الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عبد الإله بنكيران.. نفّار الجماعة الدعوية

 
عبد القادر الشاوي
 
 
أنا لا أعرف السيد عبد الإله بنكيران، ولا أريد التعرف عليه، وليس في برنامجي الإنساني أي اهتمام بذلك، وكم من معرفة، كما قالت العرب، جرّت ندما وأعقبت سدما. غير أنني رأيته، في تلك المرات القليلة التي ميّزتُ فيها شكله من لحيته المشذبة، التي لم يكن قد وخطها الشيب وترعرع بفعل النشاط الحكومي المثير للاستغراب وبحكم البوكلاج كذلك، وذلك في مقر القناة الثانية على مقربة من باب مدخلها الزجاجي غير الشفاف المطل على الشارع العريض الضاج المُغْبَر… أيام أن كان نور الدين الصايل مديرا لتلك القناة. لم يكن إلا السيد عبد الإله بنكيران مع (فخدة) من قبيلته، وأنا مصر على ذلك رغم الاشتباه الذي نازعني فيه، وها هو، كما أراه مشتبها فيه، يرفع عقيرته بالصراخ الحاد المعروف عن الدعاة حين يصرخون، ضد برنامج تلفزي (ويا ليته كان نظاما سياسيا قمعيا أو غير قمعي)، كنت قد قدمت فيه عرضا موجزا، وليس بالعرض الموجز حتى، بل إنه إشهارٌ لغلاف يحمل عنوانا لكتاب حول (المرأة في الإسلام). وبما أن الكتاب كان يباع في السوق، بعد أن رخصوا له على العادة في الترخيص لكل مباح في هذا البلد، فقد كان من المطروح، بل ولعله من الضروري، على (الجماعة الدعوية الملتحية) أن تخترع المنع اختراعا لكي تندد بالتقديم تنديدا. أنا صيدهم السّمين وبنادق الزوبعة المنصوبة ضد العلمانية والحداثة (وكم شُبِّهتْ لهم مضامينهما دائما) يمكن أن تأتي بالمآكل والمشارب في لحظات الخوف والارتباك، وبما قد يلذُّ من الأطاييب لأصحاب الكروش الضامرة (أيامها) والأفواه المفتوحة (دائما) على مجاهل السلطة والتحكم والتسلل عبر المسام الدينية إلى النفوس الأبية. ثم، والويل لي، أنني قدمت غلاف كتاب عن (المرأة في الإسلام)، أي عن (المرأة) التي يريدون ستر عورتها وطمس ملامحها وإخفاء حسها… وعن (الإسلام) الذي هم الهادون إلى تعاليمه بالعنف والحافظون لأسراره بمكر والعارفون، يا لطيف، بقدر إيمان الناس به سرا وعلانية. وإذن لا امرأة ولا إسلام. هكذا قال الحزب الإسلاموي قولة رجالهم المعسكرين أمام القناة: لقد جئنا لكي نكون أوصياء عليكم، فهذا عملنا ودورنا ونحن أشداء على حياتكم والحياة كلها، فامنعوا عنا يا أنتم هذا الإلحاد، واضربوا معاقل الشيوعية وأطيعوا الله والنظام والعدل والتنمية. والذي كنت أعرفه لا شك فيه أن الإسلامويين قالوا في القناة الثانية دوما، مرموزة أو واضحة لا فرق، قولا فاضحا كثيرا فيه الدَّعارة والفرنكوفونية والنخبوية والانحياز والعمالة والشيطنة. قناة غير إخوانية مارقة وملحدة وضد الإسلام والقرآن والسنة النبوية وجاهلية وتابعة لبني كلبون وهكذا، وبالطبع لم تكن القناة تابعة للعدالة والتنمية، ولا استطاع مَن استوزروه (أو استخلفوه) لذلك أن يضمها، في ما بعد، مع دفتر تحملاته الملعون إلى عضوية الحزب الملتحي.
 
