الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الساحة الثقافية المغربية تفقد الإعلامي الأنوالي رشيد جبوج

 
أحمد نشاطي
 
ووري الثرى، عصر اليوم الخميس 30 مارس 2023، بمقبرة سيدي أمحمد المليح في المحمدية، جثمان الإعلامي والمسرحي والمثقف اليساري، الفقيد رشيد جبوج، الذي وافته المنية، أمس الأربعاء، في المستشفى العسكري في الرباط، عن سن يناهز 69 سنة...
تعرفت على رشيد جبوج، سماعا، منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم، كان إكراه العمل السري، ومكرمته في الآن نفسه، أن جعلنا ننخرط عضويا في العمل المدني، من خلال جمعيات اجتماعية وثقافية وفنية وتربوية، كانت تمكّننا من الاحتكاك بأعداد متزايدة من الشباب المغاربة، في مختلف مواقع وجوده، وكانت بعض النماذج الجمعوية متميّزة، وتصلنا أخبارها، وضمنها العمل الذي كان يقوم به الرفيق جبوج في فاس، والذي وضعه في فوهة بركان أجهزة القمع، مما جعله يتعرض لملاحقات أمنية مكثفة، فضلا عما كان يعانيه من مرض المعدة...
ثم تعرّفت عليه، بصفة شخصية، قبل أن نؤسس حركة الشبيبة الديمقراطية، عندما كنت أراسل أنوال من اليوسفية، ثم من ورزازات، التي كنت انتقلت إليها في إطار آخر فوج من الخدمة المدنية... ثم توطّدت العلاقة خلال فترة عضويتي في قيادة "حشد"، حيث أصبحت أسلمه، غالبا، مراسلاتي باليد، أخذا بالاعتبار أن المراسلات المعنية ذات طابع فني أو ثقافي، إما تغطيات، أو مقالات تحليلية ونقدية لأعمال سينمائية، علما أن المراسلات الاجتماعية كنت أرسلها إلى الرفيق محمد حميمة برادة، قبل أن أتعرّف على العزيز محمد بلوط، فيما مقالات الرأي كانت توجّه إلى الرفيق محمد الحبيب طالب...
لا يمكن أن أستحضر اسم جبوج، دون أن أستحضر صورته، كأحد الرفاق، الذين تعلّمت منهم الكثير، ولا أفشي سرّا إذا قلت إن الرفيق رشيد جبوج هو الذي يعود له الفضل في تمرّني على السرعة في التحرير، ولا يمكن أن أنسى، خلال تغطيات محاكمة نوبير الأموي سنة 1992، كيف كان رشيد يقف على رأسي وأنا أنجز التغطية بـ"الستيلو والورقة" آنذاك، وما أن يقترب التحرير من الوصول إلى نهاية الصفحة، حتى يأخذ الورقة ويذهب بها إلى القسم التقني للتصفيف، وهو يردد بصوته الأجش المحبّب: "يالله سربينا هانا راجع عندك"، ثم بعد لحظات يعود ويأخذ الورقة وهكذا دواليك...، وتشاء الصدف أن يغادر رشيد "أنوال"، وأن أتسلّم منه، في لحظات لن أنساها، مهام مسؤوليته: سكرتير التحرير...
مشكلتي في "أنوال" أن كل هؤلاء الرفاق كنت أحبهم، أغلبهم "انشقّ" ومضى مع "الوثيقة جوج"، لكن مكانهم بقي دائما في القلب والروح، لأنه عندما تستحضر تلك الاجتماعات التي تكاد تكون بلا حد، والتكلفات والمهام والكتابات والتغطيات والتقارير ومواجهة جميع أجناس الكتابة الصحفية المهنية، تحضر أمامك صور رفيقات ورفاق يرفلون في بهاء فعل إعلامي ديمقراطي شعبي وكأنهم أبطال أسطوريون، وجبوج كان منهم، ولذلك يمكن أن نرى أعدادا من الأوفياء يكتبون جبوج وعن جبوج...
من هؤلاء الكاتب الجزائري الكبير، واسيني الأعرج، كتب تدوينة نعي للفقيد رشيد جبوج، يقول فيها:

