تقديم إبراهيم موطى لمذكرات يساري مغربي لمحمد فكري: مسيرة الزغبي المبروك
الكاتب :
"الغد 24"
إبراهيم موطى
كم راودتني وألحت علي رغبة أن أدوّن بعضا من ذكرياتي، لكنني وجدت نفسي عاجـزا عن ذلك، لأسباب أقنع نفسي بها، وأخرى دفينة ربما أحس بها لكنني لا أستطيع عقلنتها.. فأحيانا لا أرى فيها شيئا بالغ الأهمية يستحق التدوين، وربما بسبب التكاسل.. لا أدري.. لكن الأكيد أن تدوين ذكريات ليس بالأمر البسيط، خاصة إذا كانت مثقلة بأحداث عصيبة وبتجارب حياتية قاسية... فتحويلها إلى كلمات فوق الورق ليس لعبة مسلية، إذ تقتضي تذكـر تفاصيلها والغوص في ملابساتها. فالذكريات تلك ليست سطحا ناعما أو عشبا مسطحا ليّنا تتجول فوقه، فستجد نفسك تصطدم بصخور صلبة وتضاريس مسننة وبؤر عميقة.. وأحيانا تجرك عواصف الذكريات، أحيانا قارسة وأحيانا حارقة، تلقي بك بعيدا، وتتقاذفك أمواج عاتية.. فتغرق في التفاصيل... وفي التفاصيل تكمن ليس فقط الشياطين كما يقال، بل كذلك الجن والوحوش. قد تستمتع ببعض الذكريات الجميلة أو التي تتخيلها كذلك، لكن استرجاع الأحداث الأليمة التي عانينا فيها تجربة الفقر والحرمان والكبت والغبن والاضطهاد والقمع والتعذيب النفسي والجسدي ليست هينة، بل هي تجعل الإنسان يعيش التجربة مرة أخـرى ويكابدها. ربما ذلك بعض من أسباب تهربي من العودة للماضي، محاولا نسيان أكثر ما أستطيع.
لكن رفيقي محمد فكري بكتابة بعض من ذكرياته عاد بي رغما عني إلى الماضي خاصة المشترك في تجربتنا معا. ولذلك، ولبعض ما ذكرت من أسباب، فإني أقدر عمله، لما تحلى به من جـرأة وشجاعة ليخوض في طفولته الصعبة وفي مرحلة سنوات الرصاص، بما لها وما عليها، وهو مؤهل لذلك بما يمتاز به من ذاكرة قوية، كثيرا ما نرجع إليه ليذكرنا ببعض الأحداث والتواريخ، ولطيبوبته وإنسانيته التي فتحت له أحضان الجميع، فكان صديق الجميع لا يعرف ضغينة ولا حقدا، صاف وطبيعي كنبع جبلي، صادق وكريم كأهل قرية أجداده على تخوم الصحراء.
ومن صفاته حفظ الأمانة والأسرار؛ لا يفصح عنها إلا لضرورة قصوى.. ومنها أسرار حياته الخاصة.. لذلك عندما قرأت ذكرياته عن تجربة الاعتقال وسيرته؛ "سيرة الزغبي المنحوس"، فوجئت بأنني لا أعرف إلا النزر القليل عن "بّا فكار".. وعن معاناته وخاصة مرحلة الطفولة والمراهقة.. اكتشفت أني لم أكن أعرف إلا عناوين.. وما خفي عني كان أعظم.. أنا الذي عاشرته في جزء من حياته النضالية في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والرابطة الفكرية بمراكش، وفي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالرباط، وفي تجربة منظمة 23 مارس، وفي سراديب "درب مولاي الشريف" وسجن غبيلة بالدارالبيضاء.. ثم طيلة 8 سنوات بالسجن المركزي بالقنيطرة حيث سكن معي أغلب هذه الفترة في زنزانة واحدة وتقاسمنا الحلو والمر.. لم أذكره يشكو يوما من شيء.. كان ماضيه وحاضره ومستقبله هو الوطن والجماهير الشعبية والأمة العربية والقيم الإنسانية: الحرية والكرامة والنضال ضد الظلم التي وسمت شخصيته منذ نعومته في تمرده ضد كل القيود الظالمة، سواء في الأسرة أو في المجتمع.. لذلك فلا غرابة أنه ترك السبل السهلة وسلك المعابر الصعبة بحثا عن الحرية والكرامة.. فلذلك كان بعض أبطال الروايات يذكرونني بصديقي وأخي فكري "الذي لم تلده أمي"، كما كان يصفني.
وأنوه كذلك بتذكره وتذكيره بعدد من الأصدقاء والصديقات من التلاميذ والطلبة والمثقفين والعمال والفلاحين والحرفيين خاصة بمراكش، الذين ساهموا في تجربة النضال الوطني والديمقراطي، سواء في مقاومة الاستعمار أو في مواجهة الاستبداد والظلم والفقر والاستغلال، وضحوا بحياتهم وفضلوا مصلحة الوطن على مصلحتهم الذاتية وكافحوا من أجل بناء مستقبل بلدهم.. في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والتنويرية والفنية والسياسية والنقابية.. وقد اغتنينا بتجربتهم وأفكارهم ومبادئهم وكانوا لنا قدوة وبوصلة.
ومعايشة "با فكار" لأجيال من المناضلين جعل حياة حرمانه وفقره غنية عاطفيا وإنسانيا... فأصبح الزغبي المنحوس محظوظا مبروكا بخزان علاقاته الإنسانية وحب رفاقه وأصدقائه.