تقديم كتاب "الطريق الرابع" لمصطفى المريزق.. دور المقاومة الوطنية الجديدة في إعادة البناء
الكاتب :
"الغد 24"
عزيز كوكاس
يرهن الكاتب المصطفى المريزق الفكر بالممارسة ويُنزل القيم والتمثلات من برجها العاجي لخدمة الفئات ذات المصلحة في التغيير في اتجاه التحديث والتنمية بأفق مفتوح على متغيرات العالم.. فمنذ عهدته، وهو يحاول المزج بين الثقافة العالمة كما تعكسها انشغالاته الثقافية والأكاديمية وممارسته السياسية في خط الالتزام الإيديولوجي القريب من قناعاته وتمثلاته.
وهو في هذا الكتاب يضع الفكر في خدمة السياسة بمعناها النبيل، ويرسم أفقا لمسار أمة باستحضار كافة المعطيات وتحليل الواقع الملموس، ورسم ما يشبه خريطة طريق لمغرب المستقبل، بدءا من تشريح الوضعية الراهنة التي خلقها فيروس كورونا على كافة المستويات، الوضع الجيوـ سياسي العالمي، تراجع القطبية الأحادية التي ميّزت النظام الدولي منذ انتهاء الحرب الباردة، فقدان الثقة في المؤسسات.. وما خلفت الجائحة على المستوى الداخلي الوطني، مركزا على ما له صلة كبرى بالمغرب: الاتحاد الأوروبي وأمريكا التي تزلزل موقعها بفعل جائحة فيروس كورونا..
رؤية الطريق الرابع، تم إطلاقها تحت إشراف الدكتور المصطفى المريزق في إطار تيار فكري يوم 28 أبريل 2020، أي في ظل اجتياح وباء كورونا المستجد للمغرب، مع الحجر الصحي وإعلان حالة الطوارئ، ومع ما يمكن وصفه بالمعركة الأولى التي كسب المغاربة جولتها بنجاح، منذ إعلان العاهل المغربي عن إنشاء صندوق مكافحة كورونا، وتقديم الدعم الاجتماعي للفئات الأكثر هشاشة، وإشادة جماعية بروح المسؤولية العالية لجنود الصف الأمامي في محاربة الوباء الكاسح، من أطر طبية مدنية وعسكرية، وكافة قوات الأمن على اختلاف مراتبها، وروح وطنية عالية للمجتمع المدني والإعلام الوطني.. حيث أحسسنا بعودة الروح للفعالية الوطنية والمشاركة الجماعية في تدبير جائحة شلت الاقتصاد، وهزمت دولا عظمى ذات إمكانيات هائلة وبنية تحتية جد متطورة، وتمت الإشادة دوليا بالخطوات الاستباقية التي قامت بها الدولة المغربية التي استرجعت الكثير من طبيعتها الإنسانية والوطنية والاجتماعية..
وكما في كل الأزمات الكبرى توجد نقط ضوء تقودنا إلى الوجهة الأخرى من النفق.. فبعد كل ظلام تنبثق خيوط الفجر، هذا بالضبط ما قام به في هذا الكتاب الباحث المصطفى المريزق، الذي يضع ثمرة جهده الفكري في خدمة الأمة وإعادة البناء من أجل مغرب المستقبل، متسلحا بقراءة مستبصرة لما يجري، بغير الحماس الأعمى والبراغماتية الميكيافيلية في شقها غير النبيل، إنه يصل الحاضر بالماضي وهو يتحدث عن "المقاومة الوطنية الجديدة ودورها في إعادة البناء"، غير مهووس بالشعارات المخدرة التي لا تصلح كوقود لقاطرة التقدم والتنمية.
الطريق الرابع هو رؤية للتفكير في الحل الاقتصادي والاجتماعي للمغرب، في أفق تغيير الواقع وجبر الضرر الاجتماعي وتحرير المجتمع من النظم الغيبية والخرافات والشعبوية التي استشرت أكثر في العقود الأخيرة بالمغرب، رؤية مجددة قادتها حركة "قادمون وقادرون.. مغرب المستقبل" التي يرأسها الدكتور المصطفى المريزق.. تعتمد مقاربة الطريق الرابع على ركائز أساسية، منها مقاومة البؤس والفقر الفكري، ومقاومة السيطرة ومقاومة الازدراء والتبخيس والحجر الإيديولوجي والنخبوية والبيروقراطية ومقاومة الفشل... وهنا يوجد اليسار في قلب مرمى المؤلف، أو ما يسميه "ما تبقى من اليسار" في إطار نقد ذاتي صارم لكنه لا يروم الردة أو النكوص إلى الماضي بانتصاراته وانكساراته الموجعة، ولا التخلص من "تجربة الحلم والغبار" بقدر ما يهدف إلى تأسيس ما يسميه "الخط التقدمي النقدي الخلاق" الكفيل برد الاعتبار للنضال الفكري الواعي والمسؤول..
