من ذاكرة عبد الواحد الراضي: أسرار علاقات الحسن الثاني بعلال الفاسي وبنبركة وبوعبيد واليوسفي
الكاتب :
حسن عين الحياة
إعداد: حسن عين الحياة
بمناسبة رحيل القيادي الاتحادي، عبد الواحد الراضي، أمس الأحد 26 مارس 2023، ندرج هذه المقتطفات من الكتاب السيرة الذاتية "المغرب الذي عشته"، الذي يسلّط أضواء على هذه الشخصية السياسية المغربية الكبيرة، ونظرته وعلاقاته بعدة شخصيات وازنة تركت بصماتها على مجرى تاريخ المغرب الحديث...
كتاب هو أبعد من أن يكون نبشا في الذاكرة، وأكبر من الغوص في الماضي السحيق من تاريخ المغرب المعاصر، وأكثر من عملية تدوير التراث الذهني لشخصية سياسية مخضرمة، جربت العمل النضالي في طراوته، ومارست السياسة في عنفوان منقطع النظير إلى جانب الكبار... إنه التماهي المطلق مع مغرب ما بعد الاستقلال في عهد ثلاثة ملوك، محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس..
والملاحظ أن هذا التماهي لا يمكن أن يتحقق لو لم يجد محورا تدور حوله الأحداث بلغة الشاهد على العصر، والفاعل فيها والمتحكم في بعض جوانبها، ليكون هذا التماهي في آخر المطاف "سيرة حياةِ" رجل اجتمعت فيه خواص كثيرة، تداخل فيها الحزبي بالسياسي والدبلوماسي.. أبرزها تفرده بصفة قيدوم البرلمانيين في المغرب، أو الرجل الذي التصق البرلمان بشخصه، مادام لم يغادره منذ دخوله أول مرة سنة 1963 إلى الآن. إنه عبد الواحد الراضي، الاتحادي الذي جرب العمل السياسي من عدة مواقع.. في الحزب، والبرلمان، والحكومة، وغيرها من المؤسسات الوطنية والدولية.. وبالتالي، كان هذا المسار الذي امتد لأزيد من 60 سنة، كافيا ليقوم الراضي، بعد صمت طويل، بعميلة للبوح في تأنٍ رتيب، عما عاشه في مغرب الحماية وزمن الاستقلال، ونظرته للنضال في المغرب المستقل، وتفاعله مع سنوات الجمر والرصاص... هذا إلى جانب احتكاكه بالسياسيين الكبار، من قبيل المهدي بنبركة، وعلال الفاسي، والفقيه البصري، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي، وآخرين ممن كانت لهم كاريزما خاصة في الحقل السياسي المغربي خلال العقود الأولى لما بعد الاستقلال.. إنه سفر نادر في حياة الراضي، بأسلوب السيرة الذاتية، دبَّجه في كتاب يمكن وصفه بـ"الضخم"، بعنوان مفعم بالنسوتالجيا: "المغرب الذي عشته"، وحرّره الكاتب المغربي حسن نجمي...
يقول كبير برلمانيي المغرب عن هذه العصارة الذهنية، إنها "شهادة شخصية أُنجزت ليستفيد منها الشباب بالخصوص من المقدرات التي أومن بها، من تجربة حياة مع ما حفلت به من مِحَن، ولكن أيضا بما عرفَته من نجاحات فردية ولحظات تفوُّق ومنجزات جماعية وضمنها تلك التي تحققت بفضل مقاومة الذات". وبالتالي، يؤكد الراضي، أن الأمر هنا لا يتعلق بمؤلف تاريخي، "وإنما باستعادة معالم حياة شخصية واكبَتها وقائع التاريخ وأحداث وطنية ودولية، ولقاءات سيكون لها تأثير حاسم في تشكُّل الأشخاص والأمم وإعطاء معنى لوجودهم".
وحتى لا يظهر الراضي، في كتابه هذا كممتلك للحقيقة، يفتح قوسا أساسيا للاعتراف، أو على الأقل لأخذ مسافة من عملية التأريخ التي تتطلب نوعا من الحياد، ليقول "لا أدعي -هنا مطلقا- أنني أكتب التاريخ، فلست مؤرخا، ولا أزعم أنني أمتلك الحقيقة، وإنما أحاول أن أعرض جوانب مما عشته كمغربي وكفاعل سياسي، وكشاهد على عصري وعلى مسار بلادي، وبالخصوص على أحداث عشتها، سواء اقتربت منها أو ساهمت فيها، بجوانبها الموضوعية والذاتية".
في هذا الملف، تقدم "الغد24" عصارة كتاب "المغرب الذي عشتُه" للراضي، وتغوص أكثر في تفاصيل بعض الأحداث الجديرة بالمتابعة، كتلك التي تناولت بإسهاب حياة المناضل الاتحادي المهدي بنبركة وجريمة اختطافه واغتياله في 29 أكتوبر 1965 في باريس، أو الأخرى المتعلقة بحقبة مظلمة من تاريخ المغرب، سواء المتعلقة بأحداث ما سميت بـ"المؤامرة" التي وجد فيها الاتحاديون أنفسهم أمام تهمة ثقيلة "ضد حياة الملك"، أو الأخرى المتعلقة بسنوات الرصاص، التي نال منها الاتحاديون ما "تيسّر" من "عصا" في درب مولاي الشريف وغيرها من المعتقلات السرية، والتي كانت، أي سنوات الرصاص تلك، لها كلفة ثقيلة على العباد والبلاد. كما تسلط الضوء أكثر حول الملك الراحل الحسن الثاني في علاقته بالسياسة والسياسيين، وكيف كان يفضي للراضي ببعض البوح الجميل، بعدما قرّبه من محيطه المسوَّر بهالة التعقيد. إنه سفر يمتزج فيه الألم بالمتعة، ضمن مسار طويل لشيخ البرلمانيين المغاربة، تقدمه "الغد24" لقرائها حتى يكون لهم نصيب من هذا التاريخ، الذي تتمازج فيه صفات "العميق" و"العريق" و"السحيق"...
والدة الراضي سمت ابنها تيمنا بعبد الواحد الفاسي
درس الابتدائي على يد بوعبيد وتعلم السياسة من بنبركة
ثمة تقاطعات قد تكون أبعد من الصدفة في حياة عبد الواحد الراضي، ففضلا عن المسؤوليات التي تحملها لأزيد من ستة عقود، والتي صقلت شخصيته وأبرزته بالصورة التي هو عليها الآن، يمكن القول إنه كان محظوظا بالقدر الذي جعل اسمه يرتبط بأسماء لها وزنها في التاريخ السياسي للمغرب. وهنا لابد من العودة إلى البدايات.
ولد عبد الواحد الراضي في دجنبر 1935، بمدينة سلا، وسمي بالراضي نسبة إلى مؤسس العائلة "الراضي بالله" حيث سيبرز هذا الاسم بقوة مع والده الذي تولى قيادة منطقة بني احْسن في عهد السلطان مولاي حفيظ، وأيضا مع أجداده وأفراد من عائلته الذين كان لهم نصيب من القرب من بعض السلاطين العلويين. أما اسم "عبد الواحد"، فلم يكن سوى اسم والد الزعيم الوطني علال الفاسي. وهنا يقول الراضي "لم تخف الوالدة إعجابها باسم عبد الواحد، والد الزعيم، بينما لم تُبد أي ميول إلى اسم علال. كان يبدو لها علال اسم قروي (عروبي) بخلاف اسم والده عبد الواحد، الذي أعجبها رنينه وصيغته المركبة وطابعه المديني. وهكذا اختارت أن تطلق عليَّ اسم عبد الواحد".
درس الراضي على يد الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد في القسم الثاني أو الثالث ابتدائي سنة 1943، وكُتب له في ما بعد أن يكون زعيمه بحزب الاتحاد الاشتراكي، كما تعلم أصول العمل الجمعوي والعمل السياسي من خلال قربه الحميم من الشهيد المهدي بنبركة سواء داخل المغرب أو بفرنسا، وحتى عندما أصبح الراضي أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، درس على يده، كما يقول، العديد من الطلبة الذين حققوا وضعا اعتباريا في مساراتهم المهنية، ضمنهم الطاهر بنجلون، الأخوان أحمد وعبد الله حرزني، نور الدين الصايل، عبد الله ساعف، حسن بن عدي، محمد العلوي المدغري، عبد الله حمودي، بنسالم حميش، رحمة بورقية، عبد الصمد الديالمي، وآخرون... قبل أن يحتك بالكبار من مواقع سياسية مختلفة في مغرب ما بعد الاستقلال.
المهدي بنبركة ينظم عودة السلطان محمد الخامس من منفاه
في بوحه الطويل، يكشف عبد الواحد الراضي كيف تعرف أول مرة على المهدي بنبركة، وكيف كان هذا الأخير حريصا على تجميع الشباب الاستقلالي من المغرب كله في مدينة الرباط، وأيضا كيف كان يجمع هؤلاء، وضمنهم الراضي، بهدف التكوين والتأطير.. لكن بالرغم من ذلك، يقول الراضي "في البدايات كنت واحدا من هؤلاء الشباب الذين يستقبلهم السي المهدي، ويتواصل معهم جماعيا، ويوجههم ويخطب فيهم ويحاضر أمامهم. ولم تكن لي به معرفة شخصية. ظلت العلاقة معه غير مباشرة إلى أن جاء مرة إلى غابة المعمورة".
هنا يؤكد الراضي، الذي كان وقتها مسؤولا عن ورشة للتأطير الخاص بالمخيمات والعمل الكشفي، أن المهدي بنبركة قضى معهم عدة ساعات.. "تابع عملنا، ولعله انتبه إليَّ في تلك اللحظة بينما كنت منشغلا في عملية التأطير.. هناك تحديدا (رْشَمْني) وبدأ حريصا على استدعائي إلى كل اللقاءات الشبابية، وحتى إلى بعض اللقاءات المصغرة والخاصة جدا بمهام نضالية محددة. وأصبحت ألمس من جانبه اهتماما جديا، واشعر بأنه يعاملني كمؤطر وكمسؤول وليس كالشباب الآخرين المستفيدين من أوراش التأطير والتكوين. كان واضحا أنه أضحى يتصرف نحوي كشاب يتم تأهيله لتحمل المسؤولية في المستقبل".
وكشف الراضي أنه بفضل هذه الدينامية التي كان المهدي بنبركة محورا لها، نضج الفعل الجمعوي وقتها...
كان عبد الواحد آنذاك شابا في سن العشرين، وكانت تنظيمات الحركة الكشفية قوية، وكانت الكفاءات الشابة التي تأطرت في سياق المخيمات الصيفية حاضرة ومنظمة وفاعلة، وكان أطر الجمعيات هم المؤهلون والأفضل في تأطير الشباب، يقول الراضي، قبل أن يضيف من خلال هذا التمهيد، أن هاته الأطر لعبت دورا أساسيا في تنظيم عودة السلطان محمد الخامس من منفاه السحيق. "بأولئك الشباب المؤطر والواعي هيأنا كل الترتيبات الأمنية والتنظيمية لضمان نجاح عودة بن يوسف إلى وطنه وعرشه. وطبعا، كانت العملية كلها تجري بالإشراف المباشر للمهدي بنبركة".
ويواصل الراضي حديثه، مؤكدا أنه كان ضمن الأطر الشابة التي أشرفت على الجانب الخاص بمدينة سلا في عودة السلطان.. "أي من مطار سلا وعلى امتداد الطريق صوب الرباط. ومع مدخل الرباط وصولا إلى القصر السلطاني كانت هناك لجنة أخرى مشرفة. الجميع تحت النظرة الفاحصة للمهدي وتوجيهاته".
الخلاف العميق مع بن الصديق يدفع بنبركة إلى ترك الحزب ومغادرة المغرب
أزاح عبد الواحد الراضي غموضا ظل يلف قضية ترك المهدي بنبركة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد أشهر قليلة على تأسيسه، ومغادرته المغرب في مطلع سنة 1960 صوب فرنسا. قبل أن يكشف عن واحدة من الصراعات الداخلية التي كانت تجري بداخل الحزب المنشق حديثا عن حزب الاستقلال بين من يمكن وصفهم بالصقور. حيث قال:
كنت في باريس حين جاء المهدي بنبركة ليستقر فيها في 20 يناير 1960، وسوف لن يعود إلى المغرب إلا سنتين ونصف بعد ذلك.. لم تكن قد مرت سوى بضعة أشهر على تأسيس الحزب الجديد، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في 6 شتنبر 1959، حتى غادر المهدي المغرب متوجها إلى تونس في 19 يناير 1960، وذلك بمعية المحجوب بن الصديق وعبد الهادي بوطالب والمهدي العلوي أولا لحضور أشغال لجنة التضامن الأفروأسيوية، ثم التحق بعد ذلك بباريس، وذلك بنية البقاء في الخارج إلى ميقات غير معلوم. ومن ثمَّ ينبغي أن نتساءل، لماذا تخلى الرجل عن الحزب لأقل من ستة أشهر على تأسيسه وانصرف؟ وكيف يُنشئ حزبا جديدا ولا يبقى داخل البلاد كي يرعاه ويؤطره ويهتم به ويعمل على تنميته وتقوية تنظيماته وانتشاره... لماذا فضَّل، في لحظة مفصلية من مساره أن يترك المغرب؟
سنعرف لاحقا، يقول الراضي، أن الخلاف مع المحجوب بن الصديق كان خلافا عميقا، ذلك أن المهدي آمن، منذ المنطلق، أن بناء حزب جديد لن يكون إلا تجمعا وتحالفا بين القوات الشعبية، أي بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير وفي مقدمتها الطبقة العاملة. ومعنى ذلك أن العمال سيكونون ضمن تشكيلة اجتماعية متنوعة، لهم إطارهم النقابي الذي يحمي مصالحهم المادية، لكن الحزب هو الذي ينظم ويؤطر إرادتهم السياسية، ويعمق وعيهم السياسي والاجتماعي والتنظيمي، ويستثمر طاقاتهم ضمن مشروع التغيير. لكن بن الصديق كان له حساب آخر بدون أن يعبر عنه، أن يظل يتحكم في المركزية النقابية (الاتحاد المغربي للشغل) كأمين عام لها، وأن يتحكم أيضا في مسار الحزب ودواليبه وقراراته كعضو في الكتابة العامة.
ويتابع الراضي: نحن نعرف أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانت له عدة مكونات: المكوّن النقابي يمثله الاتحاد المغربي للشغل، مكوّن ثانٍ هو حركة المقاومة، والمكون الثالث من المناضلين الذين كانوا في حزب الاستقلال وبعضهم جاء من حزب الشورى والاستقلال، وكذا المكون الطلابي الذي كان يمثله مناضلو وقادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والجمعيات الشبابية.
هكذا، يقول الراضي، وبعد بناء المشروع الحزبي والإعلان عن تأسيسه رسميا، وجد المهدي نفسه مُحاصرا في وضعية "بلوكاج". بالنسبة إليه، كقائد سياسي يستند إلى مرجعية لها ملامح يسارية، لا يمكنه ألا يكون ناطقا باسم الطبقة العاملة معبرا عن مصالحها ومطامحها. والواقع، يضيف الراضي، أن هذه الطبقة لم تكن تحت يده بل كانت مِلك يد المحجوب الذي كان له تفكير آخر، وبالتالي لم يكن يسمح لأحدٍ بالوصول إليها والتماس معها.. وحسب المتحدث نفسه، كانت هناك، في تلك الفترة، قوة بشرية وتنظيمية ورمزية مؤثرة ونافذة في المغرب، ولها صوت مسموع، وهي حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي وعلى رأسها الفقيه محمد البصري. وبالتالي، فقد شكلت في الحركة السياسية فصيلا أساسيا إلى جانب المكون العمالي. لذلك، فالمهدي بنبركة، حسب الراضي، كان يشعر، في ظل تنظيمه السياسي المستحدث، أن "للاتحاديين القادمين من مرجعية المقاومة المسلحة ولاءً للفقيه البصري وارتباطا حميميا به، ولكنهم أيضا كانوا أكثر تقديرا للمهدي وانسجاما معه". هكذا، يحاول الراضي أن يبرز أن الخلاف في الاتحاد آنذاك كان قائما بالأساس بين المهدي بنبركة وبن الصديق.. وهذا ما عبر عنه بالقول: بعد تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبعد أن تمت القطيعة مع حزب الاستقلال، غيَّر المحجوب بن الصديق سلوكه إزاء المكونات الأخرى للاتحاد، وبالأخص تجاه المهدي الذي لم يكن يريد أن يعترف له بالزعامة.
وحسب الراضي دائما، كان المحجوب زعيما نقابيا ولم يكن ممكنا أن يكون زعيما للحزب، ومن ثمَّ آثر أن ينازع المهدي في هذا الاتجاه. "وأخذ يعارضه في جميع الاجتماعات بل وسيمضي أبعد من ذلك ليشرع في محاسبة المهدي على تنقلاته ولقاءاته التنظيمية، وحتى على مضامين خطاباته وتصريحاته وحواراته الصحفية، (مع من تْشَاَوَرْتِي في قول كذا وكذا؟ هل ما زلت تعتبر نفسك في حزب الاستقلال؟...). وفي وضع كهذا كان يصعب على المهدي أن يستمر". لذلك، فضل الاستقرار مؤقتا في فرنسا تاركا الحزب إلى ميقات غير معلوم.
بنبركة ماكانش كينعس...
وإلى نعس جوج سوايع بالليل كينوض يفيَّق راسو
كشف عبد الواحد الراضي عن بعض الخواص الفريدة في شخصية المهدي بنبركة، وكيف كان هذا الزعيم آلة إنتاجية غير قابلة للتوقف. فقد كان، حسب المتحدث، يمتلك هبة طبيعية، تتمثّل في قدرة استثنائية على استعادة طاقته الذاتية وتجديد حيويته الجسدية. كانت تكفيه ساعات قليلة من النوم ليتجدّد نفسه وعنفوانه. والغريب، يقول الراضي، أنه كان يتحكم في توقيت استفاقته، وكأنه كان يبرمج ساعته البيولوجية. إذا أراد أن ينام ساعتين، يصحو فعلا بعد ساعتين من النوم. فإذا استفاق من نومه أو إغفاءته، لا يظل مسترخيا. على الفور ينهض من فراشه، على الفور يبدأ العمل، على الفور يتحرك في هذا الاتجاه أو ذاك. كأن المهدي كانت الحركة جوهره وبِلَّور روحه.
ولكي يؤكد هذه الخاصية، يعود الراضي إلى عملية تطويع الذاكرة، من أجل استحضار بعض الوقائع التي كان المهدي دقيقا فيها مثل الساعة.
"مازلت أذكر أسفاري معه، ونحن في فرنسا، أثناء تنقلاته التفقدية بين الفروع الحزبية الموزعة على عدة مدن فرنسية. كان يقود سيارة فولسفاكَن صغيرة (La Coccinelle)، وما أن نصل ونلتقي المناضلين حتى يشرع في عمله التنظيمي. وقد يتواصل الاجتماع الليل كله إلى الساعة الثانية أو الثالثة صباحا. ثم نعود إلى الفندق لننام مؤكدا أنه سيأتي ليوقظني بعد ثلاث ساعات، كي نواصل الطريق إلى مدينة أخرى وموعد آخر. وفعلا، بعد ثلاث ساعات يوقظني فأجده وقد ارتدى ملابسه كاملة وحلق ذقنه وصار جاهزا للانصراف. ويكون عليَّ أن أسرع لألحق بإيقاعه إن استطعت".
لو عاش بنبركة قضية الصحراء لكانت الأمور ستأخذ مجرى آخر
يفوّت عبد الواحد الراضي الفرصة دون الحديث عن علاقة المهدي بنبركة بمنظمة الأفروأسيوي، وكيف برز من خلالها كزعيم ثوري من طينة الكبار.. لكنه عاد ليتأسف على كون المغرب لم يستفد من طاقة المهدي في حل قضايا مهمة بالمغرب. "ما من شك في أن هذه القدرة الاستثنائية بالخصوص هي التي نبَّهت رفاقه وأصدقاءه في منظمة الأفروأسيوي إلى كونه يمثل البروفيل الملائم تماما لقيادة المؤسسة والمضي بها قدما في خدمة قضايا التحرر.. ونعرف كم خدم المهدي، من ذلك الموقع، القضية الفلسطينية في مراحلها الصعبة حتى قبل ميلاد منظمة التحرير وفي سياقات التأسيس". كما نعرف، يضيف الراضي، كيف بذل بنبركة جهدا فكريا في فهم آليات تغلغل الحضور الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين. ولي اليقين أن المهدي لو عاش قضية الصحراء المغربية، كما طُرحَت لاحقا وبالكيفية التي طرحت بها – وبما أعرفه عنه وبما كان لديه من أصدقاء وعلاقات نافذة – كان سيكون له ما يكفي من تأثير قوي حاسم في اتجاهها، وفي حلها. "وللأسف أن المغرب لم يستثمر كل ذلك الرصيد من الحضور والاحترام والتقدير الذي كان يحظى به المهدي بنبركة" يتحسر الراضي.
بنبركة يريد أن يحكم مع الملك لا أن يلتف حوله
بعد أزيد من سنتين ونصف على مغادرته للحزب والمغرب في يناير 1960 واستقراره بفرنسا، عاد المهدي بنبركة أخيرا إلى الوطن من أجل حضور المؤتمر الوطني الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان مزمعا انطلاق أشغاله بين 25 و27 ماي 1962.. كان الحزب وقتها يعيش علاقة توتر مع القصر، لكن المهدي بنبركة كان واضحا منذ البداية. وهنا يكشف الراضي في بوحه الطويل: كنا في طريقنا إلى مكان نتناول فيه غذاءنا، وقال لي "لقد اتصل بنا الملك، وعبّر عن رغبته في أن نلتفَّ حوله". وأضاف أن "جوابنا كان هو أننا "ينبغي أن نحكم معه لا أن نلتف حوله. ولا نريد أن نكون في المحيط La périphérie بل نريد أن نكون في المركز".
ويتابع الراضي، أن بنبركة وضح لي بأن هذا هو "الميساج" الذي أعطيناه. قال لي المهدي "إن الحكم يظن أننا ألفنا امتيازات السلطة. ولكي نظل محافظين عليها، سنَقبَل كل شيء وسنتنازل عن اقتناعاتنا. راهم غالطين!. إنهم لا يعرفون أننا مستعدون بأن نرجع من حيث أتينا، وأن السكنى الإدارية والسيارات وغيرها لا تساوي شيئا في نظرنا".
أشركني في ذلك التفصيل هكذا، فجأة، يقول الراضي، مواصلا حديثه، أن هذا التفصيل لم يكن يعلم به أحد، "ولا كان مطلقا قد راج في جنبات المؤتمر، لا أحد كان يتلمس ولو إشارة اتصال. جميع المؤتمرين كانوا موقنين بأمر واحد ظلّ يخيم على أجواء المؤتمر، هو القطيعة بين الحزب والقصر".
كنت أول من بلَغه خبر اختطاف المهدي بنبركة في المغرب
بعد اختطاف واغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965 بباريس، "كنت أول من بلغه الخبر في المغرب، خارج الرسميين، ذلك اليوم الرهيب" يقول الراضي، قبل أن يكشف مسلك المعلومة الحارقة التي وصلت إليه. "اتصلت بنا عبر هاتف البيت، وكنت أسكن وقتئذ في حي حسان في الرباط، زوجة الدكتور عبد السلام التازي. والدكتور التازي كان من أبرز أطباء أمراض القلب ومن أساتذة هذا التخصص، بكلية الطب في الرباط. كانت زوجته مواطنة نرويجية. كما كانت زوجة الشاب التهامي الأزموري نوريجية كذلك (الأزموري كان برفقة المهدي بنبركة حينما تقدم نحوه شرطيان فرنسيان أثناء اختطافه من أمام مطعم ليب بشارع شانزيليزيه بباريس) وبالتالي، كانت السيدتان النرويجيتان صديقتين. كما كانت كل من أسرتيْ التازي والأزموري صديقتين لأسرتي الصغيرة. فكنا نعرف بعضنا البعض"... ماذا حدث؟ يتساءل الراضي، ليجيب في الوقت نفسه، "لما "ألقي القبض على المهدي" (هكذا وصلتنا صيغة الخبر في البداية) اضطر التهامي الأزموري أن يختفي تماما مخافة اعتقاله. وطبعا أخطر زوجته بالأمر، طلب منها أن تتصل بعبد الواحد الراضي. وجرى بينهما تفكير سريع في كيفية إخبار الراضي بدون إثارة انتباه بعض الأجهزة الأمنية التي قد تكون وضعت هاتف الراضي تحت آليات التنصت! فانبثقت لديهما فكرة الاتصال بزوجة الدكتور التازي. وفعلا جاءت السيدة التازي على الفور إلى بيتي وحكت ما جرى للمهدي في باريس بالصيغة الأولى التي توصلت بها". بعدها، يقول الراضي، إنه ركض مسرعا لإخبار عبد الرحيم بوعبيد.. قبل أن ينتشر الخبر في الأرجاء.
الحسن الثاني يبوح للراضي: لا علاقة لي بقضية المهدي بنبركة
بعد مرور سنوات طويلة على اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، كشف الراضي ما دار بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني حول هذه الحادثة اللغز "أذكر أن الأقدار شاءت مرة أن أسافر في رُفقة الملك الحسن الثاني إلى ليبيا، تلك الرحلة الشهيرة على متن الباخرة. فتوجه الملك إلي قائلا إنه لا علاقة له بقضية المهدي بنبركة". يقول عبد الواحد الراضي، قبل أن يسترسل في الكشف عما دار بينه وبين الملك آنذاك "كنا على مائدة الفطور، ولا أذكر السياق العابر الذي جعله فجأة يفكر في موضوع المهدي، ربما أراد أن يمرر "الميساج" وانتظر أول فرصة، فكنت أمامه كي يقول لي ما قاله، "صدقني، لا يد لي في ذلك".. وفهمت أنها لحظة بوح كان الملك في حاجة إليها دون أن أدرك سياق ذلك. "صدقني، لقد وُضعت أمام الأمر الواقع". تقريبا، عبّر لي عن الشعور نفسه الذي عبر عنه في حواره مع الصحافي الفرنسي إيريك لوران في كتابه (ذاكرة ملك)".
علال الفاسي ترك الملك الحسن الثاني ومضى إلى الحزب
خلال شهر يناير 1963، حدث أن غادر حزب الاستقلال الحكومة، وحسب أطروحة سادت آنذاك، يقول عبد الواحد الراضي، أُرغم (الحزب) على مغادرة الحكومة، وتقريبا تمّ طرده. "والسبب المعلن أن الملك ارتأى إجراء تعديل حكومي، فطلب من السيد امحمد الدويري أن يترك حقيبة المالية ويتحمل حقيبة الأشغال العمومية". وقال الراضي، أذكر أن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله حدثني شخصيا، لاحقا جدا في إحدى المناسبات، أظن في 1991 وفي سياق مختلف تماما حين كنا على متن الباخرة، عن تلك الواقعة. قال لي "إنه قرر إجراء التعديل الحكومي (آنذاك) ورأى أنه من الأفضل أن يغير حزب الاستقلال من صيغة حضوره داخل الحكومة، وأنّ على الدويري أن يعود إلى وزارة الأشغال العمومية". وأضاف قائلا: "كنت أرغب في أن يلعب المرحوم علال الفاسي دورا في تلك المرحلة. كنت أتطلع إلى أن أخطط للسياسة، وعلال الفاسي ينَظّرُها ويُبَرّرُها!". كان الملك حسب الراضي يتمنى آنذاك أن يشكل ثنائيا تقليديا، الملك يضع المحددات السياسية ويرسم التوجهات الكبرى، والزعيم علال يشيد إطارها النظري، الفكري والإيديولوجي وربما الأخلاقي بحكم المكانة الدينية والرمزية التي كان يتبوّأها المرحوم علال الفاسي كزعيم وطني وقائد سياسي وحزبي. ثم أضاف الملك قائلا: "ولكن الدويري أغلق هذه الرغبة ورفض مغادرة وزارة المالية. اعتبَر الأمر إهانة. وكنت حاولت إقناعه بجميع الوسائل ولم يقتنع، وذلك إلى درجة أنني استدعيته مرة وأوقفته أمام قبر الوالد رحمه الله – وكان قبر الوالد مازال مانقلتوش إلى مسجد صومعة حسان- فقلت له "قِف هنا. محمد الخامس كان والدي البيولوجي، وأنت كان والدك الروحي. وهو الذي أعطاك المِنحة لكي تتابع دراستك. وإذن، بهذه العلاقة التي بيننا، وبروح الوالد، بأن هذا الذي أردتُ أن أقوم به ليست فيه أي إساءة لِكْ. ولكن ذلك لم يؤثر فيه، ومضى إلى الحزب.. ودافع عن فكرة الخروج من الحكومة. إِمَّا اعطيوْنا ذاك الشي اللي بغينا ولا نْخُرجوا من الحكومة!".
وهنا يعلق الراضي، خرج حزب الاستقلال من الحكومة فعلا... ولم تتحقق رغبة الملك في الرهان على علال الفاسي كخطاب وكقيمة.
المؤامرة على حياة الملك وحصص تعذيب في درب مولاي الشريف
فتح عبد الواحد الراضي جرحا قديما، ظل كما لو أنه سر مخبوء في صدره لأزيد من نصف قرن. ذلك أنه ذاق بدوره نصيبا من التعذيب بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، وعانى من آثاره التي تحفر في النفس أعطابا تظل عصية على الانمحاء رغم مرور الزمن.
كان الزمن آنذاك يمر سريعا بالمغرب، ففي سنة 1963، طغت أحداث ما سمي بـ"المؤامرة" ضد حياة الملك على المشهد السياسي، ووجد الاتحاديون أنفسهم في موقع اتهام.. وقد ذكر عبد الواحد الراضي تفاصيل ما جرى وقتها سواء قبل أو بعد هذا الحدث الذي غير كثيرا من موازين القوى آنذاك.
ويحكي الراضي كيف أنه عاد من فرنسا على عجل لحضور اجتماع الحزب بمقره في الدارالبيضاء الذي كان مقررا أن يناقش عدة نقاط، أهمها المشاركة في الانتخابات الجماعية لسنة 1963 من عدمها.. لكن خلال الاجتماع، تم تطويق مقر الحزب بالبوليس الرسمي والسري.. "وما إن اتخذنا قرارنا النهائي (مقاطعة الانتخابات) حتى أوقفوا سيارات الشحن الأمني أمام مدخل المقر مباشرة وبدأوا يشحنوننا واحدا واحدا في عملية اعتقال جماعي ذكرتنا بعهد كنا قد خرجنا منه كمغاربة.. وما إن كانت سيارة (فوركونيت) تمتلئ حتى تتحرك في اتجاه الكوميسارية سنطرال بالمعاريف وتقف سيارة أخرى فتمتلئ وتتحرك بدورها في نفس الاتجاه، وهكذا إلى أن تم اعتقال جميع أعضاء المجلس الوطني للحزب وكل من كان داخل المقر، بمن فيهم الكهول والعجزة والأطفال الذين كانوا يرافقون بعضهم"، يقول شيخ البرلمانيين بالمغرب.
وحسب الراضي، أعطيت تعليمات، فأُفرج عن عبد الرحيم بوعبيد وأربعة آخرين، بينما "احتفظ بنا في ضيافة الزنازين، قضينا ليلتنا الأولى على (الضس)، الأرضية باردة.. كما كنا نتطلع إلى بعضنا البعض، محمد عابد الجابري، محمد اليازغي، عمر بن جلون، محمد بنسعيد (فاس)، ونتساءل ماذا يقول القانون بعد انصرام مدة الحراسة النظرية؟ ثم جيء لنا بأكلة رديئة لا تؤكل. ومكثنا هناك لا نعرف ما الذي كان يحدث خارج تلك الجدران... وكما أصبحنا نعرف لاحقا، انطلقت حملة صحفية أوركسترالية ضدنا وضد الحزب، وكانت جميع أنواع الخطاب الإعلامي المعادية مجندة لتتحدث عن (المؤامرة). وسيصرح أحمد باحنيني، وزير العدل آنذاك، أن "الاعتقالات التي نُفِذت، جاءت بعد اكتشاف مؤامرة ضد حياة الملك، وأن محركها هو الفقيه البصري وبعض قدماء المقاومين، وأن هناك تنسيقا مع بعض الدول المعادية".
وسرد الراضي عدة تفاصيل حول ما جرى من استنطاقات كانت تهم الاتحاديين فرادى أو جماعات، وكيف حولت الدعاية الاجتماع الحزبي من اجتماع عادي إلى آخر يقول "بأننا كنا قد خططنا لمؤامرة ضد حياة الملك، وذلك في إطار مشروع ثورة. وبأننا لم نذهب إلى اجتماع الدارالبيضاء إلا لنوزع الأسلحة على بعضنا! وأننا هيأنا كل شيء بما في ذلك (نشيد الثورة) التي ستندلع". لكن حسب الراضي، إن حضور صحافيين أجانب كانوا يتابعون الاجتماع أفشلوا هذا السيناريو...
ومن محطة إلى أخرى في سرد الأحداث، كان الراضي ينتقل تدريجيا ليمارس فعل البوح عن الألم، قبل أن يصل إلى لحظات التعذيب التي وجد نفسه ينال نصيبه منها في إحدى الغرف التي أعدت للسلخ المبين. "طُلبت بالاسم. وأُخذت إلى المعتقل الشهير في تاريخ الاعتقال السياسي في المغرب إبان سنوات الرصاص، درب مولاي الشريف الموجود في الحي المحمدي، أحد أهم الأحياء بالدارالبيضاء. أجلسوني في دهليز للحظات، ثم عادوا بعد ذلك فأدخلوني إحدى الزنازين، ونزعوا ملابسي. قيدوني بالحبال فوق مقعد خشبي طويل وتركوا رأسي مدلَّى في الفراغ. ثم شرعوا في تعذيبي بوحشية وسؤالهم المكرور على رأسي، (أين السلاح؟). وكلما أكدت أنني لا أعرف عن أي سلاح يتحدثون، كانوا يخرجون نسخة من صحيفة Le petit marocain وعلى صدر صفحتها الأولى (مانشيت) بحروف بارزة (Le complot) المؤامرة، ويقولون ها هي الحجة، هل هذه الصحيفة تكذب؟ تكلم، أين السلاح؟ لمن سلمتُم السلاح؟ كما لم يتوقفوا لحظة عن استعمال الجفّاف المبلل بالماء القَذِر كطريقة تعذيب. كانوا يغطسون الجفاف في سطل الماء ويضعونه على وجهي. كلما حاولت أن أتنفس، يتسرب الماء إلى فمي وأنفي. وفي نفس الوقت، كان شرطي آخر يواصل ضرب قدميَّ الحافيين دون توقُف".
بعد هذا التعذيب، يقول الراضي، "جاءت لحظة فقدت فيها الإحساس بجسدي من شدة ذلك الجحيم الرهيب. لم أعرف متى ولا كيف بدأت أتلو، بصوت مسموع، آية الكرسي مغالبا نفسي واختناقاتي. هم يضربون ويضعون قطعة الثوب المبللة القذِرة مرارا على وجهي وأنا لا أتوقف عن القراءة المقدسة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم.... (الآية)".
خلال هذا السفر الطويل من الألم الذي كشف الراضي من خلاله تفاصيل تعذيبه، ونظرة الجلادين للمعتقلين المرميين في الزنازين والممرات بالمعتقل، توقف برهة.. "في تلك اللحظة، وهناك في ذلك المعتقل، سمعت خبر ميلاد ولي العهد آنذاك الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس)".
حين علمت زوجة الراضي بخبر اعتقاله، وأنه موجود بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، توجهت فورا إلى هناك حاملة معها بعض الأغراض والأغذية. ولم تتوقف إلا وهي أمام أحد الحراس من رجال الأمن فسألته. "فلم يستطع أن يجيبها وفضل أن يرافقها إلى مقابلة مدير المعتقل لكونها أجنبية (...)، فوجئ قدور اليوسفي بوجود امرأة فرنسية أمامه، فظل يصرخ في وجهها: لماذا دخلت؟ ومن أعطاك الحق بالدخول؟ سنتابعكِ على هذا الخرق! فالتفت ليؤنب البوليسي الذي أوصل زوجتي إلى مكتب المدير (...). ثم انتقل إلى تهديد زوجتي إذا ما خرجت وقالت أي شيء عما رأته (...) وطبعا لم يُسمح لها بلقائي... وما استطاعت أن تحققه زيارة زوجتي أنها جعلتهم يُدخلون إلي الملابس التي جاءت بها ويعيدون إليها الملابس التي كنت أرتديها وعليها بعض آثار العبور الدامي في الدرب...".
كان قد مر أكثر من شهر على اعتقال الراضي، لكن في الأخير تمت المناداة عليه من زاويته المهملة كي يتوجه للإدارة، فصعد. وقع على المحضر وتمت إعادته إلى الكهف "في ذلك اليوم، كما علمت لاحقا، جيء بإخواننا الذين كانوا معتقلين في الكوميسارية المركزية (سنطرال) بالمعاريف إلى معتقل درب مولاي الشريف، وهجموا عليهم بالضرب العشوائي الجماعي كما اتفق، ثم صرفوهم إلى بيوتهم تحت الشتم والتهديد.. وفي وقت متأخر من مساء اليوم نفسه، وتحت جنح الظلام، أطلقوا سراحي. خرجت وقد فقدت الإحساس بالمكان والزمان. فلم أعرف أين كنت ولا أين سرت... إلى هذه اللحظة، مازلت لا أذكر كيف غادرت الدارالبيضاء أو كيف وصلت إلى بيتي في الرباط. هل امتطيت قطارا أم حافلة أم ماذا؟ لا أعرف. إلى الآن، لا أعرف بكل صدق". يختم الراضي حفرياته الأليمة في الألم.
رد فعل الحسن الثاني عندما اشتكى له بوعبيد من التزوير الانتخابي
خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في سنة 1977، اتهم الاتحاديون السلطة بتزوير الانتخابات، وكانوا وقتها قد حصلوا على 15 مقعدا فقط.. كما تم اختيار عبد الواحد الراضي الذي كان موجودا وقتها بالولايات المتحدة الأمريكية لرئاسة الفريق البرلماني للحزب.. لكن بالرغم من ذلك، اشتكى زعيم الحزب من التزوير وهو في حضرة الملك. وعن هذه الواقعة، يقول الراضي عما دار بينه وبين بوعبيد "قال لي إنه حين استقبله الملك الحسن الثاني اشتكى من التزوير الانتخابي، الذي مس الاتحاد الاشتراكي، وأضرَّ- بدون شك- بصورة البلاد ومصداقية مؤسساتها. وأجابه الحسن الثاني في شبه مداعبة "لم يعرفوا كيف يزورون، فقد كان التزوير كميَّا. أما من الناحية الكيفية فإن فريقكم يساوي أكثر من عدده وسيكون أكثر قوة. ولو أنهم أتقنوا التزوير، لكانوا تركوا لكم عددا أكبر ولكن بدون كفاءات". وعقَّب عبد الرحيم "لا نعرف حتى الآن ما إذا كان سيكون لنا فريق برلماني"، سأله الملك لماذا؟ فأجابه بأنهم تركوا لنا 15 مقعدا فقط. فأجابه الملك: الأمر سهل. سنبدأ تشكيل الفريق البرلماني بعدد 12 ونترك لكم ثلاثة مقاعد كاحتياط. وعاد الملك ليسأل السي عبد الرحيم: ومن سيكون رئيس فريقكم؟ فأجابه بوعبيد لقد اخترنا عبد الواحد الراضي، فعلق الملك "ونِعم. إن له الجذارة والكفاءة".
أسرار رغبة الحسن الثاني في عودة الفقيه البصري من المنفى
في سنة 1987 أثيرت قضية عودة الفقيه البصري من المنفى، وحدث أن بعث الملك الحسن الثاني بوزيره في الداخلية إدريس البصري ليبلغ الفقيه رغبة الملك في رجوعه إلى بلاده.. وخلال لقاء البصري بالبصري في باريس وضع الفقيه شروطا لعودته، وفي مقدمتها، حسب الراضي، ضرورة إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين...
بعد ذلك اللقاء، يقول الراضي، وما جرى فيه، وما كتب عنه في الصحافة، خصوصا ما كتبه محمد باهي في مجلة "اليوم السابع" وحميد برادة في مجلة "جون أفريك"، كنت في ضيافة الملك بالقصر الملكي في إيفران (...) طلب مني الملك أن اركب السيارة في رفقته وبمعية السيدين أحمد عصمان ومولاي أحمد العلوي... وفي الطريق، ونحن في السيارة، فتح الملك موضوع الفقيه البصري. قال "ينبغي أن تعرف موقفي. فقد كنت فكرت في أن لهذا السيد علاقات مع الجزائر، وأن له علاقات مع البوليساريو. كما أن هذا السيد بدأ حياته كمقاوم، فأردت أن أعطيه الفرصة لكي ينهي حياته كمقاوم لصالح بلاده. ولكي يستغل علاقاته مع هؤلاء الناس ونفوذه الشخصي لديهم في خدمة قضية الصحراء والعلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر. ولذلك أرسلت إليه مرسولا خاصا، وعوض أن يستجيب فيغتنم هذه الفرصة ويدخل المغرب لكي نطوي هذه الصفحة، أخذ يشترط عليَّ ويجيبني بالمقالات وبالصحف. وأرى أن هذا السيد لم يفهم المبادرة بل لا يفهم شيئا. لذلك، لا حاجة إلى أن يدخل. وإذا دخل سيُلقى عليه القبض، وكان يحدثني بكل هدوء ووضوح، ولعله فضل أن يقول لي ذلك أمام شهود".
ويضيف الراضي "كعادتي دائما عقب أي لقاء لي مع الملك، ما إن عدت إلى الرباط قادما من إيفران، حتى ذهبت إلى زيارة الأخ عبد الرحيم بوعبيد لأقدم تقريري الشفوي إليه. وعندئذ، اتصل عبد الرحيم بالفقيه ليقترح عليه تأجيل التفكير في العودة إلى المغرب في تلك المرحلة، وأن علينا الانتظار إلى أن تنضج الظروف، وكما نعرف، فإن هذه العودة ستتأخر طويلا، ولن تتحقق إلا سنة 1995 بعد انصرام ثمان سنوات".
عندما سخر الحسن الثاني من عبد الرحيم بوعبيد
ذات مرة، وبينما كان الحسن الثاني على متن باخرته الشهيرة، استغل مناسبة وجود عبد الواحد الراضي بجانبه ليفتح معه حديثا حول عبد الرحيم بوعبيد.. وبهذا الخصوص، قال الراضي: فأخذ الملك يحدثني عن ذكرياته مع عبد الرحيم خلال فترة الحركة الوطنية وبداية الاستقلال، وقال لي "أنا أعرف عبد الرحيم أكثر منك وأكثر منكم جميعا، وما عشته معه لم تعيشوه". وفي سياق ذلك التقريض لشخص عبد الرحيم قال لي "كان عبد الرحيم متشائم التفكير". وأضاف "هل ترى هذه السماء، كم هي زرقاء صافية تماما؟ لو كان معنا السي عبد الرحيم لوجدناه يستخرج غيمة (كيْطَلَّعْ شي غْمامة. غادي يبقى يقلب حتى يجبَرْها!)".
الأموي وحكومة اللصوص والملك الذي يسود ولا يحكم
"أذكر لقاءً آخر مع الحسن الثاني في 5 أبريل 1992... كان القصر الملكي في الرباط، بمناسبة عيد الفطر. وكان السياق العام في البلاد مطبوعا بأجواء الإصلاح الدستوري المرتقب، وكذا بتفاعلات تصريحات نوبير الأموي الصحفية". هنا يكشف الراضي عن ردة فعل الحسن الثاني تجاه الحدثين، مواصلا حديثه "فجأة طوقني الملك بالسؤال تلو السؤال، فيما بدا أنه غاضب ويحاول أن يكتم غيضه.. وكان عليَ أن أنصت أكثر لأستوعب ما كان يتحدث. وفي سياق الحديث الدائر، يواصل الراضي حكيه: قال لي جلالة الملك "ماذا يحدث؟ كيف جرى أنكم تمارسون الخلط؟ هناك مسالتان مختلفتان: مسألة الإصلاحات الدستورية والانتخابات من جهة، ومسألة الحكومة مع الأموي هي مسألة أخرى.. بخصوص الإصلاحات الدستورية والانتخابية، فقد اخترت طريقا هو طريق الحوار والاتفاق، لكن إذا كان ضروريا سأختار طريقا آخر... لقد فضلت التهدئة، ولو كنت شخصيا راغبا في اعتقال الأموي، ففي الاستجواب مع "حرية الوطن" ما يكفي من العبارات ليُحكَم بثلاثين سنة. (على الملك أن يسود ولا يحكم)؟ وماذا ستفعلون بالبيعة؟ أستطيع أن أعتمد على فتوى لأُحاكمه. ولكنني لم أفعل ذلك، لأنني اخترت بأن أقوم بالإصلاحات والانتخابات في جو من الهدوء".
وحسب الراضي، قال له الملك أيضا، وهو يتابع حديثه حول تصريحات الأموي "إذن، بالنسبة إلى ما يهمني شخصيا، فأنا، حتى الآن، أغلقت عينيَّ. أما في ما يخص اتهام أعضاء الحكومة باللصوص، فان عليه أن يدلي بالحجج عما يقوله. وأنا لا أتدخل في هذه القضية... في سنة 1972، لم أتردد في تقديم خمسة وزراء إلى القضاء، حوكموا بالحبس النافذ، من بينهم الأزرق الذي كان مرتبطا بأوفقير الذي حاول إسقاط طائرة البوينغ. أنا لا أحمي الفاشلين...".
وقال الراضي، في معرض حديثه، للملك كنوع من الاستدراك "في ما يخص استجواب الأموي مع جريدة (الباييس) الإسبانية، هو لم يستعمل كلمة (اللصوص)، علما أن الكلمة المستعملة في النص لا تفيد معنى (اللصوص). ومن جهة أخرى، فهو يتكلم العربية فقط، ولا يتقن لا الإسبانية ولا الفرنسية".. فقاطعني جلالة الملك حاسما "ليس هذا ما قاله للبوليس. على العكس، لقد أكد للبوليس ما قالته الصحافة. وعلى كل حال، هناك فرق بين هذا المشكل الذي يهم الحكومة -وسوف لا أتدخل فيه- والمسائل الأخرى التي هي من اختصاصي. وأحذركم، لن أتسامح مع أي خلط بين المسألتين أو مع أي طريقة تغتنمون بها الفرصة للمس بالمؤسسات الوطنية المقدسة".
هذا ما قاله الحسن الثاني عن عبد الرحمان اليوسفي
بعد خلافة عبد الرحمان اليوسفي لعبد الرحيم بوعبيد على رأس الاتحاد الاشتراكي سنة 1992، قال الحسن الثاني ما يشبه المديح في الزعيم الاتحادي الجديد، الذي أصبح بعد مرور ست سنوات وزيرا أول في حكومة ما سمي بالتناوب التوافقي..
وهنا يقول عبد الواحد الراضي: كان ذلك يوم الأحد 7 يوليوز 1992، كما دونت ذلك في أوراقي الشخصية. دعاني الملك إلى مرافقته على متن سيارته التي كان هو من تولى سياقتها شخصيا. وبادر جلالته إلى الحديث وهو يتجه في طريق الصخيرات إلى الرباط. قال لي "آخر مرة التقيت فيها عبد الرحمان (اليوسفي)، سارت الأمور على أحسن ما يرام، السي عبد الرحمان كانت له صورة رجل المقاومة، ورجل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ثم عاش طويلا في الخارج. وأخيرا أصبح رجل الاتحاد الاشتراكي وخلَف عبد الرحيم...". ويضيف الحسن الثاني موجها كلامه للراضي "لقد اخترتم الاختيار الأفضل. وليس لي أي حكم مسبق على ذلك، وحتى وإن كانت ستصدر عنه بعض المشاكل، فسيتم التسامح معها، وذلك لأنه في حاجة إلى وقت كي يدخل في الواقع المغربي. ولكن في حدود سنة من هذا المكوث المستمر في المغرب، مع القيام بزيارات إلى المناطق والمدن، ورزازات والجنوب والغرب والشمال، بدون شك سيشكل رؤية أكثر دقة حول وقائع البلاد. وفي هذه الحالة، إذا أخطأ فلن يكون هناك مبرر لأخطائه".. كما قال الحسن الثاني للراضي حول اليوسفي "إنه كاتبكم الأول، ولدي فهم عسكري للسياسة ونظرا لحرصي على التراتبية. ومعنى ذلك، أنه مخاطبي الرئيسي. إنه رجل لبق، وأنا أضع اللباقة فوق كل اعتبار. وأفضل شخصا يقول لي (لا) بلطف على شخص يقول لي (نعم) بطريقة غير لبقة... قل له إنه منذ فترة طويلة، ظل بمنأى عن المسارات الحكومية. فمن المسؤول عن ذلك؟ لا أعرف. ربما يعود الخطأ، شيئا ما، إلى عبد الرحيم (بوعبيد)، وشيئا ما يعود إليَّ. باختصار أصبح ذلك جزءاً من الماضي".