عملتان رديئتان

 

 

 

قالت حنان عشراوي: "جميع دول العالم والأمم المتحدة لا تعترف للمغرب بالسيادة على الصحراء الغربية"؛ ولو أن هذا الحُكم غير صحيح، مع صحته نسبيا، فقد كنت أتمنى أن تنطلق الدكتورة في حديثها عن الموضوع من منطلق الحق وليس الأمم المتحدة أو أغلب الدول أو كلها، لأن الفلسطيني(ة) هو الوحيد في العالم الذي لا يجب عليه أن يتحجج بالأمم المتحدة وبأغلبية الدول وما فعلته من انتهاكات ودسائس في حق الشعب الفلسطيني، والذي كان قبل تأسيس هذه المنظمة الدولية هو أغلبية السكان، وفي عهدها وتحت رعايتها تدحرج الحق الفلسطيني من التقسيم إلى قرارات متتابعة تحشر الشعب الفلسطيني في بقعة لا تتعدى الربع أو أقل، وحتى هذا الربع في كف عفريت.

 

لما صاحت أسماء فلسطينية تدعي الاشتراكية على إثر حرب حزيران بأن البورجوازية الصغيرة العربية شاخت وخانت ويجب الإطاحة بها، وكانت هي أيضا بورجوازية صغيرة، كنت أعتبر هذه الصيحة يسارية طفولية، وفعلا ألحقت ضررا بليغا ليس فقط بالقضية الفلسطينية بل أيضا بقضايا الصراع الطبقي في البلدان العربية.

 

وفي المغرب الذي لم تكن فيه البورجوازية الصغيرة في الحُكم أخذ الخطاب والفعل طريق الإطاحة بالأحزاب الإصلاحية لبناء الحزب الثوري، وأحيانا تُنعت تلك الأحزاب بالبورجوازية، وما يزال لحد الآن مثل ذلك الخطاب سارياً لا يفارق مخيلة اليسارية الطفولية في المغرب، وذلك رغم مرور أكثر من نصف قرن، لكن لما قرأت ما نطقت به حنان عشراوي، وكنت قد تابعت حماستها المفرطة للتحضير لمؤتمر مدريد والسقطات التي وقعت فيها مع شلة من المتحمسين، أدركتُ أن أولئك الفلسطينيين الذين دعوا إلى إسقاط البورجوازية الصغيرة كان لديهم الحق في ذلك، لكن فقط بالنسبة لنضال الشعب الفلسطيني، وما كان عليهم أن يعمموا صيحتهم، ولينشئوا "الأنوية الثورية" حتى في بلدان ما تزال بدوية في ذلك التاريخ بحجة إسقاط البورجوازية الصغيرة، في حين كان المطلوب تأييد حتى البورجوازية المتوسطة في تلك البلدان إن وجدت وليس إسقاط البورجوازية الصغيرة.

 

فعلا البورجوازية الفلسطينية، ومن أعلامها حنان عشراوي، ألحقت ضررا بليغا بالقضية الفلسطينية لما ساهمت في التخلي عن اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، وكان هذا شرطا من شروط إسرائيل لحضور مؤتمر مدريد، وكانت الأمم المتحدة قد اتخذت قرارا باعتبارها شكلا من أشكال العنصرية، وذلك في أواسط السبعينيات، وفي بداية التسعينيات ألغت القرار السابق، في مسرحية مفضوحة غابت فيها كل الدول العربية عن التصويت، وكانت البورجوازية الفلسطينية فرحة بالمفاوضات السرية التي كانت تجريها في النرويج مع الإسرائيليين، والتي أفضت إلى المزيد من التنازلات الكبيرة بما فيها نقل القضايا الكبيرة إلى التفاوض، وجعل منطق السلطة هو الهدف ولو على شبر من الأرض بدل منطق الثورة الذي أقبر منظمة التحرير وثبّت السلطة على حسابها، وما يزال نفس المنطق ساريا لحد الآن، وقد تنبه المرحوم ياسر عرفات إلى ما تجره إليه الدول العربية ومعها حفنة من البورجوازية الفلسطينية من دفن للقضية وقتلها، فحاول الجمع بين الثورة والسلطة، وهذا ما أدى إلى اغتياله بأيادي فلسطينية وتخطيط إسرائيلي.

 

إن الفضل كل الفضل في إظهار الحق الفلسطