سورة تآلف الأرواح.. ويسألون عدنان ياسين عن الروح.. قل الروح من أمر محاسن راسخ
ياسين عدنان في لحظة إشراقة جميلة يكتب: كيف صارت هذه السيدة التي في الصورة زوجتي
الكاتب :
"الغد 24"
ياسين عدنان
التقينا أول مرة في سهرةٍ للطرب الأندلسي نظّمتها جمعية مراكشية مولوعة بهذا الفن العريق. تداولنا في الموضوع قليلا فلم نتفق. كنتُ متحمّسًا لجهود صديقنا الأستاذ يونس الشامي، الذي بادر، تلك الأيام، إلى تدوين عدد من النوبات الأندلسية بالكتابة الموسيقية: نوبة الماية فالرَّصد والعُشّاق، ثم نوبة الإصبهان والحجاز الكبير فالحجاز المشرقي...
كنت مؤمِنًا، بدوري، بأن توثيق "موسيقى الآلة" وتدوينها على طريقة التّنغيم (السولفيج) هو السبيل الوحيد لحفظها من الضياع. فيما أبْدَت هي خشيتها على موسيقى الآلة من أن يُفقِدها التَّقييد والكتابة الروح الطَّربية التي يمنحها إيّاها الأداءُ الحرُّ لمُنشديها البارعين في ارتجال التّلوينات والتّزويقات والمشهود لهم بالبراعة في زخرفة الأداء. هذا هو الجوهر الحيّ الذي لا سبيل إلى تدوينه. لهذا تُؤمن هي بالعمل القاعدي لجمعيات الإنشاد في مجالات السماع والملحون والطرب الأندلسي.
وفعلا، زرتُ، في ما بعد، حصَّة أندلسية داخلية من تنظيم إحدى جمعيات مراكش، فلمَحْتُها على يمين الحاج محمد باجدوب تتعلم منه وترافقه في الإنشاد هي وزملاؤها من أعضاء الجمعية: قولٌ وفعلٌ، همستُ في خاطري. ثم أسرَّها يوسف في نفسه.
بعد رحيل خوان غويتيسولو، انقسم صحبُه ومُحبُّوه من أهل مراكش في شأن ترِكَتِه. كنتُ شخصيًّا في طليعة المدافعين عن حقوق الأسرة المغربية التي كانت تُقاسِمُه المسكن. فبيتُ الراحل بدرب سيدي بو الفضايل في حيّ القنارية بالمدينة العتيقة هو أولًا وأساسًا مأوى للناس الذين اختار الكاتب الإسباني الكبير أن يعيش وسطهم كواحدٍ منهم، وفي حضنهم قضى سنوات عمره الأخيرة. لذا من حقّ هذه الأسرة الاحتفاظ بالمنزل، ليبقى الوضع كما كان عليه في حياة صاحب البيت. بيْدَ أنها انحازت بلا تردّدٍ للصفِّ الآخر. فهي ترى أن توفير سكَنٍ بديلٍ لتلك الأسرة أمر ضروري، على مسؤولي المدينة ومدبِّري شؤونها التكفُّل به، أما بيت خوان غويتيسولو فهو أثمن وأغلى من أن يُختزل إلى مجرد غرفٍ للنوم ومطبخ وحمام. يكفي أنه يضمُّ مكتبَ الراحل ومكتبته، مخطوطاته وأرشيفه وآلته الطابعة، إلى جانب بعض أغراضه الحميمة، ملابسه ومتاعه. ثروة رمزية يجدر استثمارُها لتعزيز السياحة الثقافية بمراكش وتنويع أوجُهها ووِجهاتها. ولعلّي اليوم، وأنا أرى بيت غويتيسولو يُغلَق في وجه الصحافة والقنوات التلفزيونية وتعرُّضَ الإعلاميين الذي يحاولون ولوجه للابتزاز، بدأت أميلُ إلى رأيها.
ثم تباينت ردود أفعالنا من جديد ونحن نتابع أشغال ترميم المدينة العتيقة في إطار مشروع "الحاضرة المتجدّدة". كنت متشنِّجا لا أستطيع إخفاء غضبي. ما بالُ عمليات الترميم بدأت تمارِس نوعا من التنميط المُريع الذي يقتلُ الحيوية البصرية والمعمارية لعاصمة المرابطين؟ شركاتٌ تفوز بالصفقات فتبدأ بالاشتغال من فورها، دون أن تكلِّف نفسها التَّروّي قليلا لتنظر في الفروقات العميقة الحاصلة بين هذا الحيّ وتلك الحومة. لا فرق عندهم بين حيٍّ يهوديٍّ كالملّاح وباقي أحياء المسلمين، ولا بين حيٍّ مرابطيٍّ من القرن الحادي عشر وآخر سعديٍّ يعود إلى القرن السادس عشر. يُرمِّمون بشكل ينمِّط كل شيء، ويقتل الاختلاف بين شخصية هذا الحيّ وروح ذاك. حتى الأبواب التي كان المراكشيون يجتهدون في صناعتها بما يُوافق رؤيتهم للعالم. أبواب الحديد الملوَّنة، والأبواب الخشبية المنقوشة، كلها صارت "دفَّة" واحدة. الأبواب صارت خشبية، بطراز موحّد، وأخشى أنّ خامتها رديئة وأنّها لن تصمد ولو لسنوات قليلة أمام عوادي الزمن. كنت أسُوق تحفُّظاتي على ما يُصاحِب ترميم مراكش العتيقة بغضب، فيما ظلّت تهوِّنُ عليّ. رغم أنها تشاطرني الرأي. فقد سبق لها أن كتبت تستنكر "اجتياح البناء بالخرسانة" المدينة العتيقة، وتدافع عن "اللون الأمغر الذي حافظ على الهوية الخاصة بالمدينة منذ تشييدها قبل أن يختلط مع الأسف في أيامنا هذه بفروقٍ لونيةٍ مختلفة حدَّ التناقض"، وتحتجُّ -بأسلوبها شديد التهذيب- على "اختفاء التظاهرات الشَّفهية من البهجة اليومية لساحة جامع الفناء"، وتتحفّظ بدورها على ما رافق الترميم الحالي للمدينة العتيقة من اختلالات، إلا أن رغبتها العالية في الإنصاف جعلها ترى في الترميم الحالي على عِلَّاته إيقافًا للنزيف. المدينة تتداعى أمام أعيننا والتدخل مُلحٌّ استعجالي. صحيح أن عمليات الترميم الجارية حاليًّا طالها الارتجالُ والتَّعسف، لكن -تتساءلُ بارتياب- هل نتركُ الحبل على الغارب؟ ارتيابُها الصادر عن رغبة في الإنصاف والتماسها الأعذار لأخطاء المُبادر المجتهد لم يمنعها، مع ذلك، من كتابة مقالة رصينة مؤخرًا أحصت فيها اختلالات عملية ترميم "باب أكناو". فهل مُراوحتها بين الانتقاد والتفهُّم تردُّدٌ وعجزٌ عن الحسم؟
أبدًا.
فقط لديها ميلٌ نبيلٌ لإنصاف المُبادر المُجتهِد، واستعدادٌ إيجابيٌّ جميلٌ للتفاعل مع مختلف المواقف والآراء، للإنصات الهادئ إلى الآخر، ولعدم الانغلاق داخل القناعة الصّمّاء.
ثم اختلفنا مرة أخرى على الفايسبوك. بسبب الفايسبوك. أنا الذي لا يمكنني أن أعيش زمن الموبايل والإنترنت دون أن أستفيد منهما، وإلا فإنني سأخون نفسي وأخون روح العصر إذا لم أستلهم ما يتيحه لي زمني من أساليب جديدة للعيش ومُمكنات مُستحدَثة للتواصل. من هنا، اعتبرتُ الفايسبوك مثلا فضاء جديدا للعيش المشترك، للكتابة والنشر، للتعبير والتفاعل. فصار هذا الجدار الإلكترونيُّ بيتًا آخر يتيح لي سكَنًا افتراضيًّا أنشر فيه جديدي من برامج وإصدارات، أدوّن فيه أسفاري، وأعبّر فيه عن مواقفي هادئةً ساعةَ الرضا، ناريةً كلما استبدّت بي فورة غضب. أما هي فتعتبر الفايسبوك "سرابًا بِقيعَةٍ يحسبه الظمآنُ ماء". لذا ترتاب منه ولا تحرص عليه. للكاتب أن يكتب، دونَهُ الصحف السيّارة والمجلات المُحكّمة ودور النشر. وللصديق أن يتّصل، فالهواتف مبذولة للجميع. أما ما يملأ الرّحب الفايسبوكي من لايكات ومجاملات واحترابات شرسة وتفاعلات مُحتدمة فهي جعجعة لا ترى لها طحينًا. ثم "لاحِظْ كم يستنزِفُنا التواصل عبر هذا الوسيط حتى أنه بدأ يستلب البعض منا ويشغله عن حياته الحقيقية ويجعله يتخبّط في الأوهام". في كلامها نصيبٌ من الصحة، لكنني مع ذلك لا أشاطرها الرأي. فالطريق المُعبّدة السالكة لا تُهجر لاحتمال التعرُّض لحادثة سير، ولا تُترَك خوفًا من تهوّر السائقين.
لكنني، بالتدريج، صرتُ أغتبط بالاختلاف معها. أحب نبرتها الهادئة في عرض الرأي، في بسط الحجة، وفي إعلان التحفّظ على الفكرة، التي لا تصادف هوى في نفسها ولا تستقر في فكرها.
ولأن الجائحة فرضت على "العابر" المُزمِن الذي كنتُه أن يرتاح من جناحيه قليلا ويجرّب الاستمتاع بـ"الإناخة والمقام" هنا في مراكش، فقد وجدت فيها ملاكا يحرس المدينة في دعةٍ وسكينة. هكذا صرنا نلتقي. على استحياءٍ أولًا. وبحذرٍ. ثم اتّسعت هوامش اللقاء بيننا بالتدريج إلى أن وجدتُني أسعى لأن أسكُن إليها، وارتضَتْ هي الأخرى أن تسكن إليَّ.
هذه السيدة التي في الصورة أسفله صارت، منذ ليلة السبت 30 أكتوبر 2021، زوجتي.