الوطني للبحوث الاجتماعية).
 
القانون يتغير لإنقاذ أبناء الأغنياء
 
قضيّة حطّاب علّمتني درسا آخر. الفقراء وحدهم يُعْدَمُون. الإعدام يا سادة، يا كرام، له بعد طبقيّ هو أيضا. لن أكثر عليكم الأمثلة التي عشتها في السجن، فهي كثيرة. سأكتفي بمثال واحد لعلاقته بقضيّة حطّاب؛ في عام 1980 ونحن نقبع في الجناح "H" بالسجن المدني بتونس بعد أن قضينا حوالي ثلاث سنوات بسجن برج الرومي (الناظور حاليّا) حصلت جريمة بشعة في العاصمة: ثلاثة شبّاب ابن الطبيب الخاص لبورقيبة وابن قنصل دولة شقيقة وابن أحد الميسورين عنّ لهم أن يهاجموا في ساعة متأخّرة من الليل شابّا يعمل بمحطّة بنزين بباردو ليستولوا على ما عنده من مال المبيعات ليواصلوا بها سهرتهم. قاومهم الشابّ الكادح فأردوه قتيلا ببندقيّة صيد وأخذوا المبلغ الذي كان بحوزته، 13 دينارا على ما أتذكّر، وفرّوا.
 
في الثمانينات، كنا نناقش ميثاق الرابطة التونسيّة الحقوق الإنسان وضمنه مطلب إلغاء حكم الإعدام ولكنّ ممثّل حركة النهضة اعترض بحجّة أنّ القصاص "مبدأ ديني". من أدْراهم بأنّ "الزمن الغدّار" لن ينقلب عليهم؟ وبالفعل جاءت عمليّة باب سويقة 1991 وكان آخر جماعة نفّذ فيهم حكم الإعدام من حركة النهضة
 
أوقف الشبّاب الثلاثة. وكان حكم الإعدام ينتظرهم قانونا. ولكن، إثر تدخّلات، قرّر بورقيبة تغيير القانون والعودة بالسنّ الجزائي إلى 18 سنة ليفلت الشبّان الثلاثة من الإعدام ويحكم عليهم كأطفال بعشر سنوات فقط. لماذا لم يقم بورقيبة بهذه الحركة مع الطفل حطّاب؟ هذا الأخير ليس له "أكتاف". هو من الشعب المفقّر. والغريب في الأمر أنّ أغلب المدافعين عن الإعدام هم من هؤلاء المفقّرين الذين تتلاعب بعقولهم وسائل الدعاية فتهيّجهم سواء باستعمال الدين أو بالشحن العاطفي وتستعمل بعضهم ضدّ بعض.
 
ضربة مزاج تُقود 11 معارضا إلى المشنقة
 
في سنة 1980 نفسها، وفي سجن 9 أفريل نفسه، وتحديدا في يوم الخميس السابع عشر من شهر أفريل، أفقنا صباحا وأعددنا أنفسنا للذهاب إلى "أدواش" السجن. ولكن الأبواب لم تفتح في وقتها. اعتقدنا في البداية أنّ الأمر يتعلق بعمليّة تفتيش (fouille) في أحد الأجنحة ممّا استدعى مشاركة عدد كبير من الأعوان. ولكن عندما بلغت الساعة حوالي العاشرة صباحا فكّرنا في أنّ أمرا غير عادي يحصل. حوالي الحادية عشرة فتح باب الزنزانة، وجه العون كان مُكْفَهِرّا وسلوكه غير عادي. كان على غير عادته صامتا، وعقله شاردا. مررنا بكافّة أجنحة السجن في اتجاه "الأدواش". زدنا إحساسا بأنّ الوضع غير عادي. أتذكّر أنّنا لمّا وصلنا إلى "الأدواش" لاحظنا على يميننا "كوما" من أزياء "السجن الخضراء". وحتى قبل أن يُعَلّق واحد منّا جاءت كلمات السجين المكلّف "بالأدواش" لتوضّح: "جماعة قفصة (المجموعة المسلّحة التي دخلت تونس في جانفي 1980) عدموهم الكلّ 11 روح شنقوهم اليوم. آخرهم بعد الساعة الثامنة صباحا".
 
كانت الصدمة كبيرة. وقد روى لنا الأعوان الفظاعات التي تمّت فجر ذلك اليوم. أحمد الشَنّاق كان "يتَفَنَّنُ" في إعدام ضحاياه. وفي "الرّوح السابعة" كما حكى أحد الأعوان توقَّف وأكل "كسكروت". عز الدين الشريف، أحد المحكومين بقي يتلوَّى في حبل المشنقة حوالي 20 دقيقة.. بعض الأعوان أغمي عليهم.. عون آخر انتابه الغثيان وآخر نُقِلَ إلى المستشفى من شدّة الصدمة.
 
روى الطاهر بلخوجة، أحد وزراء الداخليّة في عهد بورقيبة، في مذكّراته أنّ هذا الأخير كان ينوي إعدام ثلاثة فقط من بين الـ13 المحكوم عليهم بالإعدام في قضيّة قفصة (أحمد المرغني وعز الدين الشرف...) وتحويل حكم البقيّة إلى السجن المؤبّد. لكن في الأثناء زار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بورقيبة في قصر قرطاج وترجّاه أن يعفو على المجموعة ويستبدل حكم الإعدام بالسجن المؤبّد. اغتاظ بورقيبة من تدخّل عرفات وردّ الفعل بأن قرّر تعدية الجميع إلى المشنقة. هكذا يتحكّم المزاج الشخصي للرئيس في تقرير حياة بشر.
 
لتسقط مهنة الجلّاد
 
لمّا غادرت السجن عام 1980، لم يعد عندي أيّ التباس في الموضوع. أصبحت مناهضا لحكم الإعدام عن قناعة. ولمّا تأسّس حزب العمّال الشيوعي التونسي في جانفي 1986، اتفق جميعنا على أن يكون أحد بنود برنامجه إلغاء حكم الإعدام. وهو الموقف الذي دافع عنه مناضلو الحزب "الرابطيّون" حين نوقش ميثاق الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان أواسط ثمانينات القرن الماضي.
 
لقد أصبحت عندي قناعة بأنّ حكم الإعدام لا يمثّل "الحكم العادل" حقّا في جرائم القتل أو غيرها من الجرائم الخطيرة. فهو يحتمل الخطأ وإن أعدم شخص خطأ فلا توجد إمكانيّة لإرجاعه إلى الحياة. وهو ليس في منأى عن التأثيرات الاجتماعيّة إذ أنّ الفقراء والأقليّات هم الأكثر العرضة من غيرهم لأحكام الإعدام. كما أنّ حكم الإعدام هو الوسيلة لدى الأنظمة الرجعيّة والمستبدّة لتصفية معارضيها حتى بافتعال القضايا لهم. أضف إلى ذلك أنّ الدولة مطالبة بالحفاظ على حياة الناس لا بقتلهم. ومن هنا فالدولة لا تتصرّف كما يتصرّف المجرم، لا تقتل كما يقتل المجرم، لا تحرّكها الضغائن أو ردّة الفعل بل هي مطالبة بأن تتصرّف بعقلانيّة وبأن تقوم بدور الإصلاح فلا تيأس من الإنسان.
 
وإلى ذلك كلّه، فقد بيّنت كلّ التجارب أنّ حكم الإعدام لم يكن له أي تأثير في الحدّ من الجريمة. فمن يريد الحدّ من الجريمة عليه أن يعالج أسبابها العميقة أوّلا وقبل كلّ شيء. وليس أدلّ على ذلك من أنّ البلدان التي ألغت عقوبة الإعدام هي من أقلّ البلدان التي تسجّل بها جرائم العنف والاغتصاب. في حين أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي ما لاتزال عقوبة الإعدام سارية لم تتناقص فيها الجرائم بل تمّ التفطّن إلى براءة بعض من نُفّذ في حقّهم الإعدام.
 
إنّ الأمر يتعلق بفلسفة كاملة: فلسفة الإصلاح والتغيير مقابل فلسفة العقاب والانتقام، فلسفة التمدّن الإنساني مقابل فلسفة التوحّش. إنّ المجتمع المتمدّن هو المجتمع الذي يلغي حكم الإعدام ويعوّضه بالسجن المؤبّد. فهذه العقوبة مناسبة لجرائم القتل إذ هي تسلب الجاني حريّته. ولكنّها تبقي أمامه باب إصلاح النفس مفتوحا. فمتى نقبر في تونس مهنة الشنّاق إلى الأبد؟
 
للعبرة
 
في النصف الثاني من الثمانينات، تمّت مناقشة ميثاق الرابطة التونسيّة الحقوق الإنسان. وكان أحد بنود هذا الميثاق ينصّ على ضرورة إلغاء حكم الإعدام تماشيا مع المواثيق الدوليّة. ولكنّ ممثّل حركة النهضة اعترض وقتها على هذا البند بحجّة أنّ القصاص "مبدأ ديني". كنّا نقول: "يا لهم من أغبياء". ألم يفهموا أنّه من الممكن أن يكونوا هم أوّل ضحايا موقفهم المدافع عن إبقاء حكم الإعدام؟ من أدْراهم بأنّ "الزمن الغدّار" لن ينقلب عليهم؟ وبالفعل جاءت عمليّة باب سويقة 1991 وكان آخر جماعة نفّذ فيهم حكم الإعدام على ما أتذكّر هم جماعة باب سويقة من أنصار حركة النهضة. وقد ناهض "الرابطيّون" اليساريّون بقوّة هذه الأحكام. كما أدانها حزب العمّال. العبرة من كلّ هذا: حين تدافع عن مبدأ صحيح تكون أوّل المستفيدين منه، وحين تدافع عن موقف خطأ قد تكون أوّل من يدفع ثمنه.