أحمد حبشي يكتب: عبد اللطيف ازريكم.. مكارم الارتقاء
الكاتب :
"الغد 24"
أحمد حبشي
رحل رفيقي، الذي كان أكثرنا حرصا على تمتين الروابط والوفاء بالعهود والجهر بالحقيقة، لم يتسع نبضه المتعب لبسمة وداع. ودعنا دون أن يرفع يده كما اعتاد أن يفعل عند كل لقاء. كان أنينه من مسافة يصل مجلجلا ينبض بالحياة. يعدد في حبور تفاصيل مناه، وما أقر عزمه بعد أن يغادر لحظة استرخاء شلت فورة حركاته.
اتسع مدار بهجته منذ أن استعاد هدوء القرية ونسائم الدوار، أقر أن يبسط جزءًا من فورة أفكاره ويفيد الناس بما تستحقه الحياة. وطّد العلائق بالكشف عن كل نواياه، فكان الاحتضان الواسع وصار منارة في الاستقامة والاتزان. تجاوزت العشيرة كل توجسها مما كان يشاع عنه من غلو في الكلام، وأنه رهينة ماض مثقل بالنائبات والأشجان، هو الذي كان لا يحتمل الحديث عن مجريات ما يتداوله الناس باطمئنان. يسمّي الأشياء بأسمائها ولا يخشى صولة الطغيان. أبهره الاحتضان بعد أن طال به المقام، فاهتدى إلى تقوية الأواصر وتوحيد الفعل الخلاق، توطدت الروابط وسما الإقرار بالنفع العام والسعي الحثيث لخدمة الأجيال، فكانت الإعدادية في ملتقى الحقول ثمرة تمتين الوشائج والحد من تباين الفوارق. هكذا ارتقى بين أحضان سلالته، حيث شب على الصدق والوفاء، أينعت أشجار واتسعت عطاءات الحقول.
في مسار فورة خطاه الثابتة لبسط كل معاني العدالة وصيانة الحقوق. أعلن في الناس عزمه على الوقوف في وجه التسلط والطغيان، وبسط كل معاني الحقيقة وشق دواعي الخذلان.
قبل أن يكتمل عقده الثاني، صار مطلوبا أكثر من غيره لدى دوائر الاستعلامات، اسمه وشكل ملامحه في لائحة المتهمين بالتحريض على العصيان، كان قد رفع إيقاع التحدي من أجل تحقيق مبتغى الارتقاء بالوطن لمدارج الرقي والازدهار. غادر مراكش القادم إليها من سفوح زمران لاستكمال دراسته، حين اهتدى إلى حقيقة غايته بأن يواصل مسيرته النضالية، وانتهى به المقام بالدارالبيضاء، رفقة توأم روحه محمد بلوط. كان ذلك بتوجيه من رفاقه الذين استشعروا حجم الخسارة في الحد من حركيته وقوة تأثيره الواسع في محيطه الذي شب وترعرع فيه. وكذا حتى يتمكن من مواصلة نضاله الوازن وفورة عطائه. ثم لأنه كان قائدا بارزا في الحركة التلاميذية التي أعلنت فورتها بإشهار العصيان، رافضة أن تساق كالقطيع والامتثال لهرطقة الإصلاح وتسويف المطالب وقمع التطلعات.
تمكن بعزمه وقوة فعاليته، ان يعدد قنوات اتصالاته بأغلب الثانويات، وأن يرفع من إيقاع التحدي بكل استقامة واتزان. لا يهاب المخاطر ولا تصده صفارات الإنذار.
عرفت صلابة عزمه قبل أن أراه، سما اسمه بعد أن جلجل صوته في ممر المعتقل، كان صراخه يطفح بلغة التحدي ونحن في الزنازين نستهجن سفالة الاستصغار. "هذا صوت الطلبة والمدير يجي دابا" تلك كانت أول حركة تمرد بعد أن أصبحنا رسميا في عداد المعتقلين. ردنا الأول على استصغار الإدارة لردة فعلنا، بعد الاستقبال الماس بالكرامة والإفراط في الاستهجان، الذي قوبلنا به نحن القادمون من المعتقل السري، حيث كنا ما بين الحياة والموت. جربت إدارة السجن، منذ البداية، أن تحد من فورتنا، واهمة أن رجالها أشد قسوة من عسكر المخافر. فكان الرد تمردا أطلق شرارته رفاق علت أصواتهم ولأول مرة يتم تداول أسمائهم، محمد معروف وأحمد ركيز وعبد اللطيف زريكم، ارتفعت حناجرنا ودب الرعب في الجلاد فهاجمنا بكل قواه، مستعينا ببعض معتقلي الحق العام، لتفكيك وحدتنا وشل ردة فعلنا. فكان أن حققنا أول نصر على السجان بأن نقل بعض الرفاق إلى المستشفى لاستكمال العلاج، وجنحت الإدارة إلى ما يشبه الحوار. كان ذلك أبرز اصطدام أيقنت معه إدارة السجن المحلي بالبيضاء أنا نختلف في عزمنا، وأنا لا نرضى أن تمس كرامة أي منا. توطدت أسس تآزرنا وسمت علاقات التعاضد بيننا فارتقى فعلنا المشترك إلى قوة لا حدود لردة فعلها عند كل استهتار أو تعامل خارج اللياقة والمعاملة باحترام.
في كل تفاصيل المواجهات داخل السجن، كان عبد اللطيف حاضرا، يرفع صوته ما استطاع، يتقدم الصفوف يسرد المطالب ويستعجل الإنجاز. توطدت وحدة فعلنا وانتهينا إلى أقصى ما يمكن أن تستجيب له إدارة المعتقل صاغرة في استسلام...
رفيقي متعدد المكارم رحل، أوصانا بالوطن خيرا والوفاء بالعهود إجلالا وتقديرا، فلصفاء روحه وفخرا بما أسداه للمّتنا من جليل العطاء، نؤكد عزمنا على أن نواصل الخطو على نهجه وعفة نفسه، ولروحه الطاهرة تحية إكبار وألف سلام.