الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

محمد بنسعيد أيت إيدر.. شيخ الاشتراكيين المغاربة

أحمد نشاطي
 
 
لعلة ما، لا تخفى مراميها على كل حال، يصطدم الرأي العام، بين الفينة والأخرى، بخرجات لا تخلو من تدبير وترصد، تستهدف، يائسة، الطعن في المناضل الكبير الشامخ السي محمد بنسعيد أيت إيدر، حتى أن هذه الأيدي الخفية، التي تتحرك في الظلام، استصدرت شهادة جروحة، بئيسة، من رفيق سلاح قديم، تُشكّك في مسيرة نضاله الوطني ضد الاستعمار، ووصل الأمر إلى التشكيك في قيادته، بل وحتى في انتمائه لجيش التحرير في الجنوب، ثم تأتي خرجات أخرى عجيبة تحاول ليّ عنق التاريخ، بالإيحاء إلى أن بنسعيد ليس له علاقة بجيش التحرير في الشمال، ولم يكن من مؤسسي منظمة 23 مارس الماركسية اللينينية...
 
وهذا تضليل مكشوف، فالسي بنسعيد لم يقل يوما إنه كان قياديا في جيش التحرير في الشمال، وهو الذي تحدث عن هذه الحركة المسلحة، باعتبارها وليدة المقاومة السرية المسلحة في المنطقة السلطانية، وانتقل عدد من قيادييها إلى المنطقة الخليفية، وأسسوا في تطوان المجلس الاستشاري لجيش التحرير، وشكلوا قيادته المركزية، وحدد ونشر بنسعيد أعضاء هذه القيادة بالأسماء، وكل الوثائق التوفرة، تفيد عضويته الفعالة، هو وعبد الرحمن اليوسفي، في المجلس الاستشاري لجيش التحرير، الذي ترأسه الزعيم علال الفاسي...
 
اختار بنسعيد ألا يكون شبيها بزعماء كانوا وما زالوا قاعدين على الكرسي الأول يعضّون عليه بالأسنان والنواجد فسلّم المشعل للأجيال الموالية
 
ودون إطالة، فإن عملية التشكيك عندما تصل إلى هذا الحد، وتحاول الكذب على الأحياء وحتى الأموات، ندرك حجم الحقد والضغينة، التي تنهك نفوسا وجهات مريضة، ضد صوت شامخ، ظل باستمرار عصيا على التدجين، تكسرت على صخرة صموده وشموخه كل تلك الحملات الممنهجة التي استهدفه بها الأسلاف، والتي يواصلها اليوم الأخلاف...
 
حتى الدفع بالعلاقة مع منظمة 23 مارس، لم يقل بنسعيد، يوما، إنه مؤسس هذه الحركة الشبابية الماركسية اللينينية، والجميع يعرف تفاصيل تفكير شباب هذه المنظمة في القيادة، وفي بنسعيد، وتفاصيل الاتصالات، التي أُجريت معه، والتي أعقبها الانخراط القوي لهذا المناضل الوطني الكبير ضمن صفوف تنظيم شباب حالم بالثورة الوطنية الديمقراطية، وخلال هذا الانخراط، جسّد بنسعيد، بكثير من الاستحقاق، آمال وانتظارات هؤلاء الشباب، وأغلبهم مازالوا على قيد الحياة، في سلوك ونزاهة ووعي المناضل القيادي...
 
وفي هذا الصدد، وعلى المستوى الشخصي، خَبرتُ بعض ملامح هذه الشخصية المناضلة القيادية وأنا شاب طالب جامعي، آنذاك، بعد دخوله من المنفى عقب العفو الملكي المعروف، إذ فاجأني السي بنسعيد، خلال عطلة جامعية، بزيارتي في منزل العائلة بمدينة اليوسفية، المدينة الفوسفاطية الصغيرة المهمشة، رفقة رفيقي العائد، حديثا، من المنفى امبارك دكيري، كانت لحظة مهيبة، بالنسبة لي، سرعان ما تبددت الرهبة في جلسة شاي مغربية بخبز وزيت، وبغير قليل من الوقت، سينتهي بي الحال أمام شخص هو والد ورفيق وصديق... وهذه الخصلة، التي كان شباب المنظمة يجدونها في السي بنسعيد، هي التي بقيت روحها مستأثرة بفكره وانشغاله، وعندما أسسنا حركة الشبيبة الديمقراطية كنا نجده الأقرب إلينا والأكثر تفهما لمواقفنا، كنا نجد فيه صورتنا وحلمنا الديمقراطي الشعبي، واستمر الحال إلى اليوم، حيث يتبوأ الشباب صدارة تفكيره ومواقفه...
 
ظل بنسعيد يُوسّع معارفه ويعمّق دراسته باحثا عن معادلة بين أرضية ثقافية سلفية تلقاها في جامعة ابن يوسف في مراكش وبين مرجعية اشتراكية ناهضة
 
أذكر، اليوم، واحدا من مشاهد ألقه وبهائه وشموخه في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاستثنائي لليسار الاشتراكي الموحد يومي 23 و24 سبتمبر 2005، والذي كان تُوج بوحدة اندماجية بين "اليسار الاشتراكي الموحد" و"جمعية الوفاء للديمقراطية"، وأعطت "الحزب الاشتراكي الموحد": بخطى متثاقلة، ثابتة وواثقة، تقدم شيخ الاشتراكيين المغاربة، محمد بنسعيد أيت إيدر، إلى المنصة لتناول الكلمة، مباركا خطوة رفيقاته ورفاقه المجتمعين...
 
كان بنسعيد، أو الشتوكي كما كان يُنادَى ذات سنوات رصاصية، الذي تحدث في سبتمبر 2005 بمسرح محمد الخامس بالرباط، بلكنته السوسية، عن الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، هو الرجل ذاته، الذي كانه في مرحلة مقاومة الاحتلال، ثم في مرحلة النضال من أجل بناء دولة الاستقلال. كان يومئذ، مثلما كان دائما، صلبا مكابرا شامخا، حالما بمغرب الحرية الآتي على صهوة جواد أصهب أو أدهم، المهم أن يأتي مطواعا أو غلابا، يوزع على الأهل والأحباب خزامى ونورا ونوارا، وتطلق الصبايا زغرودة العيد، مع إطلالة فجر جديد، على البلد الأمين السعيد.
 
بنسعيد: نحن فخورون أننا لم نفقد أخلاقنا وروحنا بمساهمتنا في المؤسسات التمثيلية التي هي بالنسبة لنا مجال للنضال والمواجهة وليس مكانا للامتيازات والمحاباة والفساد
 
وكان بنسعيد هو ذاته، ثاني زمانه بعد الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة، الذي اختار ألا يكون شبيها بزعماء كانوا وما زالوا قاعدين على الكرسي الأول، يعضّون عليه بالأسنان والنواجد. قرر بنسعيد، اختيارا وطواعية، أن يسلّم المشعل والأمانة للأجيال الموالية.
يطرح موقف بنسعيد إشكالا مزمنا في الحياة السياسية المغربية، يتجاوز ثوابت وتحولات علاقة الشيخ بالمريد، إلى وضع الشيخ نفسه، رؤيته للصراع وللعالم وللتنظيم، أي إشكالية الخلافة في المشهد الحزبي، والنقابي كذلك. لا ينزاح القائد إلا بداعي العجز أو الموت. ولا يكفيه أن يعزز زعامته بديمقراطية الانتخاب، بتجييش المريدين، الذين يصوّتون على بقاء الزعيم، بل يصبح هو من ينتخب "شعبه"، وبكل ديمقراطية.
 
كسر بنسعيد هذه القاعدة، ولعلة ما، تواطأت الساحة السياسية والإعلامية، آنذاك، على ترك هذا السلوك يغيب في العتمة، وفي الصمت... لم يول بنسعيد شأنا لهذا الصمت الواطئ، تماما مثلما كان لا يبالي بالضجيج، الذي ظل يلاحق مواقفه الصلبة طوال مسيرته النضالية، منذ حمل السلاح في وجه المستعمر، إلى مقارعات سنوات الرصاص التي حصد منها، في المغرب المستقل، ثلاثة أحكام بالإعدام، إلى أن نَفَذَ بجلده سنة 1964، حاملا معه حرقة الوطن إلى هجير المنافي، ن الجزائر إلى فرنسا، وحتى عودته إلى البلاد سنة 1981 في أعقاب عفو ملكي.
 
بين القبول بالمخزنة والخطوط الحمراء وبين الرفض القاطع للعمل السياسي داخل المؤسسات هناك طريق ثالث اقتنع به بنسعيد وظل يسير على هديه بكل شموخ وإباء
 
وطوال هذه المسيرة، ظل بنسعيد يحمل هموم الوطن، بالليل وبالنهار، يُوسّع معارفه ويعمّق دراسته، باحثا عن معادلة بين أرضية ثقافية سلفية تلقاها في جامعة ابن يوسف في مراكش، وبين مرجعية اشتراكية ناهضة غذّتها محطات كبرى وطنية (انتفاضة 23 مارس في الدارالبيضاء)، وقومية (انطلاقة الثورة الفلسطينية)، وأممية (انتصارات الثورة الفيتنامية وفتوحات الثورة الصينية)، ليلتقي مع جيل جديد من رفاقه الشباب في قيادة "منظمة 23 مارس"، التي انتقلت، بعد حوالي عقد من الزمن، وبعد مراجعة نقدية شاملة وجريئة، من العمل السري، إلى ضفة الشرعية القانونية بتثبيت استراتيجية النضال الديمقراطي مع منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي حصلت على الوصل القانوني للعمل في العلنية، أو "الشرعية"، سنة 1983.
 
وعندما قرر رفاق بنسعيد العودة من المنفى والدخول إلى المغرب، تهاطلت عليهم الاتهامات بالسقوط، وقيل إنهم سمسروا في القضية و"باعوا الماتش". كان بنسعيد يبتسم ساخرا من هذه الاتهامات، التي تزايدت عقب ولوجه البرلمان في الانتخابات التشريعية لسنة 1984، قبل أن يتبين للمتهمين، خلال مسيرة عقدين من الممارسة البرلمانية والقيادة الحزبية، أن الرجل لا يبيع ولا يباع، وأن الوطن لديه ليس متاعا للعرض في المزاد.
 
كانت المؤسسات المنتخبة حصان طروادة نحو السلطة عند البعض. بيد أن الحصيلة اليوم تجعل بنسعيد يرفع رأسه ليؤكد "نحن فخورون بالقول إننا ساهمنا في هذه المؤسسات دون أن نفقد أخلاقنا وروحنا. فالانتخابات والمؤسسات التمثيلية، بالنسبة لنا، هي مجال للنضال والمواجهة، وليس مكانا للامتيازات والمحاباة والفساد".
 
وسيظل التاريخ السياسي المغربي يذكر لبنسعيد مواقفه الجريئة على الواجهة البرلمانية، في طرح عديد من القضايا المشتعلة، ليس أولها ولا آخرها، مقاومة الضغط الذي طوق به من كل جهة، لثنيه عن الجهر بفظاعات تازمامارت، في وقت كان فيه مثل هذا الحديث أدهى من مجرد تجاوز خطوط حمراء. في هذه القضية وغيرها من اشتعالات المرحلة، والتي عايشتها معه عن كثب، كان شيخ الاشتراكيين المغاربة يعتقد أنه بين "القبول بالمخزنة والخطوط الحمراء، وبين الرفض القاطع للعمل السياسي داخل المؤسسات"، هناك طريق ثالث، من الداخل، الذي اعتبَرَه ممكنا، وسار على هديه بكل شموخ وإباء، وهذه الطريق بالذات هي التي وفّرت، في ذلك المؤتمر الاندماجي، قاعدة سياسية للاعتماد عليها في بناء وحدة للاشتراكيين المغاربة.
 
عندما اختار بنسعيد الانسحاب من المسؤولية الأولى في التنظيم قال لرفيقاته ورفاقه: مغرب الألفية الثالثة مغربكم فاندمجوا في العصر مواطنين حداثيين ديمقراطيين اشتراكيين
 
في تلك الجلسة الافتتاحية لمؤتمر استثنائي اندماجي، تحدث بنسعيد عن المغرب، الذي في البال، ودعا رفيقاته ورفاقه للنهوض بالأمانة، وحمل المشعل، لمواصلة الطريق على درب النضال التحرري، الذي قدّم في سبيله زهرة شبابه وحريته وأعصابه، وقدم كل شيء بلا حساب... لم تكن هذه الدعوة جديدة. كان بنسعيد اختار، في ربيع سنة 2004، الانسحاب من موقع المسؤولية الأولى في التنظيم بكل هدوء، ودونما حاجة لقرع الطبول، وترقب لمريدين يتداعون بالنحيب والعويل مطالبين ببقاء الزعيم.
 
وقف بنسعيد، ربيعئذ، ليعلن "أشعر أن الوقت حان لإعطاء المشعل للجيل الموالي". وقال لرفيقاته ورفاقه "المستقبل مستقبلكم، فحضّروه بجدية". وأكد "المسؤولية لكم، فثابروا عليها بديمقراطية". وزاد مشددا "مغرب الألفية الثالثة مغربكم، فاندمجوا في العصر مواطنين حداثيين ديمقراطيين اشتراكيين".
 
أطلق بنسعيد وصيته ومضى بغير التفات، وعاد إلى القاعدة مناضلا كما بدأ، يحلم بالشمس والخبز والزيت، وبمغرب يغلق صفحات الحزن والكدر والوقت المهدور، ويفتح دفاتر العشق والنوار والنور...
 
وواصل بنسعيد، من موقعه الجديد، كمناضل قاعدي، التفاعل مع النضال التغييري لشابات وشباب اليسار الديمقراطي، ويدعو عموم الشباب المغاربة إلى الانخراط في الحياة السياسية، والمشاركة الواعية في الاستحقاقات الدستورية، كسبيل ديمقراطي، الأكثر جدارة، لمواجهة الفساد والاستبداد والدفاع عن دمقرطة الدولة والمجتمع، وكتب وصيته الجديدة، "رسالة مضاءة" بخمس شمعات "أمل" موجهة إلى "بنات وأبناء مغربنا الحبيب"...
 
رسالة من أجل الوطن
الشمعة الأولى عبارة عن "رسالة من أجل الوطن"، تحدث فيها بنسعيد عن فترة الحماية، وكيف قاوم الشباب المغاربة الاحتلال بـ"الشعر والمسرح، والمظاهرة، واللطيف، قاومناه، بالمذكرات، والإضراب والمنشور… وبالسلاح لما قوي طغيانه…"، إلى أن فرضوا "خروج الاستعمار، وعودة سلطان البلاد، وإقرار استقلال المغرب… وحلمنا بأن تسود في بلدنا قيم الحرية والكرامة والمساواة… إلا أن استقلال المغرب، كان استقلالا ناقصا… فجزء من التراب الوطني ظل تحت نير الاستعمار، وصراعاتنا كوطنين، في ما بيننا، وأخطاؤنا الاستراتيجية والسياسية، أدت إلى تضييعنا للانتصار الذي حققناه على المستعمر، فتم إقصاؤنا من معركة بناء الدولة الوطنية".
 
رسالة من أجل دمقرطة الدولة
الشمعة الثانية عبارة عن "رسالة من أجل دمقرطة الدولة"، تحدث فيها السي بنسعيد عن المعركة ضد التهميش، وضد الفساد والاستبداد، والتي تعرض، خلالها، "الشرفاء المخلصون لهذا الوطن لكل أشكال التنكيل والغصب"، وعن آمال وتطلعات جيل الشباب اليساري الجديد، الذي "توفق في خلق حركة اجتماعية، جندت معظم الشباب المتعلم في عقدي الستينيات والسبعينيات"، و"لهذا الشباب المتعلم يعود الفضل في طرح حقوق المواطنة كما هو متعارف عليها كونيا.. وبفضل عمله ونشاطه ونجاحاته وحتى إخفاقاته". وبالنسبة لجيل الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، يقول بنسعيد: "استطعنا أن نعود إلى الحقل السياسي، وأن نستأنف النضال، أولا ضد التهميش والاستفراد بالسلطة، وثانيا من أجل دمقرطة الدولة وإصلاح النظام السياسي والمشاركة في تحديد مصير ومستقبل شعبنا"...
 
رسالة من أجل دمقرطة المجتمع
الشمعة الثالثة عبارة عن "رسالة من أجل دمقرطة المجتمع"، شدد فيها السي بنسعيد على أن "التغيير ليس فقط عملية فوقية، بل جهاد في عمق المجتمع"، بثقافة أخرى، قاعدتها "الوعي بالحقوق، والنضال من أجل اكتسابها والاقتناع بأن الحقوق تستدعي القيام بالواجبات اتجاه المجتمع والوطن والأمة"... هذه الثقافة الجديدة، ثقافة الديمقراطية والمواطنة، التي يدعو إليها بنسعيد، تستدعي، بدورها، معركة عميقة، معركة ضد الذات المحافظة وهي المقصود بدمقرطة المجتمع، وهي "معركة معقدة، متشعبة لأنها تواجه ما هو مستبطن فينا، وفي عمق أعماقنا. معركة تمس منظومة قيمنا المحافظة. فباشرناها، بوعينا التاريخي وبحيوية الجيل الثالث من الحركة الديمقراطية". ولذلك، "اقتنعنا، وأقنعنا، أن التغيير ليس فقط عملية فوقية، بل جهاد في عمق المجتمع"...
 
رسالة من أجل الوحدة الترابية
الشمعة الرابعة عبارة عن "رسالة من أجل الوحدة الترابية" تحدث فيها عن تعقيدات ملف استرجاع الأقاليم الجنوبية، وعن الدعوة إلى "توافق وطني حول هذه المسألة المركزية"، وعن "سوء التدبير الناتج من الاستفراد بالملف من طرف الدولة، (مما) سهّل على الأطراف الدخيلة عرقلة كل الحلول الممكنة"... ليخلص بنسعيد إلى القول "حاورنا الصحراويين المنضوين تحت يافطة البوليساريو ليتجاوزوا ما أدى بهم على الانزلاقات نحو الانفصال، وإلى الانخراط معنا، في بناء مغرب ديمقراطي متعدد الروافد والجهات، غني باختلافاته قوي بتضامنه وتعاضده، وذلك منذ أواسط السبعينيات... ومازلنا نطمح إلى هذا الأفق، لتضميد هذا الجرح العميق ولتسهيل بناء مغرب كبير، وفاعل في عصر العولمة".
 
رسالة من أجل المواطنة الكاملة
الشمعة الخامسة عنونها بـ"رسالة من أجل المواطنة الكاملة"، تحدث فيها عن "معارك شرسة ضد التهميش وتكميم الأفواه وبناء الخطوط الحمراء وعلى رأسها شكلية الواجهة الديمقراطية"، وأبرز مسار الصراع من أجل إلغاء ظاهرة الاعتقال السياسي، بالمطالبة بإفراغ السجون وعودة المنفيين واحترام حق التفكير والنشر والتجمع والنشاط السياسي، وقال بنسعيد: "ساءلنا المسؤولين، كل المسؤولين حول المعتقلات السرية، وعلى رأسها تازمامارت، كما فضحنا كل أوجه الفساد الاقتصادي والسياسي، وطالبنا بالمساءلة وبعدم الإفلات من العقاب عند الاقتضاء... وبذلك حوّلنا العمليات الانتخابية، بالرغم من كل ما شابها من تزوير وتحريف، إلى لحظات للتجنيد النضالي وللتنوير السياسي والثقافي... كما حوّلنا الواجهة البرلمانية، التي أريد لها أن تبقى واجهة للتزيين، إلى منبر للنضال، وإلى فضاء نسمع فيه صوت الشعب، وإلى جبهة نبني فيها العمل الوحدوي المشترك بين قوى الصف الوطني الديمقراطي"... وشدد بنسعيد على الحيوية النضالية للعمل الوحدوي، مذكرا بعدة معارك نضالية "جمعت في الميدان أجيالا مختلفة، وتجارب نضالية متنوعة، ونسجت علاقات نضالية متينة، وعلى قاعدتها فتحت سيرورة جديدة لتوحيد واندماج القوى المناضلة داخل الصف الوطني الديمقراطي"... ليخلص بنسعيد إلى التشديد على أن "المغرب بحاجة إلى إصلاحات شمولية للقضاء على اقتصاد الريع وعلى نظام الزبونية والمحسوبية، والإفلات من المحاسبة والعقاب وإقرار تنمية اجتماعية أساسها المواطن الحر المسؤول، تنمية تحافظ على توازن الجهات وعلى التوازن البيئي... وبعبارة أوضح فإن بلادنا بحاجة إلى الانتقال الديموقراطي السلمي والحضاري إلى المجتمع المنتج، العادل، الديمقراطي والمتضامن..."، لافتا إلى أن "كل تأخير في هذا الانتقال، سيؤديه شعبنا، وشبابنا على الخصوص، بثمن غال"...
 
كذلك كان.. وكذلك هو الآن.. لا يساوم في مواقفه السياسية، ولا يلتفت إلى تلك الضربات الهوجاء، لحد الرعونة، التي تستهدفه بين الفينة والأخرى.. وفي كل حادث يصنعون له ما يلزم من حديث، هجموا عليه في قضية رفض تقبيل يد الملك، هجموا عليه في قضية تازمامارت، وعايشت وشهدت يوم انفجر في وجوههم تحت قبة البرلمان متهكما "اللي فيه الفز يقفز"، هجموا عليه في قضية التوشيح بوسام ملكي، أو في عدم تضامنه مع هذا الشخص أو ذاك بسبب موقف مسؤول بعيدا عن التهافتية... لكن في أغلب هذه الهجومات الضارية، غالبا ما كان بنسعيد، ومازال، يجنح إلى عدم الرد، يمضي أماما، يمضي دون التفات، في واحدة من تعبيراته البليغة عن سخرية مُرّة من حجم الانهيار السياسي والأخلاقي، الذي بات يجتاح الوضع الراهن...