وداعا السي محمد بن المقدم.. رحيل مناضل شامخ من مؤسسي وقادة العمل الديمقراطي الشعبي
الكاتب :
أحمد نشاطي
أحمد نشاطي
رفيقتي العزيزة عائشة لخماس، هل نعزيك ونعزي ابنيك بسام ونبيل أم نعزينا ونبكي معا هذه الأجزاء من أرواحنا التي يقتلعها الموت منا فتغادرنا وتتركنا فريسة لألم الغياب، الذي يفرم فينا الروح والجسد والأعصاب...
من اليمين، الرفاق: المهدي العمراني، عيسى الورديغي، يوسف غويركات، الفقيد محمد بن المقدم، يوسف أيت يوسف
من اليمين، الرفاق: محمد الحبيب طالب، محمد لخماس، يوسف غويركات، محمد الإسماعيلي، والفقيد حسن السوسي
الفقيد محمد بن المقدم، رفيق شامخ آخر يترجل، غادرنا ليلة أمس الأربعاء 4 نوفمبر 2020... حدثني هذا الصباح رفيقي يوسف غويركات عن مجموعة من الصور، كان ضمنهم الرفيق حسن السوسي في زيارة معايدة للرفيق محمد بن المقدم، تتساقط قطرات دمع حرّى، وتفكر: من سيكفكف دموع عائشة، وعلى التو يحضر شريط من الصور والأحداث والذكريات والوجوه، وأتذكر عندما كنا في اجتماعاتنا نستحضر تجربة حب في الحياة والنضال ربطت مناضلين كبيرين: عائشة ومحمد، وكنا نستلهم منهما منارات تضيء لنا الطريق في الحياة وفي النضال، نستحضر صورة عائشة وهي تتخفّى لتفلت من الاعتقال، الذي اقتلع منها رفيقها وحبيبها وخطيبها، ومن أجله غامرت بحريتها، وبإمكانية انكشاف حقيقتها وانتمائها وسقوطها هي أيضا في الاعتقال، تحدّت كل ذلك وهي تتقدم إلى السجن، وتدخل متنكرة بجلباب ونقاب حتى لا تثير انتباه العيون المتلصصة، لتقابل المعتقل السياسي، آنذاك، السي محمد بن المقدم، توأم روحها، فيتحادثان عن الحب، وعن التنظيم السري، وعن الرفيقات والرفاق، وعن مهام المرحلة...
اعتقل الرفيق محمد بن المقدم مرتين، مرة في 1981، وكان من أطر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إضافة إلى محسن عيوش وحسن السوسي، وكان الهدف هو قطف الرؤوس، التي تعتبرها الأجهزة، هي المحرضة والقائدة للاحتجاجات الطلابية، من أجل تمرير إدخال جهاز "الأواكس"، إلى الجامعات المغربية، والمرة الثانية في انتفاضة الخبز سنة 1984، إلى جانب الرفيقين محسن عيوش وعبد الحفيظ الحجامي، إذ اعتبروا رأس المحرضين على الاحتجاجات، التي اندلعت في الدارالبيضاء...
تجربة عائشة لخماس ومحمد بن المقدم ليست مجرد تجربة ذاتية فحسب، هي تاريخ ومسار شباب حالم بالثورة الوطنية الديمقراطية، تعرفت عليه عند انتقالها من مراكش إلى الرباط، حيث ستنضم، وهي طالبة جامعية، إلى منظمة 23 مارس في بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي أول اجتماع سري لهذه المنظمة السرية حضرته عائشة، في منزل أحد الرفاق في الرباط، سيكون هناك محمد بن المقدم، ومعه الرفيق الفقيد عبد الواحد بلكبير، ثم انطلقت حكاية جميلة مع واحد من ألطف رفاقنا، دماثة طبع وسمو خلق... كذلك كان، وكذلك ظل دائما وإلى آخر رمق، لم يفارق طيبوبته، التي كانت تحبّبه لدى كل الرفاق... وإلى اللحظة، لا يمكن أن تحضرني صورته في الذاكرة إلا مبتسما، تتجمّع في تلك البسمة كل طيبوبة العالم...
