الناشر أحمد المرادي خلال الدورة الـ39 من معرض الشارقة الدولي للكتاب نوفمبر 2020
فضيحة "صفقة الكتاب" بـ5 ملايير سنتيم.. صناعة الكتاب والجانب المخفي من كرة الثلج
الكاتب :
"الغد 24"
حميد أحمد المرادي
أثارت "الصفقة"، التي كانت قد أطلقتها وزارة الشبيبة والرياضة والثقافة (قطاع الشبيبة والرياضة)، العديد من ردود الفعل المُدينة لتبذير المال العام، والمشَكَّل في جزء منه من الضرائب التي يؤديها المغاربة مباشرة أو بشكل غير مباشر.
وقد كانت ردود الفعل القوية من جانب الفاعلين في قطاع النشر، وخاصة منهم الفاعلون في صناعة الكتاب، من ناشرين ومكتبيين، وموزعين وكُتّاب كذلك.
حيثيات مشروع الصفقة "الفضيحة"
1- ما يميز هذه الصفقة هو مبلغ الاعتماد المخصص لها، والذي تجاوز 5 ملايير سنتيم، واقتصارها على كتب الأطفال من عمر 4 إلى 18 سنة، واقتصارها على 17 دار نشر من ضمن 40 دار نشر عاملة في المغرب، وإقصاء المكتبات من الاستفادة، واختيار، خارج المعايير المعمول بها ثقافيا، 35 كتابا من ضمن الإصدارات المغربية الخاصة بالأطفال فقط.
2- يتبيّن، من خلال المسح، الذي أنجزناه للائحة الكتب المطلوبة هو اقتصارها على جهات محدودة من قطاع النشر، لا تتوفر في غالبيتها على شروط النشر والمهنية المطلوبة.
3- يمكن القول كذلك إن الكميات المطلوبة مُبالغٌ في عدد نسخها (بين 30000 و45000 نسخة) من كل كتاب، في وقت لا تتجاوز فيه الكمية المطبوعة لدى الناشرين بكل أطيافهم (المطبوعة أوفسيت وليس رقميا) 500 نسخة، وفي أقصى الحالات 4000 نسخة، وغالبا ما تكون حالات استثنائية. فهل كان سيتم طبع هذه الكميات خصوصا لهذه الصفقة؟!!!
4- تم الإعلان عن الصفقة في شرطين دقيقين، وهما شرط الوباء كوفيد-19 وشرط الانتخابات ونهاية عهد الحكومة الحالية، وهما شرطان يطرحان إشكالية كبرى في منظومة الحكامة، التي أكد عليها النموذج التنموي الجديد والتوجهات العامة لمؤسسات الدولة في أعلى مستوياتها.
فرغم أن الصفقة، التي كان من المفروض فتح أظرفتها يوم 13 غشت 2021، قد تم توقيفها تبعا لمذكرة وزارة الداخلية، التي نصت على توقيف الصفقات العمومية في الشهور السابقة على الانتخابات، لكنها تطرح إشكالية التعامل مع نشر الكتاب في المغرب...