"وداعا عزيزي رشيد
فقدانك مؤلم. خسارة موجعة.
توفي صباح اليوم الأربعاء بالمستشفى العسكري بالرباط، الصحافي والمسرحي الصديق الجميل رشيد جبوج. 69 سنة، ليست إلا عمرا للمزيد من الإنتاج والتمايز. يعتبر رشيد جبوج من أهم الشخصيات الثقافية والإعلامية المغاربية. وهو واحد من الشخصيات المسرحية البارزة، بالخصوص مسرح الهواة بالمغرب.
صداقتي برشيد بدأت منذ الثمانينيات، وكان قد التحق بجريدة "أنوال" ليصبح سكرتير التحرير فيها. كنت في مؤتمر ثقافي بمدينة أگادير صادف إنهاء القطيعة بين الجزائر والمغرب في نهاية الثمانينيات. وخلال عودتي إلى الجزائر مررت على الدارالبيضاء والرباط، وزرت الكاتب عبد القادر الشاوي في سجن القنيطرة برفقة الإعلامية والمثقفة ليلى الشافعي. في الرباط، التقيت لأول مرة  بالصديق رشيد جبوج، الذي منحني كتابا كبيرا شمل أعدادا كثيرة من جريدة "أنوال". منذ تلك اللحظة لم تنقطع العلاقة مع رشيد في المغرب والجزائر والبلاد العربية. وكان دائما إنسانا جميلا ومحاورا هادئا.
تعازي الخالصة لوالديه وزوجته وعائلته كافة.
لروحه الرحمة والسلام"...
 
هناك، أيضا، الرفيق محمد الهجابي، أحد رفاق الفقيد، الذي تعرّف عليه في عدة ساحات: ساحة "أوطم" في فاس، وساحة خشبة المسرح الملتزم، وساحة الإعلام مع "أنوال"... يقول الهجابي مستحضرا بعض ومضات هذا المسار:
 
"أجمل اللحظات عشناها معا بفاس في فترة العمل السري وخلال طور وضع "طوليري" لمنظمة 23 مارس، ثم إبان مرحلة الشرعية ضمن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي. كان الرجل وازن المقام وكبير الشأن بيننا. تعرفت عليه أول مرة من خلال مسرحية حول العنصرية كتبها بداية السبعينيات ونشرت بصحيفة "الاختيار" الصادرة بمراكش، وكنا أيامها تلاميذ ثانويات بعد، ثم تعمقت معرفتي به بجامعة محمد بن عبدالله بفاس. اشتغل أستاذا بمدينة المنزل في فترة الخدمة المدنية، ومكلفا بمهام بالاتحاد المغربي للشغل بفاس، ومعه عشنا، وقتها، كـ"طلبة ديمقراطيون" فترة "الاحتكاك" بالطبقة العاملة، ولاسيّما من حيث تنشيط مقر النقابة وإنجاح تظاهرات فاتح ماي، وما فتىء أن تولى إدارة مقر م.ع.د.ش بفاس وسعى إلى تنشيطه باقتدار رفقة رفيقات ورفاق أعزاء. وكان له الإسهام الكبير في تأسيس فرع حركة الشبيبة الديمقراطية بفاس، واشتغل مع نخبة من أطر المنظمة في توفير شروط تنظيمية لإنجاح المؤتمر الأول للمنظمة سنة 1985. وما برح أن التحق بإدارة جريدة "أنوال" ثم محررا بها. وفي التسعينيات انخرط بسلك موظفي وزارة الثقافة، وكان ناجحا في الاضطلاع بالمهام الموكولة إليه وبخاصة من حيث إنجاح دورات المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء. مناضل فذ ورجل عمل ومثابرة. ظل يقاوم أمراضه منذ السبعينيات إلى أن توفاه الأجل. عزاؤنا واحد"...
 
استكمالا لما كتبه الرفيق الهجابي، لابد من الإشارة إلى أن الرفيق الراحل رشيد جبوج بدأ نشاطه المسرحي مؤلفا وممثلا في الآن نفسه، وكانت له آثاره وبصماته النوعية والمتميزة على الأعمال المسرحية الملتزمة، التي ميزت فرقة "المسرح الضاحك" وجمعية الأمل"... بيد أن ما قاله الهجّابي حول (التحاق رشيد بإدارة جريدة "أنوال" ثم بعدها محررا)، يحتاج فقط لبعض الإضاءة... وفي هذا الصدد، يذكر رفيقي سعيد البعقلي، رئيس القسم التقني في "أنوال" بعد مغادرة الرفيق أحمد الحجامي، حادثةً طريفةً وقعت منتصف الثمانينيات: كان رشيد جبوج اشتد عليه مرض المعدة، فنقلوه من فاس إلى الرباط، حيث سيواصل العلاج في مستشفى ابن سينا... لكن رشيد لم يُخبر أحدا من الرفاق بوجوده في الرباط، وهو الذي كان يعرفه جميع الرفاق القياديين، وبالخصوص جميع الرفاق الموجودين في هيئة تحرير "أنوال"، آنذاك... فلم يزره أحد... مرت أيام ووجد الرفيق من يوصل رسالته إلى "أنوال"، شرع الرفاق في قراءتها، ومما جاء فيها عبارة: "فكّوا عني الحصار"... فاستشاط الرفيق الفقيد حسن السوسي غضبا ودودا: "كيفاش نفكوا الحصار وحنا آخر من يعلم بوجوده في الرباط"... كان الرفاق يحبون رشيد جبوج، فـ"جمعوا النوضة"، وزاروه في المستشفى، وتوالت الزيارات، وكان أن خرج من مستشفى ابن سينا، ليرتمي في حضن جريدة "أنوال"، التي أحبها حتى آخر رمق، ليلتحق مباشرة بهيئة التحرير، ثم تولّى رئاسة القسم الثقافي، ولعب دورا كبيرا في تجسير علاقات "أنوال" بالكثير من الكتاب والشعراء والروائيين والقصاصين والمسرحيين والسينمائيين، خصوصا عندما سيتولى مسؤولية سكرتير التحرير ومعها رئاسة القسم التقني، فيما ستتولى الزميلة بديعة الراضي، بكثير من الاقتدار، رئاسة القسم الثقافي... وبقي جبوج كذلك، كما اليوم الأول الذي جاء فيه، إعلاميا بهيا وجميلا، إلى أن غادر الجريدة في سنة 1992، ليلتحق بالعمل في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، قبل أن ينتقل إلى وزارة الثقافة، حيث سيتميّز مساره بإشرافه لعدة سنوات على إدارة المعرض الدولي للكتاب في الدارالبيضاء...
 
بهذه المناسبة الأليمة، نتقدم إلى زوجة فقيدنا رشيد جبوج، زميلتنا بديعة الراضي، وإلى أبنائهما وكافة أفراد الأسرة الكريمة، وكل رفاقه وأصدقائه، بأحر عبارات المواساة، وعزاؤنا واحد...
 
الأطلسي مؤبّنا جبوج: الوطن يستأثر اليوم بجسدك ويخبئه في ثراه
 
 
عقب تشييع جنازة فقيدنا رشيد جبوج، التي حضرها جمهور غفير من الأهل والأحباب والرفاق والأصدقاء، ومن قيادات ومناضلي الاتحاد الاشتراكي، والعديد من أطر العمل المدني والحقوقي والثقافي والمسرحي، تقدم "توأم روح" رشيد جبوج، الإعلامي والكاتب طالع السعود الأطلسي، الذي كان، آنذاك، رئيسا لتحرير جريدة "أنوال"، ليلقي كلمة تأبين جاء فيها:
 
"السادة ذوي العزيز فقيدنا رشيد جبوج، ابناه وأخواه وأفراد عائلته، الحاضرون في هذا التوديع، السادة من عائلته النضالية وهم قرابته السياسية ويتقدمهم أخونا الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الأستاذ إدريس لشكر ومعه أعضاء المكتب السياسي للحزب...
اسمحوا لي بهذه المناجاة أمامكم في هذا الجمع الحزين، مخاطبا فقيدنا، أخي ورفيقي وزميلي رشيد، تشاركنا الحياة لحوالي 55 سنة، أزيد من نصف قرن، هي حياة، روضنا خيالاتنا فيها على اختراق براري الفرح وعلى اجتياز فيافي الألم، ولم نتخيل قط أنفسنا في مثل هذا الوضع، أنت مسجى تطل على روابي النأي إلى ما وراء الأفق، وأنا أمامك وأنت تنفلت مني، بينما يشتد علي وجع لسعات الفراق، كنا طوال هذا العمر المشترك، والزاخر بالأحلام، الأمنيات، الانتصارات، المباهج، الانكسارات والآلام، كنا نرتشف الحياة بكل عذوبتها، ونحلي مرارتها بدفقات الأمل والتفاؤل، وهي التي كانت من صميم إرادتنا ومن جوهر ثقافتنا، لم يكن لنا متسع ولم نكن مستعدين كي نفسح للموت أي انحشار في خيالاتنا...
أخي ورفيقي رشيد، اليوم لا ندفنك، أنت عصي على الدفن، نعم، أتعبك الجسد وضقت به، وها قد تخلصت منه، وحررت روحك من الحجر الجسدي، لتحلق في تلك الفضاءات التي نسجتها، بين ذويك وأقربائك، من عائلتك، من أصدقائك ومن رفاقك، فضاءات المحبة بك، معك، ولك، نحن الآن، إنما، نغرسك في تربة وطنك، نغرسك نبتة "جبوجية"، والتي بها تثمر دوحات وهي فواحات لعطور الأمل ومثمرات بكل ما يحفز على العمل، القيم التي اهتديت بها في حياتك، وصنتها، هي حية ولا تدفن، ذكريات حيويتك، حيث ما كنت لا تموت ولا تطمر، إسهاماتك في المتعدد من انخراطك في السعي الوطني العام للتقدم، وقد كنت مناضلا نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، مناضلا سياسيا في 23 مارس، في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وأخيرا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مبدعا مسرحيا، ومؤلفا وممثلا، صحفيا في جريدة "أنوال"، وفاعلا في إدارة المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، كل تلك المجهودات، وتلك المنجزات لا يمكن دفنها وغير قابلة للمحو ولن يطالها غبار النسيان..
أراك الآن وأنت تنفلت من قبرك، كنت تكره الضيق وتنفر من العتمات، كنت تحب الحياة، وتتلذذ نشواتها، عبر أناقة تعاطيك معها، لأن الفرح عقيدتك، به تمارس إنسانيتك وبه تعقمها، لك ولمن هم حواليك، والأهم، بذلك الفرح تحيا وطنيتك، الوطن عندك فرح ومحبة وانشراح وألق، الوطن يستأثر اليوم بجسدك ويخبئه في ثراه، ويزودك بطاقات الانصهار في المجرى الخالد والمتدفق للذاكرة الوطنية..
طوبى لك، أبناؤك الثلاثة، يونس، الطيب وهاجر، يحمدون لك اليوم ودائما أنك نحثهم بإزميل النجاح وشحنتهم بقدرة العطاء السخي لوطنهم، رفيقة حياتك، أختنا الكاتبة بديعة الراضي تلهج بالامتنان لك على إسنادها بحرارة معنوياتك، طوبى لك، أمك راضية عليك وقد قابلت حنانها بدافئ برك بها وكل ذويك ورفاقك ومعارفك يتدفأون اليوم، ضد صقيع الفقد، بتلك المحبة التي تواصلت بها معهم وبما استودعتهم من جرعات ومقاطع من لطفك ومن فرحك..
لك منا قبلات العرفان وصادق مشاعر الامتنان، اذهب وأنت تنساب مطمئنا إلى شساعة الخلود في ذاكرة الوفاء"...