في حوار الساسي لـ"الأيام".. السجال والقفز على الوقائع وقلب الحقائق لن يشكل أساسا لبناء وحدة اليسار
الكاتب :
"الغد 24"
المصطفى بنصباحية
قد تصاب بخيبة أمل وأنت تطالع تدوينات وتصريحات واستجوابات من يعتقدون أنفسهم قيادات لليسار. وتتساءل: هل بهذا المنطق السجالي المبني على ثنائية الأنا المالكة للحقيقة، والآخر الخاطئ، يمكن الإجابة على إشكالية تعثر اليسار في بناء الأداة التنظيمية القادرة فعلا على حلحلة ميزان القوى لفائدة التحول في اتجاه تجاوز بنيات الفساد والاستبداد والتأسيس للدولة الديمقراطية الضامنة للسيادة الشعبية؟ هل مع عقلية من قضى أزيد من 15 سنة في محاولة البناء المشترك لهذه الأداة وما زال يصنّف أن هناك أهل البيت وهناك الوافدين يمكن الإجابة على السؤال أعلاه؟ وهل يعتبر البحث في مواقع التواصل الاجتماعي على ما دوّنه فلان في سياق ما وما قالته فلانة في سياق ما أيضا عن شذرات لتبرير مواقف وقرارات تخص مواضيع من قبيل وحدة اليسار والادعاء أن هناك من مع هذه الوحدة وهناك من ضدها؟ وهل بمنطق الانتقاء والقفز على الواقع وقلب الحقائق يمكن الإجابة على الإشكالات الحقيقية لتعثر مسار توحيد اليسار؟ وهل يقتصر الهدف من هذا التوحيد على مجرد التقدم بشكل مشترك للانتخابات المتحكم في نتائجها والتي ليست سوى واجهة من واجهات النضال اليساري كما تنص على ذلك المقررات والمرجعيات التي ما فتئنا نرددها في كل مرة وحين؟
كل هذا السيل من الأسئلة يلاحقك وأنت تتصفح الاستجواب، الذي خص به السي محمد الساسي أسبوعية "الأيام". فحين يعتبر أن سحب التصريح المشترك القاضي بالدخول للانتخابات كفيدرالية بمثابة النقطة المركزية لاستمرار مسلسل التوحيد من عدمه دون توضيح حتى الحيثيات التي قادت إلى هذا السحب ودون تبيان المواقف المعبر عنها والإجراءات العملية المتسرعة لباقي مكونات الفيدرالية التي رفضت وضع التصريح بشكل مشترك على مرحلتين، وسارعت إلى إعلان التحالف الانتخابي الثنائي، فإن الحديث عن محاولة تجميع اليسار التي انطلقت منذ التسعينيات ولقاء بوزنيقة سنة 2000 مرورا بسنوات 2002 و2005 و2007 و2014، التي كان جدول أعمالها يتمثل في الجواب على بناء الأداة السياسية اليسارية المتشبثة بخط النضال الديمقراطي الجذري القادر على إنجاز مهام التحول التاريخي في اتجاه الحداثة والديمقراطية ودولة المؤسسات والمواطنة الحقة، ولم يكن هدفها مجرد بناء تحالف انتخابي لملء فراغ التجارب السابقة التي حولتها الانتخابات والمشاركات الحكومية إلى شبه أحزاب إدارية فاقدة لاستقلالية القرار السياسي والتنظيمي...
فانخراطنا في مسلسل التجميع وتوحيد قوى اليسار الراديكالي كان من هذا المنطلق، وقرارات مؤتمراتنا ومجالسنا الوطنية شكلت خلفية لهذا البناء، الذي تحوّل -لأسباب غير واضحة- إلى الضغط بقرارات يراد لها أن تكون فوق حزبية مستمدة من هياكل لم نتفق في أي مؤسسة حزبية على تمكينها من صلاحيات التقرير في الاندماج وبجدولة زمنية متفق عليها خارج مؤسسات الحزب، لاندماج فوقي بدون عناوين فكرية وسياسية وتنظيمية، ولا يأخذ بعين الاعتبار حتى بالواقع التنظيمي للهياكل القاعدية لمكونات الفيدرالية الغارقة في التنافر والتطاحن والصراع على المواقع هنا وهناك.
