تشهد الديبلوماسية المغربية، خلال الفترة الأخيرة، دينامية ملموسة بكثير من الانسجام والتنسيق والقوة والفعالية، إذ ظهرت كفريق منظم ومتناغم، يعرف جيدا كيف يسجل الأهداف، إذ يهيء الأرضية بكل عناية، لتصبح المرمى والهدف معا شبيهين بالمثل المغربي "فين ما ضربتي القرع يسيل دمو"...
في البداية، تدخل وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، ليطلق كلمة أصبحت على كل لسان في إسبانيا وكذلك في المغرب، عندما نبّه الإسبان إلى أن يتفادوا أن يخطئوا في حق المغاربة، إذ إن "مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس"...
وسيظهر تناغم الفريق، بشكل أكثر وضوحا، يوم الثلاثاء 18 ماي 2021، عندما أخطأت الخارجية الإسبانية التقدير، ودخلت في "البْسالة"، بعد أن أمهلت السفيرة المغربية في مدريد كريمة بنيعيش 30 دقيقة للحضور إلى مقر وزارة الخارجية، وهنا سيفاجئ المغرب إسبانيا، إذ كان رده مزلزلا، أولا قامت كريمة بنيعيش بجمع حقائبها، وعادت إلى الرباط وتركت رئيسة الديبلوماسية الإسبانية تنتظر في مقر وزارتها "عبو والريح"! ثانيا، تدخَّلَ رئيس الديبلوماسية المغربية ليقدم الدروس لنظيرته الإسبانية، وليقول لها إن "سفيرة جلالة الملك لا تتلقى تعليمات سوى من بلدها"، قبل أن يرمي الكرة للسفيرة المغربية...
كان ذلك يوم الجمعة 21 ماي 2021، من خلال خرجة مثيرة لكريمة بنيعيش، بتصريحات قوية ومتماسكة أدلت بها إلى وسائل إعلام إسبانية، كانت تتحدث بإسبانية طلقة، وبليغة، لترسل رسائل أولية، سيظهر بعد ذلك، أنها كانت تمهيدا لرئيسها، ناصر بوريطة، ليفجر قنابله السياسية...
اعتبرت بنيعيش أن إخراج إسبانيا للمجرم إبراهيم غالي، بنفس الطريقة التي تم إدخاله إليها، هو "اختيار للركود ولن يزيد الأزمة الدبلوماسية بين البلدين إلا تفاقما"، معتبرة أن هذه الأزمة تمثل "اختبارا لاستقلالية القضاء الإسباني"، وكذا "لعقلية السلطات الإسبانية"، التي اختارت "الإساءة إلى كرامة الشعب المغربي"، من خلال "استقبال هذا المجرم والجلاد"، مشددة على أن المغرب "لا يبحث عن أي مجاملة أو محاباة، بل يطالب فقط احترام روح الشراكة الاستراتيجية التي تجمعه مع إسبانيا وتطبيق القانون الإسباني"...
وأصبحت كريمة بنيعيش، الديبلوماسية التي أشرف الملك الراحل الحسن الثاني على تربيتها، حديث الخاص والعام، شغلت الإسبان واستأثرت بإعجاب وتقدير المغاربة، طوال يوم الجمعة، إلى صباح يوم السبت 22 ماي 2021...
وعند ظهيرة السبت، وفي غفلة من الجميع، ستخرج شخصية أخرى من أقطاب الديبلوماسية المغربية، ومن أطرها الكفؤة، هو السفير المدير العام للشؤون السياسية بوزارة الخارجية، فؤاد يزوغ، وهو مسؤول راكم تجربة ديبلوماسية مهمة جدا، وتدرّج في العديد من المناصب، من مدير لإدارة التواصل والعلاقات العامة في الوزارة، إلى مدير لمديرية الشؤون الأميركية، كما سبق له أن كان سفيرا في الأرجنتين، التي قام فيها بعمل ممتاز ما زالت آثاره ماثلة إلى اليوم في العلاقات الواسعة، التي خلّفها واستفادت منها القضية الوطنية، وفضلا عن هذا وذاك، فهذا المسؤول يعرفه الإسبان جيدا، فقد كان الرجل الثاني في سفارة مدريد قبل وخلال فترة السفير عمر عزيمان، ولذلك فقد كانت خرجته محسوبة جدا، إذ فجّر قنبلة من العيار الثقيل، خصوصا لما شرعت إسبانيا تروّج إعلاميا لمزاعم تنفي دخول المجرم إبراهيم غالي إلى إسبانيا بجواز سفر مزور...
