الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الكتابة الروائية النسائية المغربية.. مغامرة وحب وتحرير للجسد من سجن الذكورية

 
حليمة زين العابدين
 
1- الكتابة وعي بالذات وبالوجود
 
الكتابة وعي بأن المرأة والرجل إنسان، مع اختلافات بيولوجية لا تبعد عن أي منهما، المهارات العقلية والذكاءات والقدرات على الخلق والإبداع والابتكار... إن امتلاك وعي الكتابة عند المرأة عموما، والمرأة المغربية خصوصا، هو وعي بالذات، بالوجود وبالعالم.
المرأة، وهي تكتب، لا تنتصر على الموت فقط، بل تعيش حياة مضاعفة، تعيشها حرية وانعتاقا من ثقافة ذكورية سادت لقرون طويلة، كانت تحصرها في خانة الناقص وغير المتوازن، وإن تسامحت معها، فهي جسد محاصر بالصمت، دوره إغراء الرجل، وشحن مخيلاته الإبداعية والفانتازماتية. جسد يوحي له بالكتابة وقول الشعر، وهو ممنوع من الكتابة محكوم عليه بالصمت. لقد تحدث الرجل عن المرأة في إبداعاته، تناولها جسدا، ووصف أدق تفاصيله وجزئياته، محكيا عن صاحبته ضميرا غائبا، لا مشاركة له في القول والفعل.
 
2 - الحرية شرط الكتابة... وكتابة المرأة حرية
 
الكتابة النسائية في بلادنا، لا يتجاوز زمن إرهاصاتها الأولى خمسين سنة، عمر قصير جدا في تاريخ الكتابة، وفي الكتابة المغربية. وقد كان اقتحام الكتابة من طرف النساء المغربيات مغامرة وتحديا، ذلك أن الكتابة ليست اشتغالا على الكلمات وحدها، وإنما هي أيضا اشتغال على الذات، هي رسم بالجسد وعلى الجسد، هي إعادة بناء كينونة ووجود آخر مغاير لما أريد له أن يكون في الواقع. يقول نور الدين أفاية، في كتابه "الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش": "تتأرجح الذات في الكتابة النسائية بين الإحساس المؤلم بتبعيتها لما هو سائد، والاعتراف به كواقع، وبين الإنصات للجسد".
كتابة النساء هي تحرير جسد من سجن ثقافة ذكورية سادت، أباحت للرجل حق التصرف فيه قولا وفعلا، وجعلت محظورا وغير مباح مطلقا أن تكتب المرأة، منعا لها من أن تطال كتابتها جسدا لا تمتلكه، وأن تخرج عبر الكتابة من دور الموضوع لتصبح فاعلا، فتهدم كل الموروثات التي تجعل من وعيها ومن تفكيرها ومن جسدها ثالوثا محرما.
إن انتصار المرأة في كتابتها لجسدها هو اكتشاف لروحها وللعالم والآخر عبر جسدها... تقول يانيك ريش Yannick Resch الكاتبة الكندية: "أصبح ضروريا حضور جسد في كتابات المرأة، وخاصة لما يمارس على جسدها من صنوف التغييب والإنكار والقهر أحيانا، فالانتصار له، انتصار للأرواح المعذبة التي تقهر عبر قهر الجسد"...
 
3 - كتابة المرأة عن الحب
 
أغلب الروائيات المغربيات كان للحب حضور قوي في كتاباتهن كعاطفة وكحب رومانسي ملائكي طبعا... وكل هؤلاء الكاتبات تعاملن مع تيمة الحب تصويرا وإيحاءات كنائية، إنه المحرم البوح به في العلن، فكيف تتجرأ الكتابة على سرده عاريا أو ممارسة!... ربما بسبب لغتنا، نربط فيها الكلمة بالصورة ونتخيل رؤيتها، ربما بسبب تربيتنا المؤسسة على المنع، ولازمة "كُونْ تحشمْ"، ربما لأننا، رغم تحررنا وحداثة أفكارنا وتوجهاتنا، يحكم لاوعيُنا رواسبَ موروثنا الثقافي، يجعل من الجنس والدين والسياسة ثالوثا محرما...
 
"مخالب المتعة" المستعيرة ذات المخالب تفضح وتعري وتنتقد
 
قد يسرح ذهننا اللحظة مع رواية "مخالب المتعة" لفاتحة مرشد الكاتبة المغربية، أو تحضرنا رواية "طريق الغرام" لربيعة ريحان الكاتبة المغربية... هو العنوان فقط.
"مخالب المتعة"، نفتح الكتاب، نقرأ بنهم الصفحة تلو الأخرى، نبحث فيها، عن هذه المتعة المستعيرة مخالبها من الذئب، الرواية مغر أسلوبها، ينشب مخالبه في القارئ فلا يجد فكاكا منها، ولكن لا يقبض في متنها أو خطابها على هذه المتعة ذات المخالب لا مسرودا عنها ولا وصفا... ولكنه يجد المجتمع بكل معيقاته من تفكك أسري وبطالة حملة الشواهد، وخيانة زوجية، ودعارة نسائية ورجالية، من غير تعرية فعلها في مجرى السرد، ولكن الرواية تعري واقع النساء في زواجهن المبكر، وفي تحمل المسؤولية وحيدات حين يهرب منها الزوج، كما نجد نقدا على لسان شخصياتها للسياسة التعليمية، والسياسة التنموية، وسياسة التأهيل لسوق الشغل...
 
"طريق الغرام" يوصل إلى السرير حقيقة أو فقط في خيالنا
 
"طريق الغرام"... للغرام طريق واحد يوصل إلى السرير حقيقة أو فقط في خيالنا، في الرواية الحاملة له عنوانا، هو طريق يقودنا إلى حيث ينكسر أفق انتظارنا كقراء... فهذا الطريق، في بداية السرد، يقود فوزية، الشخصية المحورية في الرواية، إلى زواج كئيب بارد، رمى بها في جحيم موت بطيء، أُلغي فيه الجسد ورغباته، فهذا سمير الذي أحبته حد الهيام طالبة بالكلية وهو طالب، لم تتعرف على جسده قبل زواجهما. وحين أصبحا زوجين، تجد فوزية أن جسدها لا يستهوي زوجها، ولا تثيره أجساد النساء كلهن... سمير لا يعشق سوى مثله... صدمتها كبيرة، لا لأنه مثلي، ولكن لأنه لم يصارحها بحقيقته قبل الزواج... مطلقة في بداية زواجها، تعود فوزية إلى بيت أبيها تحمل اكتئابها ورهبتها من عيون مجتمع تزدري المرأة عامة وتنهشها مطلقة... وحين نصل إلى نهاية السرد، يقود طريق الغرام فوزية إلى يوسف العراقي، القادم من لندن للقائها... هنا تتوقف الرواية، فلا نعرف هذا الذي حدث بعد ما مضى من أيام حب، تصرف رسائل عبر قنوات التواصل الاجتماعي...
 
4 - كتابة المرأة عن السجن
 
إذا كانت الكتابة النسائية عموما، هي خروج شاق وصعب عن السائد والمألوف، فإن تأنيث اللغة وذاكرة السجن بالمغرب كان الأشد صعوبة. وإذا كانت عموم النساء اللواتي كتبن بالعربية وبمنأى عن عوالم السجن، يحتلن على اللغة وتقنيات السرد ليلبسنها جسد المرأة، فإن كتابة المرأة عن السجن تتطلب:
أولا: الجرأة على تكسير الثوابت اللغوية والسردية بإضافة تاء التأنيث إلى الفواعل والأفعال، التي جاءت سابقا على صيغة المذكر.
ثانيا: جرأة أكبر على اقتحام مجاهيل السياسة، ليس تنظيرا أو تفكيرا أو ممارسة، وإنما لكتابة المسكوت عنه، وبالجسد، تلك الكتابة التي تمنح القلم إمكانية اختراق المحظورات والممنوعات، وترتفع بالكلمة ما فوق التشريعات والخطوط الحمراء، ليصبح القلم ذاته جسدا منعتقا، من لبوس كلمات لا يمنع تحليقها أسوار، أو قضبان، أو عيون عسس، أو نظم ثقافية وسياسية، حيث يصبح للجسد لغته الخاصة، يفجرها صورا ورموزا مشحونة بالأحاسيس والانفعالات والرغبات الإنسانية الموؤودة. لهذا كانت الكتابة النسائية عن السجن، في حكم النادر، مقارنة مع حجم تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب، وطول زمنه، وهول ما عانته النساء داخل السجن وخارجه من قمع. وسأقف هنا عند ثلاثة نماذج سردية هي كل ما كتبته النساء المغربيات عن السجن بالعربية، وهي كلها متقارب زمن صدورها، نُشرت جميعها في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين وفق الترتيب التالي: "هاجس العودة"، رواية لحليمة زين العابدين، "سيرة الرماد"، رواية لخديجة مروازي، "حديث العتمة"، رواية لفاطنة البيه، وهي وإن كان السجن مادتها الفنية، وكان لها نفس زمن القصة، ونفس زمن السرد، فإن زاوية الرؤية فيها غير متماثلة، كما لم تتماثل فيها العوالم التخييلة، ولم تتشابه طرائق السرد فيها أو أساليبها الفنية، فلكل منها خصوصيات نوعية ومتفردة...
 
"حديث العتمة" كتابة عن السجن من داخله لمعتقلة سياسية
 
"حديث العتمة"، كتابة عن السجن من داخله، الكاتبة معتقلة سياسية تسرد حياتها داخل السجن، تحكي معاناتها، وما تتعرض له من أنواع التعذيب كما رفيقها في المعتقل السري، ولا يتحملها جسد امرأة، جلد بالسوط والفلقة الطيارة بلغة الجلادين وغطس الرأس في الماء الآسن حد الاختناق، وصعق بالكهرباء... لانتزاع اعتراف منها، من غير اعتبار جنسها وخصوصياته وحساسياته، تغتصب منها هويتها، ينتزع منها اسمها ويطلق عليها اسم ذكر لا لشيء إلا لأنها امرأة مارست التفكير، وهو خاصية ذكورية في منطق الجلاد الذكر.
 
"سيرة الرماد" كتابة سردية عن داخل السجن من خارجه
 
"سيرة الرماد"، رواية لخديجة المروازي، هي كتابة سردية عن داخل السجن من خارجه، من منظور امرأة تفاعلت مع عوالم السجن وجدانيا، فعملت على نسج وقائعها وخلق شخوصها بطريقة تخييلية فنية، تعيد بناءها كما يفترض أنها جرت في الواقع، في محاولة لتكسير الصمت عن المسكوت عنه في المعيش اليومي داخل المعتقل.
 
"هاجس العودة" صوت جماعي لعائلات المعتقلين السياسيين
 
"هاجس العودة"، لحليمة زين العابدين، سأتحول هنا من كاتبة إلى قارئة ضمنية، وإن كان في عملية التحول هاته اغتيال للرهانات الثاوية خلف اللغة، واغتصاب لشحناتها الدلالية التي أردتها أن تمد كل قارئ فعلي بطوفان للقول، ذاك الذي تفاعل بداخلي وأنا أعيش أحداث هاجس العودة في الواقع، ثم وأنا أعيد إنتاجها على مستوى المتخيل.
"هاجس العودة" هي الراوية الوحيدة في المغرب وكل العالم العربي عن عائلات المعتقلين السياسيين، إنها صوت جماعي لشخوص تتناوب على الحكي.
أم معتقل لم تعرف القراءة أو الكتابة، وقد أجبرها واقع القهر والاغتصاب لحق الإنسان في مجرد الحلم أن تحطم أسوار الخوف والصمت وتخرج لتصارع غيلان الظلام، سلاحها حبها لابنها وعاطفة الأمومة، ثم يقترن حبها بالوعي بضرورة النضال المنظم والمهيكل ضد كل واجهات القمع والتمييز. نضالها كأم، جعلها تدرك أنها امرأة إنسان، فكان نضالها مقدمة تاريخ نسائي جديد.
زوجة مناضل لم تكن قد بلغت العشرين سنة من عمرها، ينتزع زوجها من بين ذراعيها، وفي خروجها سعيا لإطلاق سراحه تكتسب وعيا بذاتها ووجودها، تدرك معنى أن تكون إنسانا حرا.
ابن وابنة معتقل كبرا في الطرقات الموصلة إلى السجون، في واقع دام ومؤلم محاصر بالإرهاب والخوف، مشرع على الأمل والحلم والحب.
كما أنها كتابة في المحظور والممنوع، وكتابة عن متعدد متداخل، فهي التزام بقضايا الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، وهي تعبير عن أحزان وأفراح وهموم نسائية فردية أو جماعية، ثم هي تعبير عن حاجة تحقيق متعة الولادة عبر الكلمة المرسومة جسدا.