الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

وداعا ناجية مالك.. المرأة التي أنثت النقابة

 
محمد السكتاوي
 
 
وافت المنية، صباح اليوم الثلاثاء فاتح يونيو 2021، المناضلة ناجية مالك بعد مرض عضال...

+++

كنتُ أعرفها عن بعد..
حينما كانت طالبة مفعمة بالعنفوان والحيوية، تميزت في تلك الفترة بدينامية نضالية ملفتة إلى جانب زوجها القائد الطلابي الحسين حليلي.
تلك كانت صورتها الأولى
التي انطبعت في ذهني

سألتقي بهما في ما بعد في الحي الشعبي والعمالي للرباط
حي يحمل تاريخا مجيدا من النضال، تكاد في كل زاوية منه تسمع هتافات مظاهرة حاشدة، وخطب مناضلين شباب، وترى مطاردات أمنية لتلاميذ الثانويات وطلاب الجامعة، وأبوابًا تفتح تحضن المناضلات والمناضلين المطاردين.
حي يعقوب المنصور لم يكن، في ذلك الوقت من سنوات الرصاص، حيا عاديا، 
فصوت الشهيد المهدي بنبركة الذي اختاره لترصيص قاعدته الشعبية في بداية الستينيات كان ينطق به الحجر والجدران المملوءة بالشعارات، ويتردد صداه في أكواخ العمال القصديرية.
في هذا الحي، الذي شهد ميلاده الحقيقي مع المهدي بنبركة، كان يستقر الكثير من المناضلين من بينهم ناجية مالك، التي اكترت مع زوجها الحسين حليلي بيتا متواضعا في بداية مشوارهما المهني في التعليم، صار البيت مكانا لعقد اجتماعاتنا الحزبية مرة في الأسبوع على الأقل، كنا نحس بالدفء والحميمية، فناجية تندفع بحماس في النقاش، تنفعل أحيانا وهي تبدي وجهة نظر، وتدقق في الخيارات وتعارض، ثم تحسم النقاش بضحكة عالية: "متافقين... لكن سجلوا تحفظاتي"، وتنسل في غفلة منا تعُد فناجين القهوة وصحن حلويات، لا ننتبه أننا تأخرنا واقتطعنا جزءا من الليل، ولا أحد منا يملك سيارة، فتتطوع لتوصلنا كل واحد إلى بيته في سيارتها الصغيرة المتعبة.
سيتم اعتقال معظمنا في انتفاضة 20 يونيو 1981، كان من حظنا أنها لم تُعتقل، فقد صارت تزورنا بشكل منتظم أسبوعيا في سجن لعلو بالرباط، محملة بسلة طعام وكتب، لكن الأمر الذي لن أنساه وباقي المعتقلين أنها حملت إلينا، في أول زيارة سجنية لنا، عددا من الملابس بمختلف القياسات والأحجام، كنا في أشد الحاجة إليها، وزعناها في ما بيننا، والكثير منها أعطيناه لمعتقلي الحق العام ومعظمهم فقراء.
تلك الصورة الثانية

كانت في استقبالنا يوم خروجنا من السجن.
لم نعد نلتقي كما المعتاد، فقد انتقلت مع زوجها ليستقرا في القنيطرة، وهُناك بدأتْ مشوارا نضاليا صاخبا في إطار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مسلحة بما تعلمته في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من فن الخطابة وتكتيكات المواجهة وأساليب الجدال والإقناع، وبرزت كقائدة نقابية تملك كل مهارات القيادة، ولأول مرة يصبح للنقابة، ذات الوجه المذكّر، روحٌ مؤنثةٌ.
واجهت ناجية الصدمة الكبرى في حياتها بفقدان رفيق عمرها المناضل حسين حليلي، ولم يبْقَ لها من عزاء سوى طفلتهما الوحيدة مريم التي ستختار أن تحلق في فضاء الفن.
خاضت ناجية، بدون سند، وبكل عفوية نضالية، كل معارك النقابة، لم تهتم بحسابات الربح والخسران، ولم تنتبه أن وراء الشجرة غابةٍ متوحشة، مضتْ في نضالها دون أن تعرف مخاطر المنعطفات الحادة.
حينما اعتُقل زعيم النقابة نوبير الأموي، وبدأت محاكمته في الرباط، وفَّرت للمناضلين القادمين من مدن بعيدة، لمتابعة المحاكمة وتنسيق متطلبات المرحلة، بيتا في زنقة سوسة مجاورا للمقر القديم لاتحاد كتاب المغرب، صار بمثابة مقر سري لقيادة الظِّل، ولم يكن أحد منا يعرف أن صاحبة هذا البيت هي أختها مليكة مالك، الصحافية البارزة في قناة دوزيم التي ستعاني في مرحلة لاحقة من التهميش بدون سبب معروف، وتنطفئ شمعة حياتها مبكراً.. الصدمة الثانية في حياة ناجية.
عاشت ناجية، بل ساهمت بقوة في ابتعاد النقابة عن حزب الاتحاد الاشتراكي، وتصدرت الصفوف الأمامية في تأسيس المؤتمر الوطني الاتحادي الذي احتوى غضب المناضلين المنشقين عن الاتحاد.
كانت مرحلة صراع ضار بين رفاق الأمس، فيها الكثير من الوجع والخيبات.
ستظهر ناجية بعد سنوات على شاشة التلفزيون تقدم البرنامج الانتخابي لحزبها وهي تقود سفينته في خضم بحْر مملوء بسمك القرش.
تلك الصورة الثالثة

لم تخرج سليمة من المعركة الانتخابية، ظلت موسومة بالكثير من الندوب النازفة، مع الوقت سيتسع النزف، وستدخل في معاركها الأخيرة، كانت هذه المرة معارك في مواجهة رفاق الأمس.
...
ربما سقطت
ربما ظلت شامخة
دخلت دائرة الظل،
 ونسيها الكثير من أصدقائها
 وصديقاتها القدامى
واجهت الموت وحْدَها 
كانت وصيتها نظرة حزينة للأفق
الممتد وراء نافذة تطل على بحر رمادي
 بدون سفن ولا أشرعة.
ربما كانت ترى أشياء لا نراها.
تلك صورتها الأخيرة...