قبل 19 سنة.. رسالة "الحركة من أجل الديمقراطية": لا يسار بدون مشروع يساري للتغيير المجتمعي
الكاتب :
"الغد 24"
محمد الوافي
بعيدا عن التلاسنات، التي انحدرت إلى انحطاط لم نرَ له مثيلا في السجالات السياسية، وتأثيراتها السلبية على العلاقات البينية في صفوف الحزب الاشتراكي الموحد، وبالاستتباع على فيدرالية اليسار الديمقراطي،
وانطلاقا من مقولة ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة"، ارتأينا أن نعيد نشر هذه الرسالة التاريخية أدناه، لحمولتها التأسيسية والاستشرافية، التي تسائل العملية الاندماجية في إطار "اليسار الاشتراكي الموحد"، والمآل الذي وصلت إليه راهنا بالحزب الاشتراكي الموحد.
وأمام إشكالية طموح مكونات فيدرالية اليسار الديمقراطي الاندماج في حزب واحد، أصبح من الضروري على المناضلين والمناضلات أن يسائلوا أنفسهم، بعد مرور 19 سنة على تجربة اندماجية تفتقد مقومات وشجاعة مواجهة الإشكالات الحقيقة التي تواجه اليسار على عدة مستويات، والتي عبرت وتعبر عنها الحراكات الشعبية، على الأقل منذ انطلاقة حركة 20 فبراير...
وفي ما يلي رسالة الحركة من أجل الديمقراطية:
رسالة مفتوحة إلى عموم مناضلي اليسار في المغرب وكافة القوى الديمقراطية
لا يسار بدون مشروع يساري للتغيير المجتمعي
يقف مشروع اليسار الاشتراكي الموحد اليوم، على عتبة انعقاد مؤتمر يراد له أن يزكي ركاما من الأخطاء القاتلة، والتي مورست بتدبير مفكر فيه، وهي الأخطاء التي رامت، منذ البدء، ركوب حلم وحدة اليسار، لبلورة صفقة سياسية شخصانية تتمحور حول مواقف مبتسرة، تفتقد لأي عمق يجسد مشروعا مجتمعيا يساريا للتغيير، وتتأطر بخدمة أهداف ظرفية متباينة المرامي، قدر تباين مطامح ونوازع شخوصها، متوجة عبثية مقاربتها في كينونة هجينة، يستحيل فيها الحلم المأمول لـ"تجمع الكوطا".
إننا في الحركة من أجل الديمقراطية، ونحن نسجل بمرارة، بؤس ما تمخّض عن هذا العبث المقصود، مقاربة ومضامين تحصلت عنه أفقر الأدبيات الحزبية المنسوبة لحقل اليسار على الإطلاق، لنتوجه لكم مجددا، للوقوف على المسؤوليات، وللتحذير من العواقب، يحدونا في ذلك ما دأبنا عليه دوما في مخاطبتكم ومجادلتكم، ألا وهو الحرص، على ما نعتقده كثوابت مبدئية، وكنسق قيمي لا يقبل المساومة بتموقعات، ولا يستقيم الادعاء بالانتماء لحقل اليسار من دون استحضاره فكرا وممارسة، آملين أن يجد خطابنا هذا، لدى مناضلي ومناضلات اليسار عموما، الإنصات العميق والتمثل الرزين، في أفق استنهاض الطاقات اليسارية الحقيقية، على اختلاف ساحاتها ومواقعها، لتجديد الأمل في يسار، يبدو اللحظة أنه أخطأ مرة أخرى موعده مع التاريخ...
إن مناضلات ومناضلي اليسار، مطالبون، بمعرفة الأسباب التي تجعلنا نعتبر أن الحركة من أجل الديمقراطية، هي بمنأى عن أية مسؤولية في ما جرى ويجري، من اختزال لوحدة اليسار، ومن تنميط له، ضدا على كل سيرورة بنائية تأسيسية منفتحة، مجددة، وعميقة ومعتبرة بدروس التجربة الوطنية والكونية.
وفي هذا السياق، فإن مناضلي/ات الحركة من أجل الديمقراطية، منذ مرحلة ما اصطلح عليه بـ"التجميع"، رفضوا أية مقاربة حسابية، واعتبروا أن إعادة بناء اليسار، لا يمكن أن تتم إلا في إطار سيرورة تأسيسية منفتحة، يعاد من خلالها تجديد مشروعه المجتمعي العام للتغيير ومستلزماته، بما فيها استحضار المرتكزات المعرفية، وتقويم الخبرات السياسية المتراكمة، وتجديد النظرية التنظيمية. ومن ثمة لم يعتبر تأسيس الحركة من أجل الديمقراطية تأسيسا لذاتها، بل من أجل الذات والمشروع اليساريين، بما جعل منها كينونة منفتحة ومستوعبة لكافة التجارب التنظيمية والنضالية السابقة (23 مارس، إلى الأمام، لنخدم الشعب، الطاقات النضالية التي أفرزتها الحركة الجماهيرية).
