دراسة حول "النخبة": لا ارتقاء حضاري بدون إسهام الإنسان في قيادة جهود صياغة المستقبل
الكاتب :
د. جمال المحافظ
د.جمال المحافظ
اعتبرت دراسة علمية حديثة حول "النخبة" في المغرب، أنه لا نمو ولا ارتقاء حضاري في غياب إنسان قوي يتيح له الإسهام في قيادة جهود صياغة المستقبل، ملاحظة أن هذه النخبة "تعاني من غياب تربية تقوم على المعرفة السليمة والعلم بكل تخصصاته والتقنية بكافة صنوفها، تيسر إدراك المرء وتمكنه من اقتدارات ومهارات الولوج إلى الحياة وتصنيعها".
وأوضحت الدراسة، التي أعدها عبد الله أبو إياد العلوي، الأستاذ الباحث في الظاهرة الإنسانية، وأجريت ما بين أواسط سنة 2019 و2020، أن البلاد وصلت، في غياب هذا الشرط، إلى "إنتاج متعلمين وأنصاف متعلمين بالغين بيولوجيا وجنسيا، ولكن غير رشداء وجدانيا واجتماعيا وثقافيا، بالقدر الذي يسمح لهم بصياغة الحوار بين الصفات الطفلية والصفات الوالدية بتنشيط من قبل الذات الراشدة على مستوى الحياة الشخصية الداخلية".
وسجلت الدراسة أنه كثيرا ما يقرأ في الكثير من الخطابات السياسية والاقتصادية في المذكرات التقديمية لقوانين المالية، الحديث عن ترشيد النفقات لتأمين السلامة الاقتصادية والمالية، وهي دعوات -حسب الدراسة- تستحق التقدير والاحترام، لكنها ستبقى مجردة، وبدون دلالة في غياب تربية وتنمية ترمي إلى ترشيد الإنسان وتمكينه من المصالحة مع ذاته بكل أبعادها الواقعية والعضوية والمثالية، وما يطالها من طموحات الاجتماعية وما تحتويه من قيم ومعايير وأخلاق وثقافة وعلاقات إنتاجية وبكل مراحلها الزمنية عبر المصالحة بين الماضي والحاضر كشرط لتحضير المستقبل.
إننا أمام نخب متخاصمة مع الماضي هاربة من المستقبل عابثة ومستقلة للحاضر، لا تهمها إلا متعتها الآنية، وهذا يصل إلى نسبة 71% من عينة العمل، فنخبتنا ليست تكنوقراطية، حسب ما يستفاد من بعض الخلاصات التي رصدتها الدراسة التي استندت على المقومات المشتركة للعينة الممثلة للصفوة في كل من جهتي الرباط سلا القنيطرة والدارالبيضاء سطات.
وبخصوص مصطلح النخبة الذي أفاضت الدراسة في مقاربته، رجحت الدراسة أن البحث عن المعنى العيني لهذا المصطلح، يجب أن يكون إفرازا لتمييز ذهني وترتيب عقلي، بل وتجريد ذهني وهو إفراز لا يسمح باستقرار المفهوم وجمود معناه جراء ارتباطه بالإنسان، ككيان حيوي سريع.
لذلك -توضح الدراسة- يمكن الحديث عن التكنوقراطي من خلال الأنشطة التي تطال الحياة الكونية وما تعرفه من تفاعلات على المستوى الإنساني الذي على ضوئه يمكن ملامسة التمييز والترتيب على الصعيد العملي ضمن سمات التكنوقراطي حسب المقاربات المتداولة السائدة بشأن تقسيم العمل، حيث يبدو أن التكنوقراط ينتسب للخانة المعرفية وهي خانة تتوزع إلى ماهو مهني وما هو عملي.
ويرى صاحب الدراسة أن تسمية الصفوة بالمغرب، مسألة تحتاج إلى المراجعة، لأنها تعاني من اضطرابات نمائية تحول دون جدارتها بهذا النعت الذي يعني الأشخاص الذاتيون والمعنيون والمتميزون بالإدراك المؤسس على قدرات التحمل والتقبل والإيثار والتضحية وأخلاق العناية التي يجب أن تقوم عليها رسالتها المتمثلة في التفكير بالواجب والعمل من أجل تأمين سعادة الآخرين...
