مذكرات "شهادات حية من الماضي": اليسار الجميل.. علال الأزهر المناضل المُرْهَف الصَّلْب
الكاتب :
"الغد 24"
نور الدين العوفي
قرأتُ، بكثير من المتعة والفائدة، الجزء الأول من مذكرات الصديق علال الأزهر، الصادرة هذا العام تحت عنوان "شهادات حية من الماضي". المتعة مأْتاها من الأسلوب العذب، الذي تتميز به، كالعادة، كتب علال الأزهر ومقالاته، ومأْتاها أيضاً من السرد الشيق الذي ابتدعه بتَحْشِية النص بمقاطع أطلق عليها "هلْوسات ميِّت"، أو "أحاديث الجثة"، والتي اختار أن تُحدِّث فيها ذاتُه ذاتَه، قبل القارئ، وأن يبُثَّ فيها بعضاً من "هلوساته"، ومن لواعج النفس التي ترسَّب فيها، مع الزمن، "شيءٌ من حتَّى". وأما الفائدة فمردُّها إلى ما يمتلئ به الكتاب من "شهادات حية" عن تجربة حياة، تجربة متموجة، مُرَّة لكنها لا تخلو من حلو، قاسية وفيها ومْضُ العشق، والشوق، وبارق الأمل.
هي أولاً، تجربة إنسانية قل نظيرها، علال يسبق قلبُه عقْلَه، ويصفو عقلُه بصفاء قلبه. قلب مرهف تحز نياطَه الإساءةُ، وظلم ذوي القربى من "الرفاق".
وهي ثانياً، "تجربة ذهنية" ثرية، صقلها الإصرار على التعلُّم، وجلَتْها المواظبة على القراءة. قراءتُه لسارْترية سارْتر قبل ماركسية ماركس لابدّ أنها قد طبعت "التركيبة الذهنية" لديه بتفاعل الوجد، والجود، والوجود.
وهي ثالثاً، في الجوهر، "تجربة سياسية" باذخة، حالمة، متوثبة. علال فاعلٌ في نشأة "اليسار الجديد"، وفي إمداده بالموارد الفكرية، وبالرؤى السياسية، فعَّال في مجراه ومرساه، في مدِّه وجزْره، شاهدٌ على صعوده، وهبوطه، وعلى نهوضه بعد أن خمد الجمر وخف الرصاص. يُراجعُ حلقات التجربة بصيغة الذات، يسرد فصولها الحارقة كما اكتوى بها، لا يدعي بطولة أمام الجلاد، ولا يداري لحظة ضعف في غيابة السجن، أو حالة "غثيان" عندما "تصْطكُّ مشاعره"، و"تختل في ذهنه المقاييس"، فيشُكُّ في "تركيبته النفسية". تركيبةٌ نفْسية، هي في الحقيقة لا عوج فيها، إنسانية بكل المقاييس، سليمة ومكينة، رقيقة، لكنها متينة لم تهزمها أوْصابُ "الحياة البئيسة"، ولم ينل منها إيذاء "الرفاق" داخل السجن. يقوم "بعملية تعرية لكل الأحداث والوقائع والممارسات" المدفونة في "قاع اللاوعي"، فينكشف، من الداخل/السجن، "الوجه الآخر" لليسار، تتغوَّل القصووية، فيغيض الحلم، ويرْتدُّ خطوات إلى الوراء.
علال مناضل أخلاقي حتى النخاع، في الحياة وفي السياسة، في السجن وخارج السجن، مناضل ينتمي إلى "اليسار الجميل"، الذي يُماهي بين المبدأ والسلوك، ويجعل من اجتراح الإيتيكا في العمل السياسي سبيلاً نحو تحصيل غاية التغيير، وبناء "المغرب الجميل". كان على صواب في جُلَّ مواقفه الفكرية والسياسية، ويُعدُّ كتابه حول الصحراء المغربية (صدر سنة 1988، وأُعيد نشره تحت عنوان "الصحراء المغربية، جدل الوحدة والتجزئة"، دار التوحيدي، 2020)، الذي كتبه وهو في عُزْلة داخل العُزْلة، وثيقة فكرية هامة تدحض تهافت الأطروحة التي تضع القضية الطبقية فوق، وقبل القضية الوطنية.
في صباح يوم 7 ماي 1989، سوف ينزاح الكابوس "الذي دام أربعة عشر عاماً، وستة أشهر، وسبعة أيام"، لتمتد رحلة الألف ميل، التي بدأت بخطوة، مُتلمِّسة الطريق نحو "دمقرطة الدولة، ودمقرطة المجتمع".