مقال كيجيب التبوريشة.. في الرد على أطروحة لنيل الماجستير عن تسوّل السوريات اللاجئات في الجزائر
الكاتب :
جلال مدني
جلال مدني
قبل نشر المقال، أدناه، نشير إلى أنه رغم الاستنكار، الذي واجه به نشطاء جزائريون وسوريون على السواء، وفي حينه (سنة 2018، أي سنة ظهور الدراسة، التي أُنجزت قبل ذلك بسنتين)، الدراسة "الأكاديمية"، التي كانت قدمتها طالبتان جزائريتان في إحدى جامعات الجزائر من أجل نيل درجة الماجستير، بعنوان "تسول المرأة اللاجئة السوریة في المجتمع الجزائري"، فإن هذه الدراسة عاودت الظهور مرتين وبصورة غريبة:
المرة الأولى، بعد حوالي 3 أشهر من انطلاق الحراك الشعبي الجزائري في 22 فبراير 2019، الذي أطاح بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة...
والمرة الثانية، هذه الأيام ونحن على بعد أقل من أسبوعين على عودة الجزائريين إلى استئناف الحراك الشعبي يوم 22 فبراير 2021، بهدف إسقاط نظام الجنرالات برفع شعار "دولة مدنية ماشي عسكرية"...
الرسالة قُدِّمت خلال العام الدراسي 2015-2016 إلى قسم علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة "الجیلالي بونعامة" في مدينة "خميس مليانة"، جنوب غرب الجزائر العاصمة بنحو 120 كلم، من طرف الطالبتين: أحلام بكدي ونعيمة حلاليب، وبإشراف من الدكتورة فاطمة الزهراء نسيسة، التي لم تحصل على شهادة الدكتوراه إلا في سنة 2013...
لكن تكرار ظهورها في 2019، ثم في 2021، لابد أن يطرح العديد من الأسئلة، التي لم يلتفت إليها النشطاء الجزائريون والسوريون وهم يتصدون لهذه الدراسة، إذ ركزوا، بالخصوص، على طابعها "العنصري"، وعلى قيم الأنفة والعزة والكرامة، وسننقل، هنا، في هذا الصدد، مقالا "كيجيب التبوريشة"، للحرقة والروح المجروحة، التي تتخلل عباراته...
لكن، في اعتقادنا، أن إعداد هذه الرسالة الجامعية كان، في الأصل، موجّها ومقصودا ومدبّرا، إذ رغم أنها، في ظاهرها، تخدم السوريين والسوريات في الجزائر وتنبِّه المسؤولين إلى ضرورة العناية بالضيوف السوريين، إلا أنها رسالة مهزوزة علميا، مبنية على استجواب عيّنة لا تتعدى 8 نساء، واستمارة من 12 سؤالا فقط، للحصول على الماجستير! وهذا يبين أن الهدف لم يكن أكاديميا، وإنما استعراضا لحالات سوريات لاجئات، لتوجيه رسالة أمنية إلى الشعب الجزائري، تفيد أن هذا الوضع هو ما ستؤول إليه أموركم إذا بقيتم مصرّين على الثورة على نظام جنرالات الجزائر!
لكن الحراكيين الجزائريين لا تنطلي عليهم كل المناورات، وألاعيب المخابرات، التي أسموها "مخابرات عبلة"، يسخرون من حقارتها، ومن بلادتها، ومن حروبها الوهمية، ضد الجار المغربي، في محاولة لصرف الأنظار عن الوضع الداخلي، الجزائريون أصبحوا، بحراكهم، أكثر بهاء وصفاء، يوصون بعضهم البعض بالسلمية ولا شيء غير السلمية، لن يكونوا سوريا ولا العراق ولا ليبيا، لن يكونوا إلا الجزائر الأبية، التي احتلها جنرالات الفساد...
نعود إلى المقال الرد على أطروحة الطالبتين الجزائريتين، الذي يُنسب إلى كاتبة سورية مزعومة تسمى "أحلام العظم"، وبعضهم ينسبه إلى ناشط سوري اسمه "سامح هنداوي"، ما يهم هو المقال، "اللي كيجيب التبوريشة" عند قراءته، وعند الانتهاء منه ندرك حجم الجرائم، التي يرتكبها سُرّاق الثورات، تجار الدين، من الإخوان المسلمين إلى حزب الله، ضد الشعوب...
في الرد على أطروحة تسوّل المرأة السوريّة اللاجئة في الجزائر
من أخلاقنا -نحن في سوريا- ألا نسمي المتسول متسولا، وإنما نسميه محتاجا…
أما في باقي أصقاع الأرض، فيسمونه متسولا أو شحادا…
شيء طبيعي ان يكون التشرد والغربة والفقر والنفي… كلها من مخرجات الحروب...
ولكن الشيء غير الطبيعي أن يعامل من هُجِّر من دياره معاملة الذليل وقد كان في بلده عزيزا كريما…
فهذه المرأة السّوريّة المسلمة المتسوّلة الّتي تتحدّث عنها رسالة الماجستير، كانت سيّدة في بلادها، ثمّ صارت متسوّلةً في بلادكم، كانت ربّةَ منزل لها أسرةٌ وجيران، وربّما تحمل شهادة الماجستير نفسها.. أو قد تكون معلّمةً أو مهندسةً أو كاتبة.. وهي الآن تكتب عنكم في الوقت الّذي تظنّون أنّكم تكتبون عنها رسائل للماجستير!
هذه المرأة المسلمة السّوريّة الّتي كانت تطبخ لأولادكم (أصدقاء ولدها) القادمين من الجزائر للدراسة في سوريّة بالمجّان، وكانت تعاملهم كأولادها…
هذه المرأة المسلمة السّوريّة الّتي كانت تدفع ولدَها ليدافع عن شرف الأمّة المهدور بأمثالكم…
هذه المرأة المسلمة السّوريّة التّي كانت تضمّ أزهار الياسمين الشّاميّ لتجعل منها طوقاً تهديه لأحبّتها، ولكنّها الآن بلا ياسمين وبلا أحبّة… هذه فلسفة لا يدرك معانيها إلّا أهل الشّام…
هذه المرأة المسلمة السّوريّة المتسولة من نسل أمراء بني أميّة ولكن جارت عليها الأيّام، فطرق أمثالُها أبوابَ أمثالكم…
وقد تكون هذه المرأة المسلمة المتسوّلة من نسل الأمير عبد القادر الجزائريّ، الّذي اختار أن تكون الشّام ودمشق منفاه الأخير، فاستقبله أهل الشّام بالتكبير والتّهليل، وأنزلوه منازلَ الأمراء الّتي تليق به، وأغدقوا عليه وعلى جماعته الأموال والأراضي والأوقاف، لأنّ العظماء يعرفون قدر بعضهم بعضاً… حتّى عندما مات، دفنوه إلى جوار قطبهم محي الدّين بن عربيّ، فأكرموه حيّاً وميتاً…
وقد تكون هذه المتسوّلة هي نفسها الّتي خاطت علم الجزائر بيديها لترفعه في المظاهرات خلال حرب التّحرير، ثم باعت ذهبَها وأرسلت المال لتشتروا به سلاحاً تدحرون به المحتلّ الفرنسيّ…
قد تكون متسوّلة نعم، ولكنّ الشّيء الأكثر أهمّيّة من التّوصيف ومن نيل شهادة الماجستير هو:
لماذا ألجأتموها إلى التّسوّل؟
أليس في الجزائر بيوت؟!
أليس في الجزائر طعام؟!
أليس في الجزائر ثياب؟!
أليس في الجزائر من يقرأ قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)؟!
أليس في فلسفتكم شيء اسمه "ضيف"؟
أليس في فلسفتكم شيء اسمه "إغاثة الملهوف"؟
أليس في فلسفتكم شيء اسمه "الإنسانيّة"؟
ألا يوجد على وجه الأرض شعب كالشعب في بلاد الشّام؟
تعلمون ماذا فعل السّوريّون بأشقائهم الهاربين من الحروب؟ من فلسطين والجزائر ولبنان والعراق؟
كنا نسميهم ضيوفاً وسكنوا في أفضل المناطق.. وفي دمشق أرقى حيٍّ يُسمّى حيّ المهاجرين.. لم نرضَ أن يسكنوا في المدارس والمخيّمات أو تحت مشمّع مطريّ ما بين دولتين… بل أسكناهم بيوتَنا، وأطعمناهم ممّا نأكل، وألبسناهم ممّا نلبس… حتّى عادوا إلى ديارهم من غير أن يفقدوا ذرّةً من كرامتهم…
ماذا نفعل والكرام والكرامة والأنفة تُوَرّث ولا تُكتسب؟!
يطلق المحلّلون على الثّورة في سوريّة اسم (الفاضحة)، لأنّها فضحت الجميع… فضحت الأشقّاء قبل الأعداء…
ومن أجل الإنصاف، هذا الكلام لا ينطبق على كلّ الشّعب الجزائريّ، لأنّ فيه من العظماء ما فيه... حكمت ظروف الحرب على أهل سوريا باللجوء إلى بلد عربيّ رغبة بالأمن والأمان، علّهم يجدون إخواناً لهم ناصرين كما فعل الأنصار مع المهاجرين… ولكنْ لو أنّهم ذهبوا إلى دولة أوروبّيّة مسيحيّة لكان أشرف لهم، وسيجدون العون والأمان كما وجده الصّحابة عند هجرتهم إلى الحبشة المسيحيّة، فعاشوا عند النّجاشيّ خمس عشرة سنة بأمن وأمان حتّى عادوا بعد فتح خيب...
دمشق شقيقةُ بغداد اللّدودة، ومصيدة ُبيروت، حسدُ القاهرة وحلمُ عمّان، ضميرُ مكّة، غيرةُ قرطبة، مقلةُ القدس، مغناجُ المدن وعكّازُ تاريخ لخليفة هرم…
إنّها دمشق
امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء، وعشرة ألقاب، مثوى ألفِ وليٍّ، ومدرسة عشرين نبيّاً، وفكرة خمسة عشر إلهٍ خرافيٍّ لحضارات شنقت نفسها على أبوابها.
إنّها دمشق الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله، شرود القصيدة ومصيدة الشّعراء.
دمَّر هولاكو بغداد وصار مسلماً في دمشق، حرّر صلاح الدّين القدس وطاب موتاً في دمشق..
لديها من العشّاق ما يكفي حبر العالم. من الأزرق ما يكفي لتغرق القارات الخمس.
لديها من المآذن ما يكفي ليتنفّس ملحدوها عبق الملائكة، ومن المداخن ما يكفي "لتشحير" وجه الكون، لديها من الصّبر ما يكفي لتنتشي بهزّة أرضيّة، ومن الأحذية و"الشّحاحيط" المعلّقة في سوق الحميديّة ما يكفي للاحتفال بجميع قادات العالم، لديها من الحبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع، ومن الشّرفات ما يكفي سكّان آسيا ليحتسوا قهوتَها ويدخّنوا سجائرَهم على مهل...
دمشق هي العاصمة الوحيدة في العالم الّتي لا تقبل القسمة على اثنين.. في أرقى أحيائها تسمع وجع "الطّبّالة"، وفي ظلمة "حجرها الأسود" يتسلّق كشّاشو الحمام كتف قاسيون ليصطادوا حمامة شاردة من "المهاجرين".
دمشق… لا تُقسّم إلى محورين، فليست كبيروت (غربيّة وشرقيّة)، ولا كما القاهرة (أهليّ وزملكاوي)، ولا كما باريس (ديغوليّ وفيشيّ)، ولا هي مثل لندن (شرق وغرب نهر التايمز)، ولا كمدن الخليج العربيّ (مواطنون ووافدون)، ولن تكون كعمّان (فدائيّون وأردنيّون)، ولا كبغداد (منطقة خضراء وأخرى بلون الدّم).
دمشق مكان واحد.. فإذا طرقت "باب توما" ستنفتح نافذة لك من "باب الجابية".. وإذا أقفل "باب مصلى" فلديك مفاتيح "باب السّريجة".. وإن أضعت طريق "الجامع الأمويّ" ستدلك عليه "كنيسة السّيّدة".
لا تتعب نفسك مع دمشق، فهي تسخر من كلّ من يدّعي أنّه يحميها ومن يهدّد بترويضها، فتودّ أن تعانقها أو تهرب منها، وتقول جملة واحدة للجميع: إنّها دمشق، إنّها دمشق، أيقونة المدائن…