ولقد تجسد هذا الانفتاح، في القطع مع أي شكل من أشكال العلاقات الاستعدائية المتخلفة، سواء إزاء مكونات الحقل اليساري أو الصف الديمقراطي بشكل عام، وهو ما تجسد في مسعى بناء علاقات مؤسسية مع منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، خلال التسعينيات، على قاعدة تقاطعات مؤسسة للبنات أولية توفر مناخ تأليف الطاقات اليسارية في أفق خدمة وحدتها، كما تجسد موضوعات الندوة الدراسية الوطنية بتاريخ 21 نوفمبر 1998 تحت شعار: "من أجل يسار ديمقراطي موحد وفاعل"، والتي استدعيت لها كل مكونات الصف اليساري من دون استثناء. هذا فضلا عن مساهمة مناضلات ومناضلي الحركة ذات الصلة بالموضوع وخاصة المؤلف الجماعي: "وحدة اليسار في المغرب، لماذا وكيف؟".
ولم يتوقف مسعى الحركة من أجل الديمقراطية عند هذا السقف المتواضع، بل تجاوزه بالمساهمة في إطلاق مبادرات وحدوية، تجاه حركة الديمقراطيين المعأرضين بإسبانيا، والتي نأسف لإجهاضها، من قبل من رام تحويلها لجني منافع وضيعة، لا تمت بصلة للقيم اليسارية الحق، كما تم الاشتغال وبنضج على مقاربة ممكنات وحدة ثلاثية بين الحركة من أجل الديمقراطية، النهج الديمقراطي، والديمقراطيين المستقلين، ببلورة المجلس الوطني في 26 دجنبر 1999 لوثيقة/إطار، ركزت على ضرورة تحديد المنطلقات والأهداف العامة، والموضوعات التأسيسية، والجدولة الزمنية، والإجراءات المواكبة لإطلاق مناخ الوحدة، والأدوات الضرورية للقياس المرحلي، وهي نفس الثوابت التي تحكمت في صياغة المجلس الوطني السابع عشر للحركة، بتاريخ 2 دجنبر 2001، لوثيقة "من أجل عقد جماعي يضمن انطلاقة متجددة ليسار جديد" كتصور منهجي لمقاربة وحدة يسارية تؤسس للعملية التحضيرية، كمجهود نوعي على تطارح منفتح للأفكار والبرامج، يؤطره مناخ العلاقات الرفاقية، دون التفريط في المبادئ والجدال الديمقراطي الجماهيري، لا التكتلات النفعية والحلقيات التنظيموية، إذ ركزت وثيقة العقد الجماعي مجددا على ما يلي:
ضرورة تدرج العملية التحضيرية من العام إلى الخاص، وحددت مجموعة من الأسئلة الإطار الموجهة للفعل اليساري بشكل عام، والتي حددتها في ستة أسئلة أساسية، هي سؤال المجتمع المحيط، وسؤال التحديات، وسؤال التغيير، وسؤال الأداة، وسؤال الاستراتيجية، وسؤال البرنامج، ودققت محتوى كل سؤال على حدة. كما اقترحت عدة خيارات في طريقة الإعداد التحضيري بما يتراوح بين إجراءات بناء الثقة، وخلق مناخ الوحدة أفقيا وعموديا، وخوض حوار في العمق يتناول كل القضايا، ويخاض على جميع المستويات المحلية والوطنية، بما يضمن مشاركة مختلف مناضلي اليسار في صنع سيرورة الوحدة، ويجعل التقاطب حول الأفكار، لا حول أشخاص أو حلقيات تنظيموية.
غير أن هذه الإرادة البنائية، كمقاربة ناضجة ومتزنة، والتي جسدت ثوابتها، في الاستجابة الطوعية والمبدئية لفكرة مشروع اليسار الاشتراكي الموحد، كما عبر عنها بيان المجلس الوطني للحركة في دورته السادسة عشرة، وتدخلات مناضليه في ما اعتبر ندوة وطنية مشتركة له بتاريخ 15 يوليوز 2001، قد ووجهت بإرادة مضادة تخترق مكوناته الأربع (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الحركة من أجل الديمقراطية، الديمقراطيون المستقلون، الفعاليات اليسارية)، يهيكلها منطق التسرع والتهافت والبناء السطحي المقرون بالتخندق التنظيموي، لتمنيع المواقع وبعض التموقفات المنحرفة في تحديد معالم المرحلة، مما أحال المشروع برمته لـ"طبخة شخصانية"، وحافظ على كينونة "البوندستانات/المعازل"، قطعا للطريق على التفاعلات الأفقية والعمودية، وجعل من البناء الفوقي المهيكل بمنطق الكوطا، غاية الغايات في تهميش تام للحوار الوطني الواسع، ومشاركة القاعدة العريضة للمناضلين والمناضلات، فضلاً عن الارتهان لضغط الظرفية السياسية ومراهناتها الوهمية، ضدا على كل نفس تاريخي، والأخطر من كل ذلك، التصدي بشتى أشكال التناور، للإرادات الوحدوية الناضجة، القائمة داخل مختلف المكونات والسعي لتحجيمها وتهميشها، بوسائل لا أخلاقية يصعب على كل قوة مبدئية، مهما اتسعت قاعدتها أن تواجهها بالمثل دون أن تفقد انسجامها وهويتها اليسارية.