الويل لي أنني قدمت غلاف كتاب عن (المرأة في الإسلام) أي عن (المرأة) التي يريدون ستر عورتها وطمس ملامحها وإخفاء حسها
 
نحن نعرف، والبعض منا باليقين التام وفينا من له من (الدلائل الخيراتية) من يستطيع تأكيد ذلك بالبراهين والحجج، أن بنكيران، في تلك الأيام التي رأيته فيها على مقربة من القناة الثانية، كان والله أعلم يستجدي نور الدين الصايل، كما استجدى، من قبل، مَن توسطوا له ولوج الشرعية. ثم إنه، من الناحية السياسية، كان يحبو حبوا، لا يعرف لنفسه مستقرا ولا اتجاها ولا لقوته وقوة عائلته السياسية حجما. يحبو فقط في محاولات متكررة أيضا لكي يقف على رجليه السياسيْن، وحين لا تطاوعانه يلقي بنفسه في الأحضان الشعبية الدستورية الدافئة، حتى إذا ما أحس بطلوع الحرارة معه هرع مترنحا مع ذبول رجليْه يكاد من دهشة أن يسقط في المدخل المحروس لأم الوزارات… التي كانت أيامها أيضا أبا لكثير من أفراد النخبة الراغبة في السعادة السياسية بدون نضال ديمقراطي. أريد القول أيضا إنه كان يحبو في تلك الأثناء حبوا صغيرا ذليلا، لم يتأثر بعد بما كان للتأثيرات في الحياة السياسية من أضرار جانبية انتعش معها التفريخ والتشريد والتكوين والمنع والإباحة وسوى ذلك من الظواهر المغربية الضامنة للاستبداد.
 
كان يحبو حبوا لكي يقف على رجليه السياسيْن قبل أن يهرع مترنحا مع ذبول رجليْه يكاد من دهشة أن يسقط في المدخل المحروس لأم الوزارات
 
ولم يكبر السيد بنكيران إلى ما قبل سن الرشد القانوني في المجالين الدعوي والسياسي إلا بعد وفاة الدكتور الخطيب، ولم يتقوّ عوده إلا بعد أن انفتحت الحياة السياسية على الماضي لأن الإصلاح كان يتطلب الإحياء، وافهموا من الإحياء ما تريدون فهمه، ولم ينشئ مساحة مخصوصة لسياسة اللعب على الحبال والتودد إلى الكبار مع تقنية الانحناء للسلطة ولجميع السلط كذلك، فضلا عن تعلم المناورات وتدبير الوقت السياسي وترشيد الخطاب الإيديولوجي وقهر الأصدقاء والخصوم وتنمية الرصيد الدعوي وعلم التوفير في كل شيء من المال إلى الموالاة… أريد القول إنه لم ينشئ له تلك المساحة المخصوصة إلا بفضل ما أتاحوه له من هوامش: قيل له اظهرْ بما أنت أهل للظهور به، أي اشحذْ عزيمتك الدينية فنحن نريدك قوة ضاربة في العمق عليهم وفيهم، دبِّر رأسك مع الأدوات إذ المطلوب أن يكون لك وجماعتك المؤمنة بالسلطة قدرة تنافسون بها أعداء الله وأعداءكم وأعداءنا نحن السلطة الحاكمة، انشروا خطابكم حيثما يمكن للنشر أن يصل إلى أعين وآذان وأفئدة المتخرصين علينا... أولئك الذين يملأون الجرائد والمجلات ويكتبون المعارضة الراديكالية على كل حائط مبكى… في ربوع المملكة. وهناك هوامش أخرى لعلها من تأويلاتهم، أعني من تأويلات أصحاب الحال، لحجم وجودهم، ضاغطين بمكر على قلوبنا، ومقلقين أدمغتنا، وفي الساحة السياسية يحفرون الحفر لكل خصم غير إسلاموي، مهما كان إيمانه بالله. هنا كان الأسلوب، أعني أسلوب أصحاب الحال، مختلفا، بحيث لم يحرضوهم على فعل ولم يلهموهم أي قول، بل ولا همسوا في أذن أخينا عبد الإله بنكيران زعيمهم تحديدا بأية معلومة تضيء عماه السياسي، أعني أنهم خططوا في الغرف المكيفة، كدت أقول المُحَشَّشة، للعملية رقم واحد، أي إشاعة صعودهم الديني والسياسي فينا بدون سبب، والترخيص لهم بالعمل المسمى بالديمقراطي وما هو بالديمقراطي، ثم للعملية رقم جوج، أي تخويف جميع الخصوم المحتملين للسلطة السياسية الطامعة في استغلال الجميع أو تحييد الجميع أو تطويع الجميع أو تليين الجميع أو القضاء المبرم على الجميع، ثم للعملية رقم ثلاثة أخطرها، أي إدماجهم، وبعض الأذكياء يقولون بتوجيه أمريكي، في المجال الشرعي الذي لم نكن قد فرحنا بعدُ بنسبية العمل الديمقراطي فيه. هنا كان الملتحون أصحاب حق مكفول من حيث المبدأ ولا مِراء في ذلك... ولكن الحق هذا كان أسبق من الناحية الإجرائية من جنوحهم للسلم وتنازلهم أيضا عن مبدأ التكفير الذي كفّروا به، طلبا للاستقواء الديني، جميع خصومهم… والتكفير كان، وهُم يا إلاهي ملة واحدة في ذلك، من طرف ألطفهم معشرا وأرقهم قلبا وأخفهم حدة وأقومهم عملا وأملسهم قنفدا… ثم لما أتوا بالصيغة الشورية التي ابتدعوها لتسفيه التصور الديمقراطي، بقوا في دياجير التفكير الغيبي لا يريدون الاقتراب من دنيانا الطبيعية التي تشع ضوءا وتغري بألوانها كل حي.
 
زعيم الحزب الإسلاموي اعتبر شباب 20 فبراير أغرارا ولذلك سفّه شعاراتهم وحقَّر نضالهم وأكل الثوم بأفواه نشطائهم المعتدلين منهم والمحسنين
 
أنا صاعد مع التاريخ الذي جاء بأخينا عبد الإله بنكيران إلى موقع السلطة بدون ربطة عنق، وبعد أن حقق، بإذن مسبق، مختلف أنواع الفوز في الانتخابات المزورة وغير المزورة. لقد جهر الملتحون، بقيادته التاريخية الدَّرِبَة، بأنهم الأُوَّلُ في كل شيء: في الدين لأنهم أكثر إيمانا من باقي المؤمنين، وفي السياسة لأنهم كما ادعوا أكثر انضباطا وتنظيما وهي تدين لهم بالكياسة، وفي الصراخ لأنهم مطمئنون إلى أن الأبواق التي في المساجد وتلك التي يخرج بها أشياعهم إلى الشوارع النضالية لن تخلف موعدا في الدعوة إلى الهداية والدعاء إلى السواء… كما رسموا طريقه ذات سرية للاستيلاء على قلوب المؤمنين والملحدين سواء. مكتفون هم بأنفسهم، وما فوزهم في الانتخابات وتحالفهم مع أخلاف (ليون سلطان) طيب الذكر لممارسة السلطة القاهرة إلا من أفضال الشورى عليهم. ويجب الاعتراف لزعيم الحزب الإسلاموي، في هذا السياق، أنه لم يركب، كما فعل غيره، على ظهور شباب 20 فبراير، ولكن فقط لأنه اعتبرهم أغرارا، ولذلك سفّه شعاراتهم وحقَّر نضالهم وأكل الثوم بأفواه نشطائهم المعتدلين منهم والمحسنين... وهو الذي كان يعلم علم السلطة أن الله جاء بالنصر المبين على أكتاف البسطاء المُغلَّطِين الذين آمنوا، في غفلة منهم، بأن الرسالة الإسلامية لم ولن تتأخر عن موعدها أبدا في الدعوة المجنونة إلى السلطة. ولهذا يمكن اعتبار السيد عبد الإله بنكيران المغربي الوحيد الذي آمن إيمانا تركيا أعمى بأن كمال أتاتورك مات وانتهى أمره يوم أن استحوذ أشباهه في العدل والتنمية على الحياة التركية. والذي فعله مُحْتديا الحدو التركي المضمون أنه استنسخ الفصل الأول من كتاب (الجبر الإسلامي) الحاوي لجميع مقتضيات التحكم، فقام بتوزيع المهام التعبوية على عينة من قومه، طالبا منهم التدرّب على السِّباب لمواجهة جميع احتمالات النصر. وما من أحد منهم فكر في الهزيمة لأنهم اعتقدوا أن التدين الشعبي هو أسلوبهم في المراوغة وسبيلهم إلى الانتصار. لقد رأوا في الشعب دينا فقط لا بطنا أو رأسا. هكذا جاء البلوكاج المُخَنَّش والمُلَشْكر والمُعَنْصر بعد خمس سنوات مُخَرْبَقة زاد فيها السيد عبد الإله بنكيران، الذي أصبح رئيسا للحكومة بسبب مقتضيات دستورية صيغت على استعجال، زيادات مهمة في كل شيء: في الأعمار لأن البنك الدولي أرغمه على ذلك، وفي (البوطة) حسب الألوان لأنها أصبحت من أدوات الزينة في كثير من البيوت، وفي مختلف الأسعار، وتعلمون لاشك كيف تَسيَّف البصل وتعنترت الطماطم، كما لو أن تلك الأسعار كانت في حاجة ماسة إلى السعار الإسلاموي الملتحي. وزاد في الكلام أيضا لأنه صار قَوَّالا لم يترك مجالا أو صنفا أو نوعا إلا وزاد فيه عن الحد المقبول والمهضوم من الكلام. وأنا أرجح هنا، بكل ذاتية، أنه كان في كثير من المرات سفيها، لقّبه البعض، على إثرها، بالظاهرة الصوتية عن جهل. وهل للظاهرة أن تكون مُنكرة حتى تبدو لبعض المدَّاحين مفخرة؟. قال في المرأة، مثلا، وهو يحسب عن جهل أنه يمدح الثريات، ما لم يقله على امتداد خمسين سنة أي وزير أول في هذا المغرب عن حرائرنا. كلام غليظ فيه السفه والتحقير... ولن تجد الْيَوْمَ بين النساء، محجبات وغير محجبات، من يذكر له قولا كريما قد ينم عن حِلْم... ويبدو لي هنا، كما فِي خرجات أخرى، أنه استقوى بالدستور الحالي متناسيا تنزيل قوانينه التنظيمية كأنما هو له وحدَه من المبررات التي تجيز ارتكاب أنواع منوعة من المضحكات الصفراء المصحوبة بتأوهات وصرخات مزعجة لا تصدر إلا عن البلهاء وهو ليس منهم بطبيعة الحال. أنا شخصيا، وقد كنت أحمد له كثيرا من الصفات الطيبات جعلني في أيام قليلة من أشد أصدقائه كرها لأسلوبه الفج في تنظيم الخصومات وإثارة النعرات والتفنن، بعد هذا وذاك، في الإتيان بالنكات الهابطة والأقوال السياسية البائتة وما فيهما معا من روائح غير طيبة وغيبيات غير مدركة. ومن حقي أن أقول إن وجودي في الخارج لسنوات أنقذني من التعذيب الحكومي الذي تفنن السيد عبد الإله في تنزيله من علياء السياسة إلى مهابط الكراهية.
 
قال في المرأة وهو يحسب عن جهل أنه يمدح الثريات ما لم يقله أي وزير أول في هذا المغرب عن حرائرنا من كلام غليظ فيه السفه والتحقير
 
لا يهمني بالطبع إن كانت الأغلبية النسبية المسجلة في اللوائح الانتخابية قد صوتت عليه، لأنني أعلم أن الناس، سواء علموا شيئا أم غابت عنهم أشياء، لا يُوَلون عليهم، وأحيانا بكثير من السادية التلقائية، إلا من كان قادرا منهم على إسماعهم الشعبوية المقيتة بتلاوة (ورش).
لقد آن أوان السياسة الجادة، ومن حقنا على زعيم الأغلبية أن نطلب منه أغنية مختلفة على إيقاعٍ طَرَبي رَنَّان وتكون بصوتِ مطربٍ ديمقراطي له غُنَّة محببة. ولنا بالطبع واسع (النظر) في الاستماع.