الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

محمد العربي المساري.. هَرَم مغربي شامخ

 
أحمد نشاطي
 
مازلت أذكر ذلك اليوم، كان يوم سبت، 25 يوليوز 2015، حين فقد المغرب هرما شامخا في الفكر والصحافة والسياسة والديبلوماسية والبحث والتاريخ.. هو محمد العربي المساري.. واحد من آخر الرجال المحترمين.. في زمن كثر فيه العبث والعابثون والمتساقطون والانتهازيون وأشباه المثقفين..
 
فقد المغرب منارة لطالما أضاءت لكثير من المغاربة الطريق، وضمنهم عدد من الصحافيين، الذين كانوا يتعلمون منه أبجديات أن تكون صحافيا لا "كتاتبيا"، أن تكون مهنيا باحترافية وليس مرتزقا، أن تكون ما ومن أنت، بكينونتك المواطنية والإنسانية، في محراب الصحافة، ولا شيء غير الصحافة...
 
كان، ضمن جيل مغربي استثنائي، مهموما مسكونا بالكتابة منذ نعومة أظافره.. يكتب في الدفاتر في السبورة، في الشارع والمدرسة، وفي كل مكان... مرة، كنت أوقظ فيه حاسّة الحكي، فحكى لي قصة عجيبة تكاد لا تصدق، وربما لا يعرفها إلا القليلون جدا، قصة تعكس آمال وتطلعات وإرادة جيل.. جيل كان يتطلع إلى مركز الفكر والأدب والإعلام آنذاك، وهو القاهرة.. كان السي العربي في سن المراهقة.. فاتفق هو وثلة من أصدقائه، أبرزهم الأستاذ خالد مشبال.. لشد الرحال إلى أرض الكنانة.. وكذلك كان.. مع فارق، هو العجيب في القصة.. أن السفر كان على الأقدام، وفي الطريق، عاش أولئك الأصدقاء الكثير من المغامرات، في الجزائر وتونس وليبيا، إلى أن وصلوا إلى القاهرة، كان همهم البحث عما يغذي العقل، ليس تلبية لرغبة مثقفية مترفة، وإنما للتسلح بما يكفي لمواجهة إشكالات المرحلة، إشكالات البناء والتحديث والتقدم والدمقرطة... وهذا مؤشر يعكس إرادة ذلك الجيل، وكيف كان مهموما بالوطن، وبالكرامة، وبالحرية والديمقراطية...
 
عنيد في غير صلف وخلافات في رقة ولطف
 
هذه الحادثة، التي رواها لي وسجلتها في جريدة أنوال سنة 1995، تعطي فكرة عن ذلك "الشمالي" العنيد في غير صلف، كان قمة في الرّقي وفي الرقة واللطف في مختلف معاملاته، بما في ذلك أوج خلافاته، كان يختلف بكثير من الأدب، لكنه، في الآن ذاته، كان قمة في "قصوحية الراس"، عندما يؤمن بقضية ما، بفكرة ما، بمشروع ما، يمضي في الطريق إليه حتى النهاية، ومهما كلّفه ذلك... وهي صفة بقيت منعكسة على حياته، عاش معها بأنفة إلى آخر رمق في حياته...
 
بدأ السي العربي مساره الصحفي سنة 1958 من الإذاعة الوطنية، إلى حدود سنة 1964، حيث سيلتحق بأم الصحافة المغربية جريدة "العلم"، التي تدرج فيها من صحافي، إلى رئيس تحرير، إلى مدير.
 
في سنوات التسعينيات، كان مسؤولا حزبيا إعلاميا، وقائدا بحزب الاستقلال، وفي الوقت نفسه كان كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية.
 
