بعد 49 عاما على رحيله.. غسان كنفاني يبقى الأقوى أدبيا وسياسيا ويُبْقي القضية الفلسطينية حية
الكاتب :
"الغد 24"
فاطمة حوحو
كان ذلك يوم سبت، 8 يوليوز 1972، دوى انفجار مكتوم داخل سيارة في منطقة مار تقلا ـ الحازمية، ضاحية بيروت الشمالية، استشهد غسان كنفاني وابنة أخته لميس، كانت تلك العملية الأولى من نوعها، التي ينفذها الموساد الإسرائيلي ضد قيادات فلسطينية في العاصمة العربية، التي احتضنت مناضلي الثورة ومقاتليها ومبدعيها.
49 عاما مرت على غيابه، لكن الأديب الروائي والكاتب السياسي والصحافي والرسام هو الأكثر حضورا اليوم من بين الكتاب الفلسطينيين والعرب في العالم أجمع، فما زالت أقواله وكتبه الأكثر تداولا على مواقع التواصل الاجتماعي، وصوره تملأ صفحات من آمن بالقضية التي حملها غسان في أمانة للأجيال في ابداعاته المتنوعة، ذهب جسده لكن روحه بقيت مزروعة في نصوص لم تستطع مخابرات الدولة الصهيونية أن تمحيها، فهي ما تزال تحيا في "رجال في الشمس"، وما يزال حلم "عائد إلى حيفا" يوقظ العالم.
غسان كنفاني قلم حساس، عبر بشفافية إنسانية عن معاناة الفلسطينيين خلال النكبة والهجرة، وجعل من كتاباته فعل انتماء إلى فلسطين وهويتها الوطنية، في السياسية كان ثالث أركان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وسابقا في حركة القوميين العرب، وكان واضحا في دعمه تسليح الثورة والدفاع عن خطف الطائرات لإيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم، ولذلك لم يكن تخطيط الموساد الإسرائيلي لاغتياله صدفة أو قرارا عشوائيا، بل خوفا من دوره وقدرته على التأثير وخلق وعي جماعي للشعب، على حقوقه التاريخية وعلى قضيته حتى لا تموت.
أدخل غسان بعدا جديدا إلى الأدب العربي، وفرض فلسطين في الأدب المترجم إلى اللغات الأجنبية، إذ ترجمت أعماله إلى أكثر من 16 لغة عالمية، وأصبحت قصصه من الموضوعات المستقطبة للدراسات والبحث.
فعله الإبداعي لم يفقد صلاحيته
في حديث إلى "الغد 24"، يقول الكاتب والفنان الفلسطيني مروان عبد العال، ردا على سؤال عن الأسباب، التي تجعل حضور غسان الأدبي قويا بعد 49 عاما على الرحيل، رغم تراجع القضية: "لأن غسان كنفاني كان نموذجاً للمثقف الثوري، لا ينطبق عليه وصف الكاتب ونقطة، أو السياسي بالمعنى الضيق للسياسة، فكرته خالدة لأنها شاملة لا يؤطرها البعد الواحد، ولا تعداد سنوات الغياب. وهو الذي آمن بزمن الاشتباك التاريخي الشامل، ويصر على السياسي أن يكون مثقفاً والمثقف سياسياً. وظل يمتلك قوة الحضور وقد عاش زمنا قصيرا، لم يتجاوز 36 سنة عند اغتياله، ولكن فعله الإبداعي لم يفقد صلاحيته بعد، لأنه واقع معاش، ولا حتى مدته الزمنية لأنه ظل عابراً لحدود السياسة الضيقة. وهذا يعود لعدة أسباب..
أولها: القدرة الهائلة على الإضافة، غسان كنفاني قُتل بعبوة ناسفة لأنه أضاف للقضية ولم يصعد على ظهرها، لم ترفعه هي بل أخذها إلى كل العالم، المبدع الذي نسج زمنه الفردي على مقاس الزمن الجماعي. وأقام جسر الضرورة بين الأدب والسياسة. فمنح الاثنين قوة سحرية لا تتضاهى.
ثانياً : امتلاك سلاح القوة الإبداعية في المعركة، من خلال الالتحام بين الرؤية الفنية لواقع معاناة الإنسان الفلسطيني، بتلازم بين الشرطين التاريخي والإنساني، دون تغييب رؤيته العميقة للصراع، فأستطاع أن يكون رسولاً للقضية، ليس عن طريق الشعارات أو الشتائم أو التحريض والغرائز، بل استخدام العقل، وعبر تحويل الأدب ليكون علم جمال المقاومة.
ثالثاً: الحضور الموضوعي، لأن الرواية مستمرة! والتغريبة الفلسطينية تحولت بأزمات المنطقة إلى تغريبة عربية. الموت بالخزان خنقاً أو غرقاً، والمخيم أصبح حالة عالمية، لذلك اتسع الوجع والسؤال المكثف والمستعاد: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ والأسئلة هي الأسئلة".
"إنني أمشي في جنازتي"
وعن غسان الإنسان في حياته اليومية، لاسيما رسائله الخاصة التي شغلت عالم الأدب والسياسة، وفي علاقاته وصداقاته، يجيب عبد العال:
"غسان كنفاني العاشق حتى الموت، يومياته تعج بكل أسباب الحياة، ولكنه عاشق يقاتل حتى الموت، يكتب ويرسم ويحرر ويجتمع ويجادل الرفاق، ويسهر ويحب، وفي الليل يكتب القصص القصيرة وقصص الأطفال ويجلدها ويضعها على وسادة ابنة أخته لميس التي استشهدت معه، لتقرأها بعد حضورها من المدرسة. يتعرف على آني هوفر، ورأساً بصدمها بالسؤال: تتزوجيني؟؟؟ وتزوجها.. ثم أنجب فايز.. وكتب أجمل الكلمات عندما شاهده جنيناً يولد للمرة الأولى. ويجد وقت للسخرية بأسماء مستعارة، ورسائل العشق والشعر كإنسان يبحث عن إنسانيته حتى آخر نبضة قلب.
لماذا كل ذلك؟ هناك عبارة تلخص كل شيء وقد صاغها في قصته القصيرة "في جنازتي" تقول: "إننى أمشي فى جنازتى رغم أنفى"، لا أعرف إن كان غسان كتبها لأنه مريض بالسكري ويعالج نفسه بنفسه؟! هل كان يسابق الزمن؟؟
وفي القصة ذاتها، التي بمثابة وصية مبكرة وإنسانية عميقة، يقول:
"أنت لا تعرفين أنك أضعت علي فرصتي الأخيرة فى أن أستعيد إنسانيتى التى امتصها المرض حتى آخرها، أنت لا تعرفين كم حرمتنى من وسيلتى الوحيدة التى كنت أريد فيها أن أقنع نفسى بأننى ما زلت أستطيع أن أكون شجاعا، و بدت لى حياتي صدفة فارغة لم يكن لها أى معنى، وأن أخطاء العالم كلها تلتقى عندي".
لمحة عن حياته
كان غسان الابن الوحيد لعائلة كنفاني، ولد في عكا، في التاسع من أبريل عام 1936، إذ فاجأ والدته المخاض ولم تتمكن من الوصول إلى سريرها، فكاد الوليد أن يختنق، كان من نصيبه الالتحاق بمدرسة الفرير خلال المرحلة الابتدائية للدراسة، إذ عاشت أسرته في حي المنشية بيافا، وهو الحي الملاصق لتل أبيب، والذي شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين، لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتى بهم إلى عكا وعاد هو إلى يافا.
وأقامت العائلة هناك من أكتوبر عام 47 إلى أن كانت إحدى ليالي أواخر أبريل 1948، حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا، بقي المهاجرون خارج المدينة على تل الفخار (تل نابليون)، وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة، وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن إلى لبنان. بدأ حياته السياسية عام 1953، حين قابل الدكتور جورج حبش الذي يعد مؤسساً لـ "حركة القوميين العرب"، وكانت المقابلة في دمشق، وخلال تلك الفترة على وجه التحديد، بدأ غسان يمارس حياته السياسية بشكل واعٍ كعضو فعال في الحركة، وقد غادر سوريا إلى الكويت، ثم طلبت القيادة منه الانتقال إلى لبنان في العام 1960 وعمل في جريدة الحركة.
في عام 1967 بدأ عمله في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وعاش لحظات نشوئها، وفي بيروت انضم إلى أسرة تحرير مجلة "الحرية"، وازداد اسم غسان لمعاناً فتولى عام 1963 رئاسة تحرير جريدة "المحرر" اليومية، وكان يشرف على الملحق الأسبوعي الذي تصدره باسم "فلسطين". ثم انتقل لرئاسة تحرير جريدة "الأنوار" اليومية (1967- 9 196) وكان له في صفحتها الأولى عمود يومي عنوانه (أنوار على الأحداث) خصصه لمعالجة القضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وفي 26 يوليو 1969 ترك غسان صحيفة "الأنوار" ليتولي رئاسة تحرير مجلة "الهدف" البيروتية، بعد أن سجل امتيازها باسمه واعتبارها المجلة المركزية للجبهة الشعبية.
كان إنتاجه الأدبي متفاعلا دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ما كتب كان يصور واقعاً عاشه أو تأثر به. ففي "عائد إلى حيفا" وصف فيها رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا، وقد وعي ذلك وكان ما يزال طفلاً يجلس ويراقب ويستمع، ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية. وفي "أرض البرتقال الحزين" حكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية. وفي "موت سرير رقم 12" استوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب المرض. أيضا "رجال في الشمس" فيها جزء من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت. وإثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة، ووصفها هي تلك الصورة الظاهرية للأحداث، أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين في تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش، مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق. وفي قصته "ما تبقي لكم" التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس"، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.
أما قصص "أم سعد" وقصصه الأخرى فكلها مستوحاة من أشخاص حقيقيين، في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة فلسطين 1936 فأخذ يجتمع إلى سكان المخيمات ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة، والتي سبقتها والتي تلتها، وقد أعد هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نشرت في مجلة "شؤون فلسطين" لاحقا)، أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل، بل اكتملت منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه "عن الرجال والبنادق". قبيل استشهاده. كانت لديه فكرة مكتملة لقصة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر في كراج البناية التي يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".
الوجه العاطفي
في وجهه العاطفي وعلاقته بالجنس الآخر بعيدا عن السياسة، كان عاشقاً مرهف المشاعر، إذ لعبت النساء دورا محوريا في حياته العاطفية، وكذلك في حياته النضالية، إذ كان يشجع النساء على الانخراط في العمل السياسي والمقاومة.
أبرز هؤلاء النساء زوجته آن كنفاني، وحبيبته غادة السمان وابنة أخته لميس. فآني امرأة دانماركية مهتمة بالشأن الفلسطيني، قدمت إلى بيروت للوقوف على أوضاع اللاجئين بالمخيمات، وقد قابلت غسان بعد توصية من أحد الفلسطينيين كأحد الداعمين للقضية والعارفين بها. تقول آني في أحد الحوارات الصحفية معها: "لقد دعاني إلى العشاء بعد أسبوعين على لقائنا، وكان ذلك في مقهى الغلابيني، وقال قبل أن نغادر هذا المقهي أريدك أن تجيبي عن سؤالي: هل تتزوجينني؟. ولكني كما قلت من قبل فقير لا مال لي، ولا هوية، وأعمل في السياسة، ولا أمان لي، ومصاب بالسكري، فقلت له دعني أفكر، وقبل أن أقوم من مجلسي قلت له سأتزوجك. وتزوجنا في نوفمبر 1961. أنجبت آني فايز وليلى، وتحسنت حالته الصحية بعد زواجه منها إذ كان يعاني من عدم الانتظام في الأكل".
المرأة الثانية في حياة كنفاني هي الأديبة غادة السمان، التي اشتهرت رسائله الرقيقة إليها، إذ كان ينشر بعضها أثناء عمله في "المحرر"، والآخر أخذت غادة قراراً جريئاً بنشرها في ثمانينيات القرن الماضي.
تقول غادة في مقدمة الرسائل: "نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني.. أشعر دائماً بالرغبة في إطلاقه كرصاصة على ذاكرة النسيان العربي والأسباب كثيرة وعديدة، وأهمها بالتأكيد أن غسان كان وطنياً حقيقياً وشهيداً حقيقياً، وتكريمه هو في كل لحظة تكريم للرجال الأنقياء الذين يمشون إلى موتهم دون وجل لتحيا أوطانهم".
المرأة الثالثة هي لميس ابنة أخته، التي استشهدت معه، والتي كان مرتبطاً بها ارتباطاً شديداً، والتي ولدت في يناير عام 1955. فأخذ غسان يُحْضِر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها، وكانت هي شغوفة بخالها، محبة له تعتز بهديته السنوية تفاخر بها أمام رفيقاتها، ولم يتأخر غسان عن ذلك إلا في السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله.
ما روته آني كنفاني عن لحظات الاغتيال
في الذكرى الأولى لاغتيال غسان كنفاني روت زوجته آني في نص نشرته مجلة الآداب اللبنانية، اللحظات الأخيرة له قائلة:
«صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان ـ كما هو دأبه ـ الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا ـ كما هو دأبنا دوماً ـ حاضرين للاستماع. وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين.
قبل أن يغادر متوجهاً إلى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح. وكان على لميس، ابنة أخت غسان، أن ترافق خالها إلى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا, فقد كانت تعدّ العدّة لزيارة أقربائها في بيروت. لكنها لم تفلح في الوصول إلى هناك أبداً. فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبلة «إلى اللقاء» حتى دوّى انفجارٌ مريع.
تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرت بسرعة لأجد أشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا «لميس» على بعد بضعة أمتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: «بابا، بابا...».
وعلى الرغم من ذلك، فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد أصيب إصابة خطيرة ليس إلاّ. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل في أن أراه مرة أخرى. وقعد أسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: «لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلمينني الانكليزية من جديد...».
في المساء، قالت لي صغيرتنا ليلى: «ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع إلى المنزل. جلست على درج بيتنا لأكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن الإسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته».