الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
عبد الواحد الراضي وصورة توضيحية لأحد مظاهر التعذيب

الراضي يحكي بألم حقيقة "المؤامرة" على حياة الملك وحصص تعذيبه بوحشية بمعتقل درب مولاي الشريف

 
حسن عين الحياة
 
فتح عبد الواحد الراضي جرحا قديما، ظل كما لو أنه سر مخبوء في صدره لأزيد من نصف قرن. ذلك أنه وفق ما ذكره في كتابه "المغرب الذي عشته"، ذاق بدوره نصيبا من التعذيب بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، وعانى من آثاره التي تحفر في النفس أعطابا تظل عصية على الانمحاء رغم مرور الزمن.
كان الزمن آنذاك يمر سريعا بالمغرب، ففي سنة 1963، طغت أحداث ما سمي بـ"المؤامرة" ضد حياة الملك على المشهد السياسي، ووجد الاتحاديون أنفسهم في موقع اتهام.. وقد ذكر عبد الواحد الراضي تفاصيل ما جرى وقتها سواء قبل أو بعد هذا الحدث الذي غير كثيرا من موازين القوى آنذاك.
ويحكي الراضي كيف أنه عاد من فرنسا على عجل لحضور اجتماع الحزب بمقره في الدارالبيضاء الذي كان مقررا أن يناقش عدة نقاط، أهمها المشاركة في الانتخابات الجماعية لسنة 1963 من عدمها.. لكن خلال الاجتماع، تم تطويق مقر الحزب بالبوليس الرسمي والسري.. "وما إن اتخذنا قرارنا النهائي (مقاطعة الانتخابات) حتى أوقفوا سيارات الشحن الأمني أمام مدخل المقر مباشرة وبدأوا يشحنوننا واحدا واحدا في عملية اعتقال جماعي ذكرتنا بعهد كنا قد خرجنا منه كمغاربة.. وما إن كانت سيارة (فوركونيت) تمتلئ حتى تتحرك في اتجاه الكوميسارية سنطرال بالمعاريف وتقف سيارة أخرى فتمتلئ وتتحرك بدورها في نفس الاتجاه، وهكذا إلى أن تم اعتقال جميع أعضاء المجلس الوطني للحزب وكل من كان داخل المقر، بمن فيهم الكهول والعجزة والأطفال الذين كانوا يرافقون بعضهم". يقول شيخ البرلمانيين بالمغرب.
وحسب الراضي، أعطيت تعليمات، فأُفرج عن عبد الرحيم بوعبيد وأربعة آخرين، بينما "احتفظ بنا في ضيافة الزنازين، قضينا ليلتنا الأولى على (الضس)، الأرضية باردة.. كما كنا نتطلع إلى بعضنا البعض، محمد عابد الجابري، محمد اليازغي، عمر بن جلون، محمد بنسعيد (فاس)، ونتساءل ماذا يقول القانون بعد انصرام مدة الحراسة النظرية؟ ثم جيء لنا بأكلة رديئة لا تؤكل. ومكثنا هناك لا نعرف ما الذي كان يحدث خارج تلك الجدران... وكما أصبحنا نعرف لاحقا، انطلقت حملة صحفية أوركسترالية ضدنا وضد الحزب، وكانت جميع أنواع الخطاب الإعلامي المعادية مجندة لتتحدث عن (المؤامرة). وسيصرح أحمد باحنيني، وزير العدل آنذاك، بأن "الاعتقالات التي نُفِذت، جاءت بعد اكتشاف مؤامرة ضد حياة الملك، وأن محركها هو الفقيه البصري وبعض قدماء المقاومين، وأن هناك تنسيقا مع بعض الدول المعادية".
وسرد الراضي عدة تفاصيل حول ما جرى من استنطاقات كانت تهم الاتحاديين فرادى أو جماعات، وكيف حولت الدعاية الاجتماع الحزبي من اجتماع عادي إلى آخر يقول "بأننا كنا قد خططنا لمؤامرة ضد حياة الملك، وذلك في إطار مشروع ثورة. وبأننا لم نذهب إلى اجتماع الدارالبيضاء إلا لنوزع الأسلحة على بعضنا! وأننا هيأنا كل شيء بما في ذلك (نشيد الثورة) التي ستندلع". لكن حسب الراضي، إن حضور صحافيين أجانب كانوا يتابعون الاجتماع أفشلوا هذا السيناريو...