كل من عايشوه آنذاك، يجمعون على فرادته، وعلى مسؤوليته العالية وهو يمارس هذه المهمة كنقيب للصحافيين المغاربة، كان السي العربي يعطينا جميعا دروس الالتزام والمسؤولية، وبالخصوص دروس النزاهة، ذلك ما تجسد في حالتين، تمثيلا لا حصرا: الأولى، أنه يعود له أكبر فضل في الوقوف إلى جانب نضال الصحافيين المغاربة من أجل جعل النقابة الوطنية للصحافة المغربية تتشكل من الصحافيين، وليس من الباطرونا، التي سيجري إنشاء غرفة خاصة بها هي "غرفة الناشرين"، قبل أن يؤسس أرباب الجرائد إطارهم الخاص. ولذلك، لم يتردد الصحافيون في انتخابه والتشبث به، بالإجماع، نقيبا لهم... والثانية، عندما كانت تُعرض عليه ملفات الصحافيين، وبعضها كان يعني الهيئة السياسية، التي كان هو من قادتها، حزب الاستقلال، ويتعلق بمنبر إعلامي (لوبينيون مثلا) ناطق باسم الهيئة نفسها، لم يكن السي العربي يَضِيع كثيرا في "التخمام"، والبحث عن إيجاد المخارج، والتناور على شكاية الصحافي، للتغطية على جريدة حزبه، أو أي جريدة لحزب آخر من الخصوم أو الحلفاء، كان السي العربي لا يتردد في الانتصار للمهنة، للصحافة، ولحقوق الصحافي، قبل أي شيء آخر، ولعل هذه الروح الشامخة، النزيهة، التي تميز شخصيته، هي التي جعلته يغادر ما عرف باسم "حكومة التناوب التوافقي" من غير أدنى أسف ولا ندامة...
 
حرية الصحافة في صدارة الإصلاح السياسي
 
كان السي العربي آنذاك يحمل مشروعا كبيرا، وكانت رؤيته واضحة جدا في تنزيل ذلك المشروع، الذي كان يتغيى بلورة إعلام قوي ومتقدم مبني على التوازن والموضوعية، والمهنية والاحترافية، وعلى الحرية والمسؤولية... كان دائما مهموما منشغلا بملفات الصحافة المغربية، ومن مكر التاريخ، أن السي العربي وهو يطرق الأبواب محملا بملفاته، سيفاجئونه بالقول إنه أفضل من سيعمل على تلك الملفات من موقع الوزير... وكذلك كان.. إذ كان الأنزه والأكثر وفاء لملفاته ولمشاريعه ولنبضات "قبيلة" الصحافة.. وكان من الطبيعي أن يصطدم بكثير من العقبات.. كان الإعلام العمومي في عهده تتحكم فيه أم الوزارات.. من خلال مسؤولين اثنين، واحد برتبة والي، والثاني برتبة عامل، يتبعان لوزير الداخلية القوي آنذاك إدريس البصري، حاول السي العربي التخلص منهما، ولمّا لم يجد سبيلا إلى ذلك، طلب من الوزير الأول السي عبد الرحمن اليوسفي أن يعيد المعنيين إلى وزارتهما الأصل، ولما لم يتحقق ذلك، كما لم يتحقق حلمه في إخراج مشروع متقدم للصحافة، دبّج رسالة استقالته، التي تناقلنا أخبارها المعروفة، قبل أن يجدوا معه تسوية: تعديل حكومي في سبتمبر 2000، أُجري خصيصا للسي العربي لينسحب من الحكومة، إذ بغير ذلك، الجميع يعلم أن السي العربي لن يتردد قيد أنملة في وضع الاستقالة وقلب الطاولة وضرب الباب...
 