منظمات القطاع بين الدفاع عن مصالح الأعضاء واغتنام الفرص
تتقاسم قطاع النشر، حاليا، ثلاث تنظيمات مهنية، في مرحلة أولى انوجدت الجمعية المغربية للناشرين، وتشكلت من مكتبيين في الحبوس في الدارالبيضاء، وأهم مجال لعملهم هو الكتاب المدرسي، بالإضافة إلى الكتاب الديني، ثم جمعية تشكلت من ناشرين فرنكوفونيين يجمعون بين النشر والمكتبية، وابتداء من سنة 2014، ومع التحوّل الذي عرفه النشر في المغرب، كميا ونوعيا، تم اتخاذ مبادرة لتوحيد القطاع تنظيميا، وقد كان وراء هذه المبادرة مهنيون في القطاع، وهم السادة عبد الجليل ناظم وأحمد السايغ وأحمد المرادي، وتم الاتصال بجميع الجمعيات من أجل توحيد تمثيلية القطاع، وكان ذلك عبر جمع عام تمثّل فيه أغلب الفاعلين في القطاع، وجرى انتخاب مكتب مسير، كل سنة، غير أن المصالح الخاصة ما فتئت أن ظهرت ليقدم أعضاء من "الحبوس" استقالتهم، احتجاجا على تدخل اتحاد الناشرين المغاربة في موضوع "الكتاب المدرسي"، ثم لتنسحب مجموعة أخرى تعتبر نفسها هي الأحق بتمثيل الناشرين خارج المعايير الديمقراطية، ليؤسسوا لأنفسهم مكتبا عدد أعضائه هو نفسه عدد أعضاء اتحادهم المهني.
ولتتحول تنظيمات القطاع إلى إقطاعيات استغلها بعض الإداريين (كاتب عام وزارة سابق تمثيلا لا حصرا) وبعض الشبكات، لتحقيق مصالح ضيقة وفئوية تضرب القطاع في مقتل، وتُسهّل مأمورية الإجهاز على مكتسبات تحققت على أرض الواقع من 2014 إلى 2019.
الشجرة التي تخفي الغابة
في رأيي الخاص، وقد عبرت عنه رسميا وعبر الإعلام، وأنا أتحمل مسؤولية الكتابة العامة لاتحاد الناشرين المغاربة منذ 2014 إلى بداية 2020، أن مشاكل قطاع صناعة الكتاب بالمغرب لا تنفصل عن مشاكل باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى، مع خصوصيات مرتبطة بطبيعة القطاع وتاريخه بالمغرب وتطوره في السنوات العشرين الماضية.
1- احتكار السوق
من المعلوم أن كل قطاع تسوده مجموعة من الشركات، بحكم تاريخها ورأسمالها الرمزي والمالي في القطاع، لكن هذا لا يعني بتاتا إغلاق الأبواب أمام دور نشر حديثة وبإمكانيات متوسطة أو صغيرة في الاستفادة من الصفقات العمومية وشبه العمومية (تُصرف من المال العام)، وقد سبق وطلبنا من المجلس الوطني لحقوق الإنسان (CNDH) ومن مجلس الجالية المغربية بالخارج (CCME)، للمثال وليس للحصر، واللذين يخصصان ميزانيات كبيرة للنشر، طلبنا أن يتم فتح التنافس أمام الجميع، وقد وعدونا بذلك ولم يتم اتخاذ أي إجراء لحدود الساعة.
وهذا يسري على أغلب المؤسسات العمومية وشبه العمومية، التي تخصص ميزانيات للكتاب والنشر.
2- معضلة التزوير
إن القطاع يعاني من سرطان ينخر كيانه في واضحة النهار، فالكتب المزورة معروضة في شوارع المدن الكبرى وأمام أعين السلطات، وقد نبّهنا لذلك، بما أتيح لنا من إمكانيات، وإذ نؤكد أن للسلطات دورًا في هذا الأمر، فإن الفاعلين في القطاع يساهمون، هم أنفسهم، في تفشي هذه الظاهرة، من خلال عدم لجوئهم للقضاء، ومساهمة بعضهم في هذه السوق ولو بغطاء.