وسجلت أن الغريب في هذا الأمر أن هناك تباعدا شاسعا ما بين المؤهلات العلمية التي يتوفر عليها أفراد العينة والواقع النمائي لديهم عامة والوجداني والتي يعاني الكثير من المصنفين في خانة النخبة في المجتمع المغربي حسب أفراد هذه العينة بالخصوص من هيمنة النزوع نحو تحديد المسؤولية عن تصرفاتهم السلبية خارج ذواتهم ومن كل ما يدافع نحو إدراكها فيمارسون ما يشاؤون من أفعال وامتناعات مخافة للحق والأخلاق والدين والقانون ويقنعون أنفسهم بمشروعيتها باعتقاد مفاده أن مستويات ذكاءات الآخرين لا تستطيع اكتشافهم، وأن غالبية من طالهم هذا العمل، الذي ينتسب إلى دراسة سيكولوجية النخب، يدركون ذواتهم على أنهم الأذكى والأرشد والأقوى.
ويستفاد من استعراض هذه العوامل المشتركة بين الوحدات المكونة لعينة هذه الدراسة أن هناك العديد من الصعوبات التي تحول دون بلورة ذوات راشدة داخل المجتمع المغربي، تتجلي في الواقع الذي يسود علاقات الإنتاج بكل أبعادها وخاصة التربوية والمعرفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
وهذا ظاهر في العديد من الاختيارات التي تم إنجازها مع المستجيبين على المستوى الشخصي، حيث تسيطر صعوبة عدم الثقة بالنفس والشك في القدرات، وتوهم التوفر على الاقتدار والعيش بسلام ومع المحيط والسرور والفرح بالممتلكات الخاصة، لكن عدم القدرة على تقبل الذات والحيرة والتردد وغموض الأهداف وطمس المواهب وإعاقة تطويرها والاكتفاء بالسطحية في التعلم كثيرا ما يجعل المحسوبين على الصفوة في هذه العينة كثيرا ما تُوقِع هؤلاء في فخ الشعار البراق المهم أن تصل ولا تكترث بالطريقة التي سيعتمدها في الوصول، حسب المعطيات التي استخلصها الأستاذ عبد الله أبو إياد العلوي، أستاذ علم النفس الاجتماعي والقانون الخاص، في دراسته الميدانية.
وفي هذا السياق، أوضح أن هذه قناعة سائدة لدى ما يسمى بالنخبة -حسب هذه العينة- التي تدافع عن هذا الشعار بنسبة 97% لدى الذكور و93% لدى الإناث، والذين يعانون من هيمنة مظاهر السخط وأحاسيس الإحباط وخيبة الأمل والاكتئاب والتشاؤم والانغلاق والخصومة مع التعلم ومقاومة المعرفة والاكتفاء بالتكوينات السمعية والخطابات الحزبية والسياسية وعناوين الضعف والمحلات والمواقع الإلكترونية، وعناوين معها بعمق تيسر النمو المعرفي ويؤهل النمو الوجداني والاجتماعي.
إننا أمام حالات إنسانية يسودها التسرع ووحدة الانفعال والضعف إزاء الاستشارات تحت قيادة القلق الناتج عن صدمات متنوعة تجعل غالبية أفراد العينة وبالخصوص النساء بنسبة 60% تحت وطأة شديدة الحساسية نحو الحياة بكافة مظاهرها السلبية والإيجابية، حسب الدراسة.
وخلصت الدراسة إلى القول إنه لا نمو ولا ارتقاء حضاري في غياب إنسان قوي على إدراك ما سلف وتفهم ما يقع بعمق يتيح له الإسهام في قيادة جهود صياغة المستقبل، مشددة على أن الارتجال والاقتباس والدعوة إلى تقليد أو تقمص نماذج مجتمعات أخرى مغامرة، يعيق بناء نمو الذات الراشدة كأساس للتحرر والبناء والأمن والأمان في ظل تنوع المعارف وتوسع الأبحاث العلمية وامتلاك التقنيات المتطورة ،كمدخلات للتحرر السوسيوثقافي والاقتصادي...