الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الفقيد عمر الجابري على اليمين والفقيد عبد الله جهاد

إنهم يرحلون... عمر الجابري يغادرنا بدون طقوس وعبد الله جهاد يترك منجله ويرحل

 
محمد السكتاوي
 
 
تلقيت، صباح أول أمس الثلاثاء 31 غشت 2021، الخبر المفجع.. الموت المفاجئ للمناضل عمر الجابري.. لم أصدق..
أحيانا لا تتصور أن الموت قد تنال من أحبائك.
عمر عرفته عن كثب واشتغلت معه سنين طويلة في التضامن الجامعي المغربي،
كان مناضلا نزيها خلوقا وفيا مقلاًّ في الكلام ومُكثراً في العمل والفعل، يشتغل في هدوء دون أن يجعل أحدا ينتبه إليه،
يستغرقه العمل السياسي حتى تكاد تقول إنه ولد لممارسة السياسة،
ويستغرقه العمل الجماعي والجمعوي حتّى تكاد تقول إن هذا الرجل ولد من أجل خدمة الآخرين.
مناضل مثل نهر تلتقي فيه كل الروافد،
ولأنه ابن واحة فگيگ الفيحاء ومشتل الكثير من المناضلين، فقد كان نخلةٌ يلوذ بظلها كل الذين تنهكهم طريق الحياة.
عزاؤنا واحد ولروحه الطاهرة السلام
 
♦♦♦♦
 
منذ أسبوع رحل عنا في صمت المناضل عبد الله جهاد...
لم ينعه أحد ولم يذكر أحد اسمه في شبكات الفضاء الأزرق،
كما لو أنه لم يكن واحدا من طلائع من وقفوا شامخين في سنوات الرصاص، عرف السجون والاختطاف والتعذيب والطرد من العمل،
وتعفف، رغم حاجته، أن يأخذ تعويضا مستحقا لجبر أضراره الكثيرة من هيأة الانصاف والمصالحة، ويقول ساخرا بلكنته الجبلية: من خسر معركته لا يجب أن يطلب تعويضا عن الخسران...
ويضيف: ناضلنا من أجل أن نرى الوطن قويا بالديمقراطية صاعدا بين الأوطان بالعدالة والمساواة، لا أن نقتطع من قوت شعبنا وضرائبه ومعاناته ما نتيَسَّر به. تعويضنا أن نرعى ما غرسناه بعذاباتنا حتى تنمو زَهْرَة الأمل في عيون أبنائنا.
كانت هذه عقيدته، فسمى بنْتَه أمل وابنَه عادل، وهو جهاد وصمود، كل من زاره في بيته المتواضع في الرباط لن يسمع سوى هذه الأسماء بما تحمله من قيم وصفاء وحلم.
ويعرف من عاش معه تجربة الاعتقال أنه كان لا يكف عن إشاعة الفرح بين المحيطين به، يبث روح الثبات في مواجهة اليأس، ويذكي جذوة الإصرار والتحدي في مواجهة الإحباط، فلا فرق عنده بين جدران السجن الصغير بعسسه وجدران الاستبداد التي تسيج الوطن بالقهر والاضطهاد...
سياتي بينهما..
فهنا وهناك تذبح الحرية وتُداس الكرامة الإنسانية.
حين أشرف على استكمال الأربعين يوما من الإضراب عن الطعام في سجن لعلو مع رفاقه عبد الرحمن بنعمرو ومحمد الصبار ومحمد الفلاحي، التفت إليهم مبتسما: ها نحن مقبلون على الموت، ولكن لا تنسوا أنكم بالموت تبذرون الأرض بالحياة...
منطق الفلاح ابن القرية، لا يعرف لغة دياليكتيك والتكتيك وحساب الموازين،
لغته بسيطة واضحة وحاسمة تعلمها صغيرا لما كان يحرث الأرض إلى جانب أبيه في قبيلة بني مسارة، ويضرب بالمنجل سيقان السنابل في مواسم الحصاد تحت زغاريد النساء...
تلكَ عنده هي قاعدة نفي النفي يقولها لرفاقه لتهدئتهم بطريقته المرحة كلما احتد بينهم النقاش حول ترتيب التناقض وتحديد طبقات الأعداء وأولويات البرنامج النضالي.
كان نوبير الأموي قائد الكونفدرالية الديمقراطية للشغل يشاركه في منطقه فقرّبه منه وشاركه في أسراره وتحركاته تحت الأرض في سنوات الرصاص، وصار ظله الذي لا يُرى، وحينما كانت طريقه تمتلئ بالوحل يعود إليه ليرشده بصفاء بصيرته إلى الطريق السالك.
لم يتحمل عبد الله جهاد أية مسؤولية قيادية في أجهزة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ولم يكن يقف عند قراءة خريطة الصراع الطبقي ثم ينصرف لقضاء مصالحه الخاصة، فرؤيته للنضال أن يكون متواجداً في الميدان مع العمال والفلاحين والناس البسطاء، يعيش حياتهم في الأسواق والأحياء الفقيرة والحقول، يتعلم منهم الصبر والدأب اليومي على صناعة الحياة بالعرق والكد والمثابرة، ويرى بالملموس وليس بالتحليل في مجالس النقاش كيف يسرق فائض القيمة، ظل لصيقا بهم بقدر ما يتعلم منهم، يعلمهم ويشاركهم كيف يدافعون عن أنفسهم من أجل الكرامة.
حرص نوبير الأموي مرارا على أن يستدعيه إلى اجتماعات المجالس الوطنية للنقابة رغم أنه لا يملك صفة الحضور، وتقديمه أمام ذهول الجميع الذين لا يعرفونه في أغلبهم، كمناضل يمثل حالة نضالية متفردة في العطاء والتضحية والتواضع، وكجذر من جذور الكونفدرالية واليسار الضاربة في الأعماق السحيقة لتربة الكفاح الطبقي في المغرب.
لم يتوجع عبد الله جهاد كما توجع حينما رأى اليسار يتصدع وينقسم ويتوالد، لما تلتقي به تجده غاضبا يخرجْ الكلام من فمِه كقوة السيل مندفعا حتى تكاد لا تعرف ماذا يقول، لا يتهم أحدا ولا يدافع عن أحد، يرفع يده ويشد قبضته ويصمت قليلا ثم يقول بصوت هادئ ونبرات واضحة: ورغم ذلك سنستمر...
يعود جهاد إلى قريته يرتدي جُبّةَ الفلاح
ويخرج كل يوم إلى حقله الصغير على كتفه منجل وزوادة بها رغيف وزيتون وماء. لمّا يناله التعب يمسح العرق الذي يرشح من جبهته بكم جلبابه القصير ويهمس لا يسمعه أحد:
ورغم ذلك سنستمر...
منذ بضعة أيام لم يقو على الخروج إلى الحقل، كان يتنفس بصعوبة، تم نقْله إلى مستشفى مدينة وزان البسيط والضعيف التجهيزات، كان الوباء اللعين قد دمر رئته
حرك يده وشد قبضته، ثم أسلم الروح...