ولذلك جاءت القنبلة التي ألقاها فؤاد يزوغ مزلزلة للرأي العام العالمي عموما، والإسباني على وجه الخصوص، عندما دعا إلى إجراء تحقيق شفاف لتسليط الضوء على كافة ملابسات قضية المدعو إبراهيم غالي، قبل أن يصدم الإسبان بالقول إن هذا التحقيق "قد يكشف عن العديد من المفاجآت، لاسيما تواطؤ وتدخل أربعة جنرالات من بلد مغاربي"، في إشارة واضحة إلى الجزائر، ما يعني أن الشعب الإسباني من حقه أن يعرف كيف تواطأ جنرالات الجزائر ليورطوا حكومته في عملية مشبوهة، لا يقوم بعا عادة إلا النصابون والمحتالون والمزورون، وإلا كيف يسمحون بدخول شخص متابع بجرائم ثقيلة من قبل القضاء الإسباني بهوية مزورة، وهي مسألة يفترض ألا تُقدم عليها أي حكومة تحترم نفسها ووطنها وشعبها وقضاءها...
ولذلك، لم يكد الإسبان يستفيقون من صدمة الدفوعات القوية وذات المصداقية للسفيرة المغربية، حتى خرج لهم السفير مدير الشؤون السياسية بصدمة أكبر، وحتى لا يترك مجالا للتشكيكات، التي باتت الحكومة الإسبانية تلجأ إليها للرد على الاتهامات المغربية القوية، تابع فؤاد يزوغ القول إن "هذه المعلومة قد تفاجئكم، بل وقد تكون صادمة للرأي العام الإسباني، لكن لا تتفاجأوا. فكما تعلمون، تعد الأجهزة المغربية من بين الأكثر كفاءة"، مبرزا أنه سيتم الكشف عن المزيد من المعطيات في الوقت المناسب، قبل أن يضع الإسبان أمام هذه المعادلة الجارحة: لقد اختارت إسبانيا من جهة بين مواطنيها ضحايا جرائم بشعة، ومن جهة أخرى، بين مجرم مسؤول عن مقتل العشرات من الإسبان، وكذا عن جرائم اغتصاب وتعذيب وحالات اختفاء. وفي المحصلة، تنحاز إلى هذا المجرم، فتُدخله إلى ترابها، بشكل احتيالي، وبوثائق مزورة وهوية منتحلة...
وعلى التو، انشغل الإسبان بل وانشغل العالم، طوال يوم السبت، واليوم الموالي الأحد، بهذه القنبلة، التي فجّرها فؤاد يزوغ... لكن "القنابل" المغربية لم تقف هنا، لقد ظهر جليا أن الديبلوماسية المغربية تتحرك كفريق، وأن المهام موزعة بدقة، وأن كل مسؤولة أو مسؤول يقوم بمهمته على أكمل وجه، وهذا ما سيظهر مساء الأحد 23 ماي 2021، فما أن حل مساء وليل هذا اليوم، حتى بدأت قنابل رئيس الديبلوماسية المغربية تتقاطر على وسائل الإعلام الغربية، من إذاعة "أوروبا 1"، والقناة الإخبارية "إل سي إ"، إلى وكالة فرانس بريس، ليضع النقط على مختلف حروف الأزمة، طبيعتها وسياقاتها وأسبابها وآفاقها، وأول شيء هو تكذيب نظيرته الإسبانية بالدليل والحجة، إذ خلافا لما صرحت به وزيرة الخارجية الإسبانية، لم يقع أي اتصال بين المغرب وإسبانيا منذ اندلاع هذه الأزمة، وعلى عكس ما تقول، لم يتم إبلاغ المغرب قط بوصول هذا المجرم إبراهيم غالي. لينتقل بوريطة إلى وضع الرأي العام العالمي أمام سؤال جارح: هل من الطبيعي في دولة القانون في علاقة بشريك مثل المغرب تزوير جواز سفر، وانتحال هوية لإدخال شخص ما إلى الأراضي الأوروبية، علما أن هذا الشخص متابع في إسبانيا بتهمة اغتصاب مواطنة إسبانية، وتهمة ذات صلة بالإرهاب من جمعية ضحايا الإرهاب الإسباني لجزر الكناري، وتهمة تتعلق بالتعذيب؟!
وبناء على ذلك، أوضح بوريطة أن هناك محاولة لتحريف مسار النقاش والتوجه نحو قضية الهجرة، في حين أن صلب الأزمة هو تصرف من إسبانيا مسيء للمغرب ولشعبه ولمصالحه الاستراتيجية.
ثم قدم بوريطة ما يكفي من البيانات لشرح وضع وموقف المغرب من قضية الهجرة، ليخلص إلى أن المجهودات التي يقوم بها المغرب في مجال التعاون المرتبط بالهجرة، ولم يكن ذلك إجباريا ولا بمقابل، قام بذلك انطلاقا من الشراكة، وبالتالي فالمغرب ليس ملزما ولا ملتزما وليس من واجبه حماية حدود غير حدوده. فالمغرب ليس دركيا ولا بوابا لأوروبا لحماية حدود ليست حدوده... ليخلص إلى بعث رسالة واضحة جدا لإسبانيا، مفادها أنه إذا كانت "تعتقد أنه يمكن حل الأزمة عن طريق إخراج هذا الشخص (إبراهيم غالي) بنفس الإجراءات، فيعني ذلك أنها تبحث عن تسميم الأجواء وعن تفاقم الأزمة أو حتى القطيعة"...
واللافت أن الرأي العام الإسباني والأوروبي، الذي شغلته هذه الرسائل القوية من قبل رئيس الديبلوماسية المغربية، ليلة يوم الأحد وطوال يوم الاثنين 24 ماي 2021، شرع يخرج من الأحكام المسبقة ويتأمل، بل ويتفهّم مواقف المغرب من الأزمة...
وفي يوم الاثنين دائما، سيكون المنتظم الدولي على موعد مع قنبلة أخرى من قبل الديبلوماسية المغربية، سيطلقها العملاق عمر هلال، السفير الممثل الدائم للمغرب بالأمم المتحدة، من خلال رسالة لمجلس الأمن، استعمل فيها لغة قوية، وفي الآن نفسه لغة الوضوح والمسؤولية، ندد فيها بالارتباط الإيديولوجي والعمى السياسي لجنوب إفريقيا حول الصحراء المغربية... لقد كان الديبلوماسي المغربي يقدّم الدروس لجنوب إفريقيا، ويحرجها أمام العالم، ويكشف مناوراتها وكذا جهلها بطبيعة العمل داخل الهيئة الأممية...
ففي رسالة وجهها، أمس الاثنين، إلى رئيس مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، ردا على نقل الممثلة الدائمة لجنوب إفريقيا رسالة من (البوليساريو) إلى المجلس، قال عمر هلال إن "ارتباط جنوب إفريقيا الإيديولوجي بالنزعة الانفصالية لـ(البوليساريو) لا يمكن أن يغفل العمى السياسي لهذا البلد بشأن النزاع حول الصحراء المغربية"، مضيفا أن "دعمها غير المشروط لهذه الجماعة المسلحة لا يمكن أن يبرر سكوتها المتواطئ على الجرائم التي ارتكبت ضد السكان المحتجزين في مخيمات تندوف، بما في ذلك الجرائم المرتكبة من طرف (زعيم) هذه الميليشيات، المدعو إبراهيم غالي، والمتابع في إسبانيا بتهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأعمال إرهابية، والاغتصاب".
وأعرب السفير هلال عن أسف المملكة المغربية العميق بخصوص "تمسك جنوب إفريقيا بدورها كمبعوث لمحتال يدعي حصوله على اعتماد مزعوم كـ(سفير ممثل للبوليساريو بالأمم المتحدة)، وهي صفة لم تخولها له المنظمة قط".
وفي هذا الإطار، دعا الدبلوماسي المغربي جنوب إفريقيا إلى "الالتزام بالموقف الرسمي للأمم المتحدة، كما عبر عنه أمينها العام في تقاريره المتعاقبة لمجلس الأمن، والتي تصف هذا المحتال بالممثل البسيط للبوليساريو في نيويورك، وليس في الأمم المتحدة على الإطلاق"، ولعل هلال استحضر تلك النكتة المغربية الساخرة بالغباء والبلادة والتي مفادها "بحال اليابان بحال اليمن الله يرزق غير الصحة والسلامة"، إذ أضاف ساخرا "ربما تخلط جنوب إفريقيا بين الاسم المختصر لنيويورك (NY) والأمم المتحدة (UN)".
وتابع هلال بلغته الساخرة، لكن المبنية على معرفة وثيقة بقواعد العمل في الأمم المتحدة، إذ قال "وحتى إن لم يرق الأمر لجنوب إفريقيا، فإنها لن تجد في الموقع الرسمي للأمم المتحدة، ولا في الدليل الدبلوماسي، الكتاب الأزرق، ولا حتى في أي وثيقة للأمم المتحدة، أدنى إشارة إلى ما يسمى بتمثيلية هذه المجموعة المسلحة لدى الأمم المتحدة"، مشيرا إلى أن "إصرار جنوب إفريقيا على مساندة هذا الانتحال في الصفة لا يمكن أن يضلل مجلس الأمن ولا أن يضفي أي شرعية على تمثيلية مزعومة موجودة فقط في مخيمات تندوف بالجزائر".
ودعا الدبلوماسي المغربي الممثلة الدائمة لجنوب إفريقيا إلى "التساؤل لماذا الجزائر، التي خلقت (البوليساريو)، تمولها وتسلحها وتعبئ كامل أجهزتها الدبلوماسية، لا تكلف بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة بنقل هذه الرسالة الكاذبة لهذا المحتال إلى مجلس الأمن؟ ولماذا تقوم الجزائر، الطرف الرئيسي في هذا النزاع الإقليمي، باستمرار، بتفويض هذه المهمة غير القانونية إلى جنوب إفريقيا؟".
من جهة أخرى، أعرب هلال عن إدانة المغرب لـ"مصادقة جنوب إفريقيا على استخدام مصطلحات مغلوطة حول طبيعة النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، وكذلك ادعاءات كاذبة بشأن وضعية حقوق الإنسان في أقاليمه الصحراوية".
كما اتهم السفير المغربي جنوب إفريقيا بالتظاهر بتجاهل أن مجلس الأمن، في قراراته المتتالية، بما في ذلك القرار 2548 الصادر يوم 30 أكتوبر 2020، "يرحب في هذا الصدد بالإجراءات والمبادرات التي اتخذها المغرب، والدور الذي تقوم به لجان المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالداخلة والعيون، والتفاعل بين المغرب والآليات التابعة للمساطر الخاصة لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة".
وأضاف الديبلوماسي المغربي أن "جنوب إفريقيا ليست في وضع يسمح لها بتنصيب نفسها محامية في مجال حقوق الإنسان"، مشيرا إلى أن "المنظمات الدولية لحقوق الإنسان تدين بانتظام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في جنوب إفريقيا، ولا سيما فيما يتعلق بحقوق الأقليات والسكان الأصليين، وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وغيرهما".
علاوة على ذلك، سلط هلال الضوء على "العنف والجرائم العنصرية القائمة على كره الأجانب، وحملات الكراهية التي يتعرض لها المهاجرون واللاجئون وطالبو اللجوء من الدول الإفريقية الشقيقة، والذين استقروا في جنوب إفريقيا"، معتبرا أنها وضعية مؤسفة للغاية "في وقت يستعد المجتمع الدولي للاحتفال بالذكرى السنوية العشرين لإعلان وبرنامج عمل ديربان ضد العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب"، وكأن عمر هلال يقول لجنوب إفريقيا "قبل ما تنعتي في ديور الناس شطبي بعدا باب دارك"...
واختتم السفير المغربي رسالته بالإشارة إلى أن "إنكار جنوب إفريقيا لموقف مجلس الأمن من قضية الصحراء المغربية يشوه مصداقيتها، بطريقة مستدامة، كدولة تطمح للاضطلاع بدور في حفظ السلم والأمن باسم القارة الإفريقية"، وأن "مثل هذه المسؤولية لا يمكن أن توكل إلا للدول التي تعمل من أجل السلم ووحدة القارة، بعيدا عن أي موقف حزبي أو إيديولوجي".
وستُنشر هذه الرسالة، التي وزعت على أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، كوثيقة رسمية للمجلس، وستُسجل في سجلاته ثم توزع على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باللغات الرسمية الست للمنظمة...
هنيئا للمغاربة بهذا الفريق الكفؤ والمنسجم والقوي في الديبلوماسية المغربية، الذي جعل المغاربة، هذه الأيام، يحسون بالفخر والاعتزاز لانتمائهم إلى هذا الوطن العزيز الجميل المسمى المغرب...