رغم القرحة التي خلفها لدينا قرار خروجه من الحكومة إلا أنه كان سببا للفرحة فالمساري خرج منها كما دخل أبيا شامخا وكنا فرحين لأننا ربحنا نقيبنا الجميل ولو أننا خسرنا الوزير
 
لم يكن السي العربي ممن تغيرهم المناصب، ويقلبون "الفيستة".. ظل في مقدمة المدافعين عن حرية الصحافة، سواء في موقع نقيب الصحافيين، أو في موقع وزير الاتصال، وجعل من قضية حرية الصحافة، في صدارة ملفات الإصلاح السياسي، ولذلك، أعد مشروع قانون للصحافة يستجيب لآمال المرحلة، التي كانت ترفع شعارات التغيير الديمقراطي، ويترجم تطلعات أسرة الصحافة وعموم الديمقراطيين... وكما حدث مع رموز الداخلية في الإعلام، اصطدم مشروعه الإصلاحي بالتماطلات، والتلكؤات، قبل الوصول إلى الباب المسدود.. فدبج استقالته، لأن الأبي المناضل الديمقراطي فيه لا يمكن أن يسمح له أن يتحول من وزير إلى مجرد موظف سام، بلا فعل ولا قرارات ولا تأثير... قدم استقالته، ومضى بلا التفات...
 
ولأن المسألة كانت تشكل خروجا على التقاليد المخزنية المرعية، فقد تركوه محتفظا باستقالته إلى أن بصموا على النسخة الثانية من حكومة اليوسفي في سبتمبر 2000، فأبعدوه، وانطلق هو رافعا رأسه...
 
ورغم الغصة والقرحة اللتين خلفهما لدينا القرار، إلا أنه في المحصلة كان سببا للفرحة، كان بمثابة زغرودة لعرس الصحافة المسؤولة الشامخة، وليست الصحافة الارتزاقية والمنكسرة، فالمساري خرج من الحكومة كما دخل، كنا فرحين لأننا ربحنا نقيبنا الجميل ولو أننا خسرنا الوزير...
 
السي العربي والشعب و20 فبراير
 
كذلك كان، السي العربي، وكذلك بقي، في كل منعرجات حياته، في النقابة وفي الحزب، في السياسة وفي الديبلوماسية، في الفكر وفي الكتابة... وفي مختلف هذه المحطات والمجالات هناك تفاصيل تكاد لا تنتهي... ولذلك نجمل الحديث عند حالة خاصة تتعلق بخاصية استثنائية ظل نقيبنا يتحلى بها... تتمثل في روحه الحية، الأكثر إنصاتا لنبضات الشعب... كان الأستاذ الراحل عبد الكريم غلاب، الذي كان يمتّعنا بزاويته اليومية القوية "مع الشعب"، يولي الكثير من التقدير والاعتزاز للسي العربي، ولما يكتب، ولقدرته العجيبة على التحليل وعلى استشراف المستقبل، وعلى أن يكون دائما "مع الشعب"، بنسائه ورجاله، بشيوخه وشبابه وأطفاله... ولذلك، عندما انطلقت أولى نداءات الشباب المغربي للخروج في 20 فبراير، وفي الوقت الذي اختار العديد من المفكرين والكتاب والمثقفين الصمت والانزواء إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، كان السي العربي، كما هو دائما، مع الشعب... ظل مسكونا بما يجري "منذ أسبوعين أو أكثر يملأني إحساس خاص إزاء نداء 20 فبراير"، يكتب السي العربي يوم الأحد 20 فبراير... في ذلك الأحد الربيعي، كتب عن ملحمة "ديغاج" وهي "تمثل ذلك التونسي الذي وقف في وسط الشارع، في وضع المتأهب لإطلاق النار، وهو يُشهر "كوميرة" في وجه كوكبة من قوات الأمن وهي تهرول في اتجاه المكان، الذي كان يوجد فيه. كانت الوكالة التي نقلت الصورة قد اعتبرت أن الرجل مهبول مشغول بتوهماته عما كان يجري أمامه. وقد بقي مسجلا في التاريخ أن المهرولين في اتجاهه هم الذين ذهبوا مع من كانوا يأمرونهم، وبقيت للتاريخ صورة رجل الكوميرة تشير إلى إرادة حركت الأوضاع". تحدث السي العربي، أيضا، عن "ديغاج" في مصر، معتبرا أن "الشعوب العربية فتحت قاموس المفاهيم المتعارف عليها عالميا، وقرأت جيدا أن الديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميا تبدأ بجملة فعلية يصرّف فيها فعل انتخب ينتخب بطريقة سليمة تؤدي إلى برلمان منتخب بدون "برّق ما تقشع"، وحكومة يمكن أن تُساءل عن أعمالها، وأحزاب لا تنتجها بهلوانيات من طراز سبق رؤيته".
 