بالمناسبة، كنت دائما أكتب اسم رفيقي هكذا "بلمقدم"، لكن اليوم أكتبه كما كان يريد هو، وفق ما ذكرت رفيقتنا فوزية التدري، زوجة الرفيق يوسف غويركات، والتي كانت على اتصال وثيق بفقيدنا، إذ كلما كان في زيارة للرباط أو في مهمة، كان يحل ببيتهما، وتؤكد فوزية التدري أن كتابة اسمه "بلمقدم" كانت تغضبه، وكان يأخذ القلم ويصحح كتابة الاسم.. وكتبت الرفيقة فوزية: "فإكراما لذكراه، نترحم عليه الليلة وباقي الأيام باسمه الحقيقي محمد بن المقدم، والمرجو أخذ الأمر على محمل الجد"...
الصديق مصطفى المنوزي، بدوره، يحكي عن إحدى خاصيات الرفيق بن المقدم، وذلك خلال مقامهم في السجن المدني، حيث أخذ الراحل محمد البشيري، القيادي آنذاك في جماعة العدل والإحسان الإخوانية، ذات جمعة، يخطب في السجناء، في ساحة السجن، مكفرا المناضلين الاشتراكيين والشيوعيين، ووصفهم بالملحدين، وكان أن بادر بن المقدم إلى صياغة "مقترح فتوى"، مفادها أن خطبة الجمعة لا تجوز إلا في المسجد الجامع، وتفاعلت الإدارة إيجابيا، ودعت البشيري إلى الكف عن إلقاء الخطبة في السجناء، وأضاف المنوزي أن بن المقدم كان لطيفا وهادئا، ولا يهدأ في علاقته مع المطالعة والقراءة، متخصصا في فكر حسن حنفي، مقارنا وناقدا لفكر محمد عابد الجابري، حول القومية والوحدة والتراث والتحديث والحداثة، كان بن المقدم مفيدا ومنتجا، تسأله عن إشكالية أو عن فحوى كتاب، فيمدك بموجز لما قرأه أو بتلخيص للأفكار، وكان يكتب بخط جميل، وتشدك طريقته في الحديث وعرض الأفكار، بيداغوجي بكل ما للمصطلح من معنى...
أحيانا كان ينهض عابسا، يظهر عليه ذلك بوضوح في تعقّد حاجبيه، فيتدخل ويناقش ويرد ويدافع ويصارع، لكنه في كل ذلك يبقى ذلك الرفيق الطيب، المترفع عن سفاسف الأمور، يتفق معك بحب، ويختلف معك بأدب، وبينهما يقرأ، يعبئ، يمارس نضاله السياسي، دون أن يغفل نضاله الثقافي، والجمعوي...
يحدثنا عنه الرفيق عبد الهادي الزوهري، الذي كان ضمن أول خلية سرية لمنظمة 23 مارس في آسفي، رفقة الرفيق محمد بولامي، والرفيق الراحل عبد الواحد اليعقوبي، وعند انتقاله إلى الدارالبيضاء، سيكون صلة الوصل مع المنظمة هو الرفيق محمد برادة حميمة، إلى أن اشتد على برادة الخناق، فاضطر إلى الغياب وستحل محله الرفيقة عائشة لخماس، التي ستصبح هي المسؤولة عن الخلية، التي كانت تضم الرفيقة سامية عباد الأندلسي زوجة رفيقنا مصطفى مسداد، والرفيق سعيد يقطين، إضافة إلى الرفيق الزوهري، الذي يحكي أن المهام، التي كانت أسندت إليهم هي العمل في النادي السنمائي مرس السلطان، وبإحدى الجمعيات الثقافية بدار الشباب بوشنتوف، ويقول الزوهري: "كنت أتعجب من تشابه تدخلاتي بتدخلات عضو آخر لم أكن أعرف شخصه ولاهويته السياسية، حتى أنني كنت أجتمع ضمن خليتي في بيته (الذي هو أيضا بيت عائشة لخماس بحكم مسؤوليتها عن الخلية) دون أن أراه أو ألتقيه... إنه الرفيق الغالي محمد بن المقدم"...
كل الرفيقات وكل الرفاق لا يتحدثون عن السي محمد بن المقدم إلا بوصف "الرفيق الغالي"، وصف يختزن حجم الحب، الذي يوليه إياه كل رفيقاته ورفاقه...
كل التعازي والمواساة لرفيقتنا الغالية عائشة لخماس في فقدان رفيقنا الغالي محمد بن المقدم، ولكل أسرته الكريمة، ولكل رفيقاته ورفاقه، وكل معارفه، وعزاؤنا واحد...