ومن محطة إلى أخرى في سرد الأحداث، كان الراضي ينتقل تدريجيا ليمارس فعل البوح عن الألم، قبل أن يصل إلى لحظات التعذيب التي وجد نفسه ينال نصيبه منها في إحدى الغرف التي أعدت للسلخ المبين. "طُلبت بالاسم. وأُخذت إلى المعتقل الشهير في تاريخ الاعتقال السياسي في المغرب إبان سنوات الرصاص، درب مولاي الشريف الموجود في الحي المحمدي، أحد أهم الأحياء بالدارالبيضاء. أجلسوني في دهليز للحظات، ثم عادوا بعد ذلك فأدخلوني إحدى الزنازين، ونزعوا ملابسي. قيدوني بالحبال فوق مقعد خشبي طويل وتركوا رأسي مدلَّى في الفراغ. ثم شرعوا في تعذيبي بوحشية وسؤالهم المكرور على رأسي، (أين السلاح؟). وكلما أكدت أنني لا أعرف عن أي سلاح يتحدثون، كانوا يخرجون نسخة من صحيفة Le petit marocain وعلى صدر صفحتها الأولى (مانشيت) بحروف بارزة (Le complot) المؤامرة، ويقولون ها هي الحجة، هل هذه الصحيفة تكذب؟ تكلم، أين السلاح؟ لمن سلمتُم السلاح؟ كما لم يتوقفوا لحظة عن استعمال الجفّاف المبلل بالماء القَذِر كطريقة تعذيب. كانوا يغطسون الجفاف في سطل الماء ويضعونه على وجهي. كلما حاولت أن أتنفس، يتسرب الماء إلى فمي وأنفي. وفي نفس الوقت، كان شرطي آخر يواصل ضرب قدميَّ الحافيين دون توقُف".
بعد هذا التعذيب، يقول الراضي، "جاءت لحظة فقدت فيها الإحساس بجسدي من شدة ذلك الجحيم الرهيب. لم أعرف متى ولا كيف بدأت أتلو، بصوت مسموع، آية الكرسي مغالبا نفسي واختناقاتي. هم يضربون ويضعون قطعة الثوب المبللة القذِرة مرارا على وجهي وأنا لا أتوقف عن القراءة المقدسة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم.... (الآية)".
خلال هذا السفر الطويل من الألم الذي كشف الراضي من خلاله تفاصيل تعذيبه، ونظرة الجلادين للمعتقلين المرميين في الزنازين والممرات بالمعتقل، توقف برهة.. "في تلك اللحظة، وهناك في ذلك المعتقل، سمعت خبر ميلاد ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس)".
حين علمت زوجة الراضي بخبر اعتقاله، وأنه موجود بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، توجهت فورا إلى هناك حاملة معها بعض الأغراض والأغذية. ولم تتوقف إلا وهي أمام أحد الحراس من رجال الأمن فسألته. "فلم يستطع أن يجيبها وفضل أن يرافقها إلى مقابلة مدير المعتقل لكونها أجنبية (...) فوجئ قدور اليوسفي بوجود امرأة فرنسية أمامه، فظل يصرخ في وجهها: لماذا دخلت؟ ومن أعطاك الحق بالدخول؟ سنتابعكِ على هذا الخرق! فالتفت ليؤنب البوليسي الذي أوصل زوجتي إلى مكتب المدير (...). ثم انتقل إلى تهديد زوجتي إذا ما خرجت وقالت أي شيء عما رأته (...) وطبعا لم يُسمح لها بلقائي... وما استطاعت أن تحققه زيارة زوجتي أنها جعلتهم يُدخلون إلي الملابس التي جاءت بها ويعيدون إليها الملابس التي كنت أرتديها وعليها بعض آثار العبور الدامي في الدرب...".
كان قد مر أكثر من شهر على اعتقال الراضي، لكن في الأخير تمت المناداة عليه من زاويته المهملة كي يتوجه للإدارة، فصعد. وقع على المحضر وتمت إعادته إلى الكهف "في ذلك اليوم، كما علمت لاحقا، جيء بإخواننا الذين كانوا معتقلين في الكوميسارية المركزية (سنطرال) بالمعاريف إلى معتقل درب مولاي الشريف، وهجموا عليهم بالضرب العشوائي الجماعي كما اتفق، ثم صرفوهم إلى بيوتهم تحت الشتم والتهديد.. وفي وقت متأخر من مساء اليوم نفسه، وتحت جنح الظلام، أطلقوا سراحي. خرجت وقد فقدت الإحساس بالمكان والزمان. فلم أعرف أين كنت ولا أين سرت... إلى هذه اللحظة، مازلت لا أذكر كيف غادرت الدارالبيضاء أو كيف وصلت إلى بيتي في الرباط. هل امتطيت قطارا أم حافلة أم ماذا؟ لا أعرف. إلى الآن، لا أعرف بكل صدق". يختم الراضي حفرياته الأليمة في الألم.