ربَّما انزوى إلى الظل في زمن التهافت وسقوط القيم، لكنه كان الفارس الذي خاض كل معارك النضال الديمقراطي بشموخ القائد، الذي لا يتراجع ولا يخنع حتى حين يظل وحيدا في ميادين منازلة الاستبداد، عرفَتْه سنواتُ الرصاص في الصفوف الأمامية لليسار المغربي، كان أحد رجالات أحداث مولاي بوعزة (انتفاضة مارس 1973) إلى جانب الشهيد محمود بنونة والفلاحين المغاورين في جبال الأطلس، اختطف وعُذِّب وخبر كل المعتقلات السرية، وحينما فتحت فجوة صغيرة في جدار القمع بعد العفو الملكي عَلى عدد من المعتقلين السياسين الذين بقوا أحياء من الانتفاضة المسلحة للسبعينيات من القرن الماضي، خرج من ظلمة الزنازين الرهيبة أكثر إصرارا وقوة، واعتقل ثم اعتقل وعرفته كل السجون.
في لحظة الانفراج السياسي تلك، وهو مطرود من وظيفته في قطاع الفلاحة بالفقيه بن صالح، انضم بحماس إلى مبادرة تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ولعلّه كان الأكثر حيوية بين رفاقه، فقد جال المغرب يعبئ الشباب ويستنهض القوى ويذكي الهمم، وتحمل المسؤولية في المكتب الوطني الأول للجمعية.
وفِي ذات الوقت لَمْ يتخلَّ عن اصطفافه إلى جانب الفلاحين والعمال الزراعيين، فزرع شتائل النقابة الوطنية للفلاحة في كل مكان، ومن موقعه القيادي في المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل سخر خبرته ورصيده النضالي في ترصيص صفوف العمال وإعداد استراتيجية المعارك الطبقية الكبرى، والذين احتكوا به في تلك الفترة يعرفون أنه كان الدينامو الحي لكدش النقابة الناشئة وقتئذ، وكان طبيعيا أن يُستهدف من طرف آلة القمع السلطوية، فاعتقل إثر الإضراب الوطني في 20 يونيو 1981، وظل بعد إطلاق سراحه محاصرا لكنه واصل نضاله بلا هوادة تحت حراب السلطة.
وحتى في سنوات "الرخاء السياسي" في خضم ما عرف بالمسلسل الديمقراطي بعد المسيرة الخضراء، سيتم اختطافه وتعذيبه بشكل فظيع والاحتفاظ به في المخافر السرية خارج نطاق القضاء تحت ذريعة أنه لَمْ يتخلَّ عن اختياره الثوري ونهج نضاله الراديكالي، وستتكرر هذه الاعتقالات مرات أخرى بمبررات شتى لتكسير إرادته النضالية.
اضطر وهو مطرود من وظيفته ومطارد باستمرار في الفقيه بن صالح أن ينتقل إلى مدينة أكادير ليشتغل في إحدى الضيعات الخاصة، وتمكن بعد طول معاناة أن يؤسس مقاولته الفلاحية، كنتُ أزوره مع بعض الرفاق بين الفينة والأخرى، وفِي لحظات الصفاء الروحي.
كان يتوقف عن مجادلتنا في أحوال اليسار والأحزاب وربيع السياسة وخريفها وزمهريرها ومآلات رجالها، يستغرقه الصمت ويظل منخطف الذهن يحدق فينا مليا ويتفحصنا جيدا وفِي عيونه تبدو خريطة الوطن ومسارات طويلة ومعقدة من النضال وصور للشهداء رفاق الطريق الذين سقطوا وهم يحاولون أن يمسكوا بحلم الحرية.