عندما انطلقت نداءات الشباب المغربي للخروج في 20 فبراير وارتكن العديد من الكتاب والمثقفين والسياسيين إلى الصمت والانزواء اختار السي العربي أن يكون مع الشعب
 
هذا هو السي العربي.. فيما قد يوحي للبعض أنه معتكف في "برج عاجي" يكتب وينظّر،، يكون هو في الواقع، وعمليا، مع الشعب، مع الناس...
 
لكل ذلك وغيره، كان السي العربي هرما شامخا.. كذلك عايشناه.. وفي مختلف منعرجات السير، لم يتغير ولم يتلون.. إذ نتذكره اليوم، فسيبقى معنا أبدا، مثلما عرفناه، هرما سياسيا وإعلاميا وثقافيا وفكريا شامخا وجميلا شموخ الحمامة البيضاء في تطاون الجميلة...
 
 
محمد العربي المساري في سطور
- من مواليد تطوان يوم 8 يوليوز 1936، وهو متزوج له ثلاثة أبناء.. الزوجة ثريا الشرقاوي القاسمي. والأبناء نزار (1965) ومنى (1968) وياسر (1969).
له كتابات بالعربية والإسبانية والبرتغالية.
- اشتغل في الإذاعة من 1958 إلى 1964. التحق بجريدة العلم التي تدرج فيها من صحافي إلى رئيس التحرير إلى مدير.
- انتخب كاتبا عاما لاتحاد كتاب المغرب في ثلاث ولايات 64 و69 و72. عضو الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب منذ 1969 ثم نائب رئيس للاتحاد في 1996 حتى 1998.
- بين 1984-1992 ترأس محمد العربي المساري الفريق النيابي الاستقلالي للوحدة والتعادلية في البرلمان.
- سنة 1978 نسق فريق المثقفين الإسبان والمغاربة. في 1996 أصبح عضوا في لجنة ابن رشد للحوار مع إسبانيا. عضو المجلس الإداري لمؤسسة الثقافات الثلاث للمتوسط التي يقع مقرها في إشبيلية في سنة 2000، وتم تجديد عضويته بقرار ملكي في 2004. عضو لجنة تحكيم جائزة اليونيسكو لحرية الصحافة "غييرمو كانو" لسنوات 2002 و2003 و2004. ترأس لجنة التحكيم للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة 2003، كما ترأس لجنة جائزة المغرب للآداب سنة 2004.
- اختاره الرئيس عبدو ضيوف الأمين العام للفرانكوفونية من بين ثلاثين شخصية من مختلف أنحاء العالم عضوا في لجنة دولية لرعاية التعددية الثقافية في العالم.
- له عدة مؤلفات بالعربية والإسبانية والبرتغالية، في موضوعات أدبية وسياسية وتاريخية وفي العلاقات الدولية، منها: "معركتنا ضد الصهيونية والإمبريالية" سنة 1967 و"المغرب/إسبانيا في آخر مواجهة" 1974 و"الأرض في نضالنا السياسي بعد الاستقلال" 1980 و"صباح الخير أيتها الديمقراطية" 1985 و"المغرب بأصوات متعددة" 1996 و"المغرب ومحيطه" 1998 و"محمد الخامس: من سلطان إلى ملك" 2009 و"ابن عبد الكريم الخطابي من القبيلة إلى الوطن" 2012.