وفي هذا الإطار، وأمام الإدراك الحاد لما يقاد له مشروع اليسار الاشتراكي الموحد، من مطبات ومآزق، وما سيق له من منزلقات بلغت حد الدوس على كل شرعية أو مشروعية، تمت مراسلة الهيأة التنفيذية لـ"مشروع اليسار الاشتراكي الموحد" بتاريخ 2 دجنبر 2001 من قبل المجلس الوطني للحركة من أجل الديمقراطية، مؤكدا على الموقف المبدئي من وحدة اليسار وتجديد الاستعداد للمساهمة فيه على قاعدة الندية، والتأكيد على أن الوحدة المنشودة، يجب أن تتمحور حول مشروع للتغيير، كما تمت مراسلة نفس الهيأة من قبل المجلس الوطني في دورة الانتفاضة بتاريخ 23 أبريل 2002، حيث نبهت إلى خطورة تحكم ديكتاتورية الظرفية السياسية، وتم التأكيد مجددا على موقف مناضلي الحركة داخل المجلس الوطني الانتقالي لمشروع اليسار الاشتراكي الموحد، والتحذير من خطورة امتهان الجملة اليسارية، والمنحى الشعاري كعملية استبدالية، للتغطية على ما يجري التحضير له من سلخ لليسار في الواقع هوية ومشروعا، غير أنه لا حياة لمن تنادي، إذ رام البعض بدل الرد المؤسسي والجدال الناضج، امتهان اختزال الخلافات في صراع مواقع، وخوض حملة تسميم صحفية وتعتيم إعلامي للتغطية على صراع الأفكار والمقاربات.
إن ضرورة اليسار، لا تتحدد بالمزايدة على قوى الصف الديمقراطي، بل تستمد مبناها ومعناها في تضاد مع واقع مجتمعي عام، يتطلب حشد كل القوى الديمقراطية في مواجهة الخلط والتضليل، لقطع الطريق على كل القوى والدعوات الرامية لتأبيد مخزنة المجتمع أو إعادة استنبات وتجذير أسسها عبر الدعوة لمشروع رهباني صريح، وفي هذا السياق يكتسب نداء الحركة من أجل الديمقراطية لإطار وطني للحوار بين مختلف مكونات الصف الديمقراطي، المزيد من صلاحيته وراهنيته، كآلية تتجاوز به ومن خلاله كل الحساسيات التنظيموية الموروثة، وتنظم من خلاله تدبير اختلاف التقديرات، ومدى الآفاق الخاصة لكل منها، وفق مبادئ وقيم وأهداف حد أدنى، تندرج ضمن تفعيل مساهمتها في خدمة تحول ديمقراطي حقيقي ببلادنا، وتصون جذوة مطمح التحديث والدمقرطة والتنمية، من ردة محتملة يساهم في توفير غطائها موضوعيا بعض أدعياء اليسار والحداثة والديمقراطية، ممن يستهويهم اختزال اليسار في الشعارات، دون المضامين والآفاق والآليات المنسجمة مع حمولته التنويرية.
إن الحركة من أجل الديمقراطية، تجسيدا لإخلاصها لقيم اليسار، ولتاريخه الكفاحي، وروحه التجديدية، التي شكلتها ثوراته الثقافية المتلاحقة، لا يمكنها أن تزكي العبث بإرادة المناضلين، واللامسؤولية إزاء مطمح الشعب المغربي في امتلاك أفق تنموي وحضاري خليق بتضحياته وآماله، ومن ثمة وهي تعلن أن لا علاقة لها بما تم تزكيته من مسار، رؤية ومقاربة وآليات، لتحتفظ لنفسها باتخاذ ما تراه مناسبا من مواقف إزاء ما يقدم باسم يسار مفترى عليه، مناشدة كل الإرادات المناضلة الغيورة على مستقبل اليسار ومطمحه المجتمعي المميز، لتآلف الطاقات لغاية الاستمرار في تجديد يساري حق، يعيد لليسار اعتباره المجتمعي، ويصون قوة دفعه الكفاحية، ويشحذ أدواته المعرفية، ويقوّي حضوره الجماهيري، وينمّي إرادته وممارسته السياسية في التغيير، ويعزز انفتاحه على قوى الصف الديمقراطي حرصا على إذكاء جدوة المشروع الديمقراطي الحداثي ذي الأفق الاشتراكي.
وإذ نسجل كل ذلك، فإننا في الحركة من أجل الديمقراطية، لن نتوان عن الاستمرار في خوض الصراع الديمقراطي الجماهيري، إلى جانب مختلف التعبيرات الاحتجاجية والاعتراضية الناضجة، المبلورة فكريا وسياسيا بمختلف التنظيمات اليسارية، للحرص على جدوة اليسار ومشروعه المتميز للتغيير المجتمعي، في أفق بلورة ممكنات وحدة يسارية جادة وناضجة، وهو ما ندعو مختلف الطاقات اليسارية على اختلاف مواقعها التنظيمية وساحات تواجدها النضالي، على التفكير والحوار حول سبل تحققه.