أما الحديث عن تعطيل اجتماع المجلس الوطني، فباستثناء اجتماع واحد ووحيد قدم فيه الرفيق محمد الساسي عذر حراسة الامتحانات، فما السر في غياباته عن اجتماع السكرتارية واجتماعاتها مع المكتب السياسي منذ شهر فبراير الماضي لتحديد موعد المجلس الوطني؟ ولماذا كانت الرفيقة فاطمة الزهراء الشافعي تطلب تأخير تحديد تاريخ انعقاد هذا المجلس إلى حين حضوره؟ ولماذا انسحب في آخر اجماع للسكرتارية والمكتب السياسي لتحديد موعد انعقاد المجلس الوطني المنعقد خلال شهر رمضان رفقة أتباعه لما تم رفض الصيغة القاضية بالاتفاق بين الأعضاء الحاضرين على أن تضم مخرجات المجلس الوطني الدعوة إلى تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الاندماج مباشرة بعد الانتخابات وتحديد سقف سنة لانعقاده ضدا على صلاحيات هذا المجلس؟ والسؤال المحير في كل هذا: ما الخلفية وراء كل هذا والمجلس الوطني لسنة 2019 الذي دبّج الرفيق محمد الساسي خلاصاته بأمانة قد قرر تأجيل موضوع الاندماج إلى ما بعد الانتخابات؟
إن قراءة كل هذه الوقائع تؤكد التخوف من مآل انعقاد المجلس الوطني لدى الرفيق محمد السياسي، بالرغم من الإيحاء لبعض أتباعه بالمطالبة بعقد هذا المجلس عبر صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالحزب، واتهام نبيلة منيب بتعطيل هذا الانعقاد، تبرز أننا كنا أمام سيناريو معد سلفا هدفه خلق تقاطب داخل الاشتراكي الموحد بعد فشل كل محاولات تطويعه وتذويبه داخل كيان هلامي يفترى على تسميته بالحزب الاشتراكي الكبير، لتشكل محصلة هذا السيناريو الإعلان عن تيار آخر لحظة، والذي لم يعترض أي أحد على برمجته كنقطة في جدول أعمال المجلس الوطني في اجتماع السكرتارية والمكتب السياسي الذي غاب عنه الساسي وحضره الرفيق محمد حفيظ والرفيقة فاطمة الزهراء الشافعي بتاريخ 21 يونيو 2021، أي 10 أيام قبل بدء مسلسل الانسحابات، هذا التيار الذي لم يكن الهدف منه خلق تيار داخل الاشتراكي الموحد، بل شكل آلية تكتل للانسحاب من الحزب والتفاوض مع المؤتمر والطليعة لضمان المواقع المرغوب فيها في الاندماج المحتمل اللاحق. فمن الذي جعل من خلق هذا التيار مسألة غير تنظيمية عادية؟ وما مبرر كل الكلام الذي لا معنى له حول خلق التيار من أجل خلق أغلبية داخل الاشتراكي الموحد للدفاع عن الاندماج في الوقت الذي تعبر الوقائع أنه خلق للانشقاق عن الحزب؟!
الخلاف الجوهري داخل الاشتراكي الموحد، والذي للأسف افتقد الرفيق محمد الساسي الجرأة لطرحه والتداول حوله ويتم تغييبه والاستشهاد بجزئيات من قبيل ما دوّنه هذا الرفيق وما تقوم به الأمينة العامة وأغلبية المكتب السياسي في تدبير الشأن الحزبي ليس فقط استنادا إلى مقررات المؤتمر وتوجيهات وقرارات المجلس الوطني، بل بالعمل أيضا على متابعة التطورات والمستجدات السياسية واتخاذ المواقف والمبادرات اللازمة سياسيا وتنظيميا حسب المادة 65 من النظام الداخلي، التي اقتطع منها الرفيق الساسي ما يلائم قوله. قلت الخلاف الجوهري يتمثل في ماهية الاندماج. بمعنى على أي أسس فكرية وسياسية وتنظيمية سيبنى هذا الاندماج وما هي منهجية بنائه؟ بين من يرى أن كل شيء جاهز وما علينا سوى تحديد موعد هذا الاندماج بين مكونات الفيدرالية انطلاقا من تصور فوقي يدمج المؤتمرات الأخيرة للتصفيق والمصادقة على وثائق ما زالت في علم الغيب لدى كافة أعضاء الحزب، ودمج المجالس الوطنية بالسماح للمؤتمر والطليعة بإضافة أعداد من مناضليهم ليتساوى عدد مجالسهم الوطنية مع عدد أعضاء المجلس الوطني للاشتراكي الموحد ودمج المكاتب السياسية، وبين من يرى ضرورة التقعيد لهذا الاندماج على الأقل في الحدود الدنيا التي عبرت عنها أرضية أغلبية المؤتمر في ما عنونته بالعرض السياسي الجديد الذي أكد على جعل محطة الاندماج ليس فقط تجميع مكونات الفيدرالية، بل لحظة سياسية لانخراط كافة اليساريات واليساريين الراغبين في التغيير الحقيقي في هذا المشروع بالمشاركة في بناء أسسه المتمثلة، حسب هذه الأرضية نفسها، في المرجعية والخط السياسي والفلسفة التنظيمية، وأيضا المساهمة في بناء هياكل هذا الاندماج وفق التصور الذي سيتم الاتفاق عليه، والذي ليس بالضرورة تصورا فوقيا. وعوض فتح نقاش رفاقي داخل الاشتراكي الموحد لصياغة القرار المؤسساتي المناسب لجأ متزعما تيار آخر لحظة إلى الاتصالات الهاتفية مع من يعتقدون أنهم يتحكمون في القرار الحزبي، وفق ثقافتهم التنظيمية، وأيضا محاولة الضغط على نبيلة منيب ظنا منهم أن خضوعها لما يريدونه سيفي بالغرض، وقد استعملت في هذا الضغط كل الوسائل المعلومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية ومراسلة رئيس الحكومة، إضافة إلى محاولة التوظيف السيء لرمزية الرفيق المجاهد محمد بنسعيد أيت إيدر...
وبعد فشل كل هذه المحاولات، بدأ تنفيذ الخطة "باء"، والمتمثلة في تهريب النقاش إلى هياكل الفيدرالية والادعاء أن قراراتها تسمو على قرارات هياكل الحزب، في خطوة غير شرعية تمس باستقلالية القرار السياسي والتنظيمي للحزب، كما تنص على ذلك قوانين الفيدرالية نفسها (المادة السادسة). هذه المادة التي لا تخول لهيئات الفيدرالية الخوض في موضوع الاندماج، فبالأحرى أن تقرر في كيفية بنائه وتفرض هذه الكيفية على الهيئات التقريرية لمكونات الفيدرالية بصيغة التصويت عليها إما بنعم أو لا استلهاما لقاعدة الكل أو لا شيء (tout ou rien). وقد تمظهرت هذه الخطة في إنكار الولاء للحزب عند البعض وتغييره بالولاء لحزب اسمه الفيدرالية قبل موعد الاندماج، أي اندمجوا قبل إقامة الحدث التاريخي لوحدة اليسار كما نظروا له. وجاءت مرحلة التهييء للانتخابات لتُبرز، بما لا يدع مجالا للشك، أن رفاقنا المندمجين ينسقون مع الحليفين لسد الطريق على ترشيح رفاقهم الذين يختلفون معهم في الرأي. واتضح ذلك في خطوة استباقية لمنع الرفيقة نبيلة منيب، قبل الإعلان عن نيتها في الترشح، في قيادة اللائحة الجهوية بجهة البيضاء- سطات بدعوى أنها ريع انتخابي وترشيح مناضلة من المؤتمر الاتحادي، انطلاقا من منطق بئيس يتعارض مع الموقف المبدئي من الريع والقاضي بمقاطعته وليس باختيار من يستفيد منه.
أما الحديث عن محاولة خلق حمية حزبية بدعوى أن الحزب مستهدف من الداخل، وبالتالي لا اندماج ولا مؤتمر قبل تصفية فلول المؤامرة والقضاء عليهم، فإنه مجرد كلام لا أساس مؤسساتي له، فالاندماج بينَّا أوجه الخلاف حوله سالفا، وكان المنطق السليم يفرض مناقشته والدفاع عن الرأي القائل به هنا والآن لإقناع الرأي العام الحزبي والرأي العام الوطني بصحته. أما المؤتمر، فلا أحد عارض انعقاده. وأما الحديث عن الخلافات في صفوف أغلبية المؤتمر الرابع، فقد برزت قبل انعقاد المؤتمر وتمظهرت بوضوح إبان انعقاده وقد نعتناها بصريحة العبارة في أرضية اليسار المواطن والمناصفة بالأغلبية المفككة، ولا داعي لتذكير الرفيق الساسي بسحب توقيعات تيار معين من أرضية الأغلبية عشية انعقاد المؤتمر، ومن هي أطراف الخلاف آنذاك.
بغض النظر عن السجال، سيحكم التاريخ على من يحاول بناء الأداة اليسارية المعتنقة لهموم وقضايا الجماهير الشعبية والمناضلة حقا من أجل تجاوز المأزق التاريخي المعيق لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، ومن ينخرط في أجندات أخرى، والأيام بيننا...