كتاب الطريق الرابع، الذي شرفني الصديق المصطفى المريزق بتقديمه، يرج اليقينيات والمطلقات في الفكر ويوجه سهام النقد للانحرافات والارتكاسات في أفق المستقبل، لا التجول باطمئنان في قبور الموت، كما يفعل اليساريون السلفيون، لذلك يكتب المصطفى المريزق في ثنايا هذه الكتاب الأشبه بخريطة الطريق، والذي تكمن قوته وحيويته الفكرية ليس في تقديم أجوبة بل في حث الذهن على طرح الأسئلة الجوهرية حد الاستفزاز ضد اليقينيات الكسولة، يكتب في ص 34 من هذا الكتاب: "إن الطريق الرابع ينص على أن تجديد آليات اليسار موجودة في اليسار ذي الأفق الاستشرافي الذي يؤمن بتجديد ذاته ونقدها ولا يتحرج في مقاومة فشله، ويؤمن بدور العقل في تكوين الهويات الجمعية القائمة على الديمقراطية التعددية القادرة على التأثير في القرارات السياسية، وفي دعم كل المواقف التي تعزز الدفاع عن قضية ما".
كتاب "الطريق الرابع" هو سلسلة من مشروع متجدد ينم عن جهد وكد، وعن إعمال قوي للفكر النقدي في مناقشة الأسس والمنطلقات الفكرية والإيديولوجية، ويهدف إلى الابتكار والتجديد دون القطع مع كل ما تراكم في حقل الاجتهاد الفكري لليسار داخل المغرب وخارجه، ويتوسل ببعد نقدي تفكيكي وفق استراتيجية إعادة البناء فيما يشبه "البريسترويكا المغربية" دون أن نشتهي لها مسارات مشابهة للبيسترويكا في مهد ولادتها، لا يبخس المصطفى المريزق المنجز الوطني ولا الكوني لكنه لا يقع في شراك تبجيله حد التقديس، لأن أصل المشروع هو الانتصار للعقل ومحاربة الشعبوية والدوغمائية والفكر السحري، مشروع واعد بدأت تتضح معالمه مع توالي إصدارات المؤلف ومقالات وحوارات الناطق باسم حركة "قادمون وقادرون"، الذي يحاول الاستفادة من المنجز الإنساني في شقه الإيجابي مع تفكيك العديد من الجوانب السلبية حتى داخل منظومة اليسار ذاته، أو ما تبقى منه ممن يستحق هذا الاسم هوية وإبداعا، تنظيرا وممارسة.. لكن ما هي مقومات الطريق الرابع في ظل جائحة معولمة كاسحة لا تُبقي ولا تذر كمستجد له إسقاطاته غير المتوقعة - والتي من الصعب ونحن نعيش في خضمها- أن نتبين مداها وقوتها الكاسحة على الفكر والسياسة والمجتمع ككل؟
توجز هذه العبارة المبتوتة في مقدمة الكتاب: "وهو ما يحتاج منا لـ"مقاومة وطنية جديدة" لتعزيز مقومات الدولة الوطنية وبناء الدولة الاجتماعية"، الهدف الاستراتيجي للسير في اتجاه الطريق الرابع، حيث عدد المؤلف ركائز هذه المقاومة الوطنية الجديدة.
يهدف الكتاب في سياق ما تحمله الحركة التي يقودها المؤلف "قادمون وقادرون من أجل مغرب المستقبل، إلى بناء ما يسميه "اليسار الآخر والممكن"، ولأن الركائز تفرض منطلقات عملية: من أين نبدأ في إصلاح الأوضاع وإعادة البناء، يميز الكاتب بين المنطلقات والتحديات.. ويشرح كل منطلق وتحدي.
ينتصر البعد البيذاغوجي في الكتاب على البعد الإيديولوجي على خلاف ما اعتدناه في مجموعة من الكتابات القادمة من الممارسة اليسارية، إلا فيما نذر، هناك تنسيب كبير للحقائق تعكسها عبارات الباحث المتسلح بكفاية المنهج العلمي، لا الإيديولوجي الذي يحاول تكثيف الوقائع بما يخدم أطروحته، وتعكسها المفاهيم والعبارات التي يوردها الباحث في مضامين كتابه، من مثل "وإذا كان من الصعب التنبؤ"، و"انطلاقا من الحد الأدنى للتقديرات الحالية التي يتحدث عنها الخبراء والعلماء"، و"قد تكون..."، من هنا الغنى الفكري في هذا الكتاب المستند إلى البحث والاستقصاء والاستعانة بالتاريخ وبمعطيات العلوم الاجتماعية والسياسية وبالتطورات التي عرفها العالم في المرحلة الفاصلة بين القرنين الماضي والحاضر، وإنه لأمر ملفت للانتباه أن يعيد الكاتب الألق الفكري لوهج السؤال والممارسة السياسية، ويكفي هذا لوحده ليشكل الكتاب إضافة نوعية في حقل التنظير الإيديولوجي الذي افتقدناه في حركاتنا السياسية مع ما ساد فيها من شعبوية وبراغماتية غير نبيلة.