3- إشكالية الدورة الاقتصادية
إن قطاعا من قبيل صناعة الكتاب لا يمكن أن ينمو ويخلق فائض قيمة ومن هناك فرص شغل، إلا بتشغيل سلسلة صناعة الكتاب ضمن استراتيجية واضحة المعالم للصناعات الثقافية والفنية، فلا يمكن تطوير القطاع، إلا بتعضيد وتقوية شبكة البيع للقارئ، بدعم إنشاء وتحديث المكتبات بكامل التراب الوطني، وقد ساهمت وزارة الثقافة على عهد كل من المرحومة ثورية جبران ومحمد أمين الصبيحي في هذا العمل الأساسي، وإعادة النظر في تكلفة النقل الخاصة بالكتاب لتسهيل عملية التوزيع عبر سن قوانين وتعريفات خاصة، ومراقبة استعمال الإعفاء الضريبي على الورق الخاص بالكتاب، والذي يتم استغلاله لأغراض أخرى، التنفيذ الفوري للتوصيات الصادرة عن المناظرات واللقاءات الخاصة بشراء الكتاب ونخص بالذكر الكتاب المغربي، الضحية المثلى لطلبات شراء الكتب لدى أغلب الجماعات ومجالس المدن والأقاليم والجهات.
4- دعم وزارة الثقافة لنشر الكتاب
منذ انطلاق مشروع دعم نشر الكتاب ودعم المكتبات، والذي كان لفريق الوزيرة المرحومة ثورية جبران دورٌ أساسي في بلورته، وكان للوزير محمد أمين الصبيحي بصمة في تنزيله، ورغم الوعكات التي أصيب بها القطاع في عهد ثلاثة أو أربعة وزراء، فإن فلسفة المشروع تبقى صالحة، ومفيدة، ومطورة للمؤسسات الفاعلة في صناعة الكتاب، وقد حقق بعض الناشرين مكتسبات لا مفر من الاعتراف بها، بل إن بعض الناشرين لم يكونوا ليستمروا في الوجود دون ذلك الدعم. والمطلوب اليوم هو تقييم التجربة وقراءتها بعين الغيرة على القطاع، خارج دائرة الريع والفساد والمحسوبية.
5- في راهنية "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية"
إن ما أقره دستور 2011، من مؤسسات دستورية، ليستجيب لحاجيات فرضت نفسها بقوة التطور الذي يعرفه المغرب على جميع المؤسسات، غير أن الحسابات "السياسوية" و"الشبكية"، تقف حجر عثرة أمام تنزيل هذه المؤسسات، لكي تلعب دورها في المجال المرتبط بتأسيسها، ومنها "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية"، والذي بالمناسبة لم يتم إشراك ناشري الكتاب والفاعلين في القطاع في أي مرحلة من مراجل وضع القانون المنظم له، بل لم يتم حتى الاستماع لرأيهم، ورغم غيابه الفعلي منذ تأسيسه، فإن إعادة طرح السؤال حول شروط تنزيله ومهامه ليعيدنا إلى نفس دائرة إشكالية الحكامة في علاقتها بالريع والشبكية.
إن صفقة وزارة الشبيبة والرياضة والثقافة، ما هي في حقيقة الأمر، سوى ملمح من ملامح سيادة الريع والشبكية واغتنام الفرص، ضدا على التوجهات العامة لمؤسسات الدولة، وأهداف النموذج التنموي الجديد، وتوصيات الفاعلين عبر تاريخ من المناظرات والملتقيات التي صرفت عليها الملايين كذلك، لتبقى حبرا على ورق.
من خلال تجربتي الخاصة، فإن الأمر يتعلق بمنظومة فساد وريع وشبكات تبادل مصالح، يجد بعض المسؤولين الإداريين في الوزارات صعوبات كثيرة في مواجهتها.
إن القضاء على هذه المنظومة يبدأ من الفاعلين أنفسهم في القطاع، بانتهاج ممارسة بعيدة عن هذه المنظومة، وبفرض مطالبهم التي لن يضمنها لهم إلا القانون، عبر مؤسسات الدولة.
ولعل أول الغيث، هو توحيد تنظيم القطاع على أسس سليمة، سواء ضمن اتحاد جامع وموحد، أو ضمن الغرف التجارية والصناعية والخدماتية أو ضمن الكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب.
فلا يمكن أن يستمر العمل على أسس بدائية، تنتمي إلى القرن التاسع عشر فما قبل.