الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رحيل سعدي يوسف.. الشاعر والثائر والمتمرد و"الشيوعي الأخير" لا يموت

 
توفي الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، في العاصمة البريطانية لندن، عن عمر يناهز 87 عاما، وبعد معاناة مع مرض عضال في سنواته الأخيرة، وفق ما جاء في نعي اتحاد الأدباء والكتاب في العراق اليوم الأحد 13 يونيو 2021.
 
ويُعد سعدي يوسف، الذي توفي أمس السبت 12 يونيو 2021 وتأخر نعيه إلى اليوم الأحد، أحد كبار الشعراء في العالم العربي خلال العقود الخمس الماضية وأحد أبرز الأصوات الشعرية في عالم الشعر من حيث التجربة الشعرية وغزارة الإنتاج، ما يجعله خالدا في تاريخ الإبداع العربي، وفي وجدان كل المناضلين من أجل الحرية والحياة، بعدما أمضى أغلب مراحل حياته في الغربة والمنافي، ثائرا متمردا، أو هو "الشيوعي الأخير"، كما وصف نفسه في عنوان أحد دواوينه...
 
وينتمي سعدي يوسف إلى موجة الشعراء العراقيين التي برزت في أواسط القرن الماضي، وجاءت مباشرة بعد جيل رواد ما عرف بالشعر الحر أو التفعيلة، الذي أطلق على رواد تحديث القصيدة العربية من أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي.
 
وقد أطلق البعض على هذا الجيل اسم "الجيل الضائع"، فقد عايش بعضهم جيل الرواد لكن منجزهم الحقيقي جاء في الخمسينيات، وضم هذا الجيل إلى جانب سعدي يوسف، الشعراء محمود البريكان ومظفر النواب وآخرين.
 
وبرحيله ستكون الساحة الشعرية العربية قد فقدت أحد أبرز الأصوات التي ملأت الأجواء الشعرية تجديداً وصخباً وتمرداً.
 
وكتب الناقد خالد مطاوع، في 11 أبريل 2021، حينما كان سعدي يوسف لا يزال يقاوم ويصارع مرض السرطان في أحد مستشتفيات العاصمة البريطانية لندن: "سعدي يُعد من أعظم الشعراء المعاصرين الذين كتبوا بالعربية، وهو إلى جانب أدونيس ومحمود درويش، يعد أحد عمالقة الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين".

تجربة رائدة
وعن تجربة سعدي يوسف الشعرية يقول مطاوع: "استمدت ممارسة سعدي الشعرية من العديد من المصادر؛ من الأغاني الشعبية في جنوب العراق حيث نشأ إلى زُهد المعري، ومن الصور الشفافة للشاعر الصيني لي بو إلى أغاني لوركا العميقة، بالإضافة لإرتباط وحوار مستدام مع شعر السياب. نشر سعدي ما يزيد عن 40 مجلداً من الشعر والمقال الأدبي والقصصي، وعددا أكبر من الترجمات تنوعت من قصائد والت ويتمان الأمريكي لروايات نغوجي وا ثينغو، الروائي الكيني".
 
تركت تجربة سعدي يوسف الشعرية الفريدة بصمتها خارج العراق وتأثر بها عدد من الشعراء العرب.
 
ويقول الشاعر السوري حسين بن حمزة: "لو نظرنا إلى ما كُتب من شعر عربي منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم، لوجدنا أن الكثير من التجارب تدين، بشكل مباشر أو غير مباشر، لقصيدة سعدي يوسف. والأرجح أنّ الصفة المستقبلية التي حملها في طيات مشروعه الشعري أثمرت لاحقاً في تجربته هو، وفي تجارب شعراء آخرين. ولعلنا لا نبالغ كثيراً لو عزونا جزءاً كبيراً من إنتاج محمود درويش الأخير إلى استثمارات شديدة الذكاء والابتكار في تجربة سعدي يوسف! كما أنّنا نجد آثاراً مماثلة ومتنوعة لشعر سعدي في نتاج عدد من أهم شعراء السبعينيات العرب. ويمكن اقتفاء هذه الآثار بسهولة في أعمال أمجد ناصر، زكريا محمد، غسان زقطان، هاشم شفيق، رياض الصالح الحسين وغيرهم".
 
يمارس شعر التحدي ولا يأبه بالموت الرخيص
الكاتب والشاعر والأستاذ الجامعي المغربي عبد السلام فزازي، كتب متأثرا: "حبيبي وصديقي ومن علمني أن الكتابة موقف، وعداها هراءٌ يعانق هراءً، لن أقول لك (وداعا)، وبالمقابل أقول لك: (إلى اللقاء)، لكن سأقول اليوم لمن عرّفني بك إلى درجة قادتني هذه المعرفة إلى تحضير أطروحتي في أعمالك الكاملة في ليون الفرنسية تحت عنوان:
La poésie et prise de position chez Sa'di Yusuf
- شكرا للدكتورة فريال بدوري غزول بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
- شكرا للدكتور محمد بنيس.
- شكرا للكاتبة العراقية فاطمة محسن رئيسة تحرير محلة "الفكر الديمقراطي" بقبرص.
- شكرا للدكتور جمال الدين مي الشيخ.
- شكرا للدكتور أنوار لوقا رحمه الله...
- شكرا لسعدي الذي علمني الكثير، في المحمدية، ومراكش، وباريس، ومقهى كولومبو بوجدة، التي كان يزورها أسبوعيا وهو يدرس في سيدي بلعباس بالجزائر...

إننا لا نرهب الموت، ولكن، يا جميع الشرفاء
                   يا جميع الأصدقاء…
                   ارفعوا أصواتكم من أجل شعبي..
وإن انتساب سعدي لزمرة هؤلاء المناضلين جعله يشاركهم قولا وممارسة شعر التحدي. وهو بالفعل لا يأبه بالموت الرخيص، ذلك لأن عمقه يفوق كل الشعارات، إنه عمق التمسك بالصخر وبالأرض:
                   لكن سعدي لن يموت
                   في الرمل… في شيراز… من أجل الشهادة
                   متمسكا بالصخر…

يحصي اللانهاية"...

وتابع فزازي قوله: "إن سعدي يوسف من الشعراء العرب المعاصرين الذي استطاع من خلال أشعاره عبر مساره الطويل تحديد ارتباطات الشعر، باعتباره الجنس الأدبي العربي الحديث الذي تبناه قبل اعتناقه أجناسا أخرى- بالواقع المعيش، إيمانا منه أن الشعر يجب أن يكون حقا صورة تعكس بامتياز الوقائع والأحداث وتفاعلات شتى الأحاسيس البشرية والقيم التي تختلف وتؤثر سلبا وإيجابا، لتنتج عن كل هذه الأشياء مواقف سياسية واجتماعية وثقافية، طالما نادى بها سعدي يوسف واقترح لها رابطة تجمع كل الشعراء والمفكرين الملتزمين والحاملين لمشعل الدفاع عن المضطهدين والمُغرّبين ضد كل من يريد تدجينهم في ظل واقع عربي يشهد تدهورا مهولا، والحال أن لهم من المقومات ما يجعلهم خير من يستشار في الشؤون المستقبلية لهذه الأمة العربية"...
 
 
سجن واضطهاد ومنافي وغربة
تعرض سعدي يوسف مثل كثير من الكتاب والشعراء العراقيين للسجن بسبب مواقفه السياسية واضطر إلى الهجرة من بلده ليعيش في المنافي والغربة.
 
في أعقاب الإنقلاب الذي قاده حزب البعث في الثامن في فبراير 1963 ألقي القبض على سعدي يوسف، لكن أطلق سراحه قبل ليلة واحدة من إنقلاب الناصريين عليهم أواخر العام نفسه.
 
وذهب إلى طهران ودمشق ثم إلى الجزائر حيث أقام لسنوات قبل أن يعود الى وطنه بعد انقلاب البعث الثاني في يوليوز 1968.
 
لكن لم تطل إقامته هذه المرة، إذ كان الوضع يتدهور وكانت هناك حملة قمع واسعة ضد الشيوعيين وضد كل من يشتبه في معارضتهم للنظام وإن كانوا بعثيين.
 
وفي غربته الثانية، تنقّل سعدي بين مدن كثيرة مثل بلغراد، نيقوسيا، باريس، بيروت، دمشق، وعدن والجزائر والرباط... ليستقر أخيراً في لندن، ويحصل على الجنسية البريطانية.
 
مصير مشترك وثمن باهظ
لم يخرج سعدي في حله وترحاله عن مسار معظم الشعراء العراقيين الكبار، أمثال: محمد مهدي الجواهري، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، يأسرهم المنفى ثم يتركهم معلقين بشباكه حتى الموت، ويصبح الوطن لديهم مصدراً شعرياً وذكريات تزهر قصائداً ونصوصاً.
 
الشيوعيّ الأخير يدخل الجنّة
كان الشيوعيّ الأخيرُ مؤرَّقاً في ليلةِ الأحدِ، الصديقةُ غادرتْ ظُهراً
إلى باريسَ، والمطرُ الخفيفُ يجيءُ أثقلَ ، لحظةً من بعدِ أخرى.
والنبيذُ الأستراليُّ الذي قد كان يكْـرَعُـهُ بأقداحٍ كبارٍ كادَ يصرعُـهُ!
وجاءته المصيبةُ عند بطّـاريّةِ السيّارةِ. الأشياءُ قد همدت؛
فماذا يفعلُ الآنَ؟
الشيوعيُّ الأخيرُ مضى ينقِّبُ في الرفوفِ العالياتِ... وثَـمَّ أتربةٌ على
الكتبِ العتيقةِ. ثَمَّ نسْجُ العنكبوتِ، وما تبقّـى من جناحَي نحلةٍ.
لكنه استلَّ الكتابَ، وراحَ يقرأُ:
أمرُنا عجبٌ!
مَلاكٌ جاءَ يصطحبُ الشيوعيَّ الأخيرَ إلى جِنانِ الـخُلْــدِ...
قالَ لهُ : لقد طوّفتُ في الآفاقِ ســبعاً، كي أصادفَ طاهراً. كان
الذين رأيتُهم قوماً عجيبينَ... الصلاةُ وكلُّ شـيءٍ. غير أني كنتُ
أسألُ عن عقيقِ سَـجِـيّـتَينِ: الطُّهرِ والعدلِ . السماءُ تفتّحتْ...
فلننطلقْ ، لتكونَ في الفردوسِ بعد دقيقةٍ!
كان الشيوعيُّ الأخيرُ مكوَّماً فوقَ الأريكةِ
هاديءَ الأنفاسِ
مبتسماً...
كأنّ روائحَ الفردوسِ تُفْـعِمُ قصرَهُ الليليَّ حقّـاً!
لندن 28-06-2006
 
وتناقض نصوص سعدي يوسف الشعرية المشبعة بالرمزية والسلسة مثل الأحداث اليومية التي نمر بها وحتى الرتيبة والهادئة، مواقفه السياسية الحادة، التي دخل بسببها في معارك عنيفة وسجالات فكرية وأولها مع رفاق دربه القدماء.
 
دفع الشاعر ثمناً باهظاً بسبب أفكاره وانتمائه اليساري، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، صار يساريا على طريقته الخاصة، وبات يصف نفسه "الشيوعي الأخير"، بحسب عنوان آخر دواوينه، وبشكل خاص بعد اختلافه مع حزبه في الموقف من غزو العراق والتحولات السياسية التي أعقبته.
 
الوزير والبرلماني ونقد النبي
قبيل رحيله، كان الشاعر العراقي الكبير موضوع جدال حاد بين قوى سياسية متخلفة داخل العراق، تفجر الجدل بعد طلبٍ تقدم به وزير الثقافة العراقي، حسن ناظم، وجّهه إلى وزارة الخارجية، لإرسال السفير العراقي في لندن لعيادة سعدي يوسف والاطمئنان على تلبية احتياجاته.
 
غير أن الطلب قوبل بانتقاد شديد وهرج ومرج وصراخ ونباح من قبل كثيرين، على رأسهم نائب رئيس البرلمان العراقي، حسن الكعبي، الذي قال إن سعدي يوسف "انتقد النبي محمد"، ولا يستحق الزيارة أو الرعاية الحكومية. وما إن سمع الوزير أن الأمر يتعلق بـ"نقد النبي محمد"، حتى "زاد فيخرات على العافية" بدوره، فجاء ردّ وزير الثقافة على الكعبي مزكيا، إذ تحدث عن دواعٍ إنسانية تستدعي ذلك، لكنه وصف في الوقت ذاته مواقف وشعر يوسف بـ"التخاريف"، وأنه بلغ "أرذل العمر". وقد أثار هذا الكلام غضب العديد من الكتاب العراقيين، الذين ظلت أصواتهم خافتة أمام نباح القوى المتخلّفة المستحكمة في العراق...

سيرة حياة ودواوين وتراجم وترجمات
الشاعر الراحل سعدي يوسف من مواليد عام 1934، في بلدة "أبي الخصيب" بالبصرة في جنوب العراق، أكمل دراسته الثانوية في البصرة. وحصل على إجازة في آداب اللغة العربية وعمل في التدريس والصحافة الثقافية، وتنقّل بين بلدان شتّى، عربية وغربية، شهد حروباً، وحروباً أهلية. ويقيم منذ عام 1999 في بريطانيا.
 
نال جائزة سلطان العويس، والجائزة الايطالية العالمية، وجائزة (كافافي) من الجمعية الهلّينية. وفي العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ.
 
غزارة إنتاج سعدي يوسف تكاد تكون فريدة، فقد بلغ عدد دواوينه الشعرية التي نشرها حتى الآن 43 ديواناً على مدار ما يقارب سبعة عقود من الزمن، كان أولها "القرصان" عام 1952، وآخرها "في البراري حيث البرق" عام 2010، مروراً بـ"الأخضر بن يوسف ومشاغله" و"الشيوعيّ الأخير يدخل الجنّة".
 
كما نشر عشرة كتب ضمت تراجم لأشعار كبار الشعراء العالميين، أمثال والت ويتمان ولوركا وكافافي ويانيس ريتسوس.
 
وترجم نحو 12 رواية لكبار الروائيين الأجانب مثل النيجيري وولي سوينكا والإنكليزي جورج أورويل والياباني كينزابورو أوي.
 
كما كتب سعدي يوسف رواية تحت عنوان "مثلث الدائرة"، ومسرحية "عندنا في الأعالي"، ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان "نافذة في المنزل المغربي"، إضافة الى عدد من اليوميات والنصوص السياسية والأدبية مثل "يوميات الأذى" و"يوميات ما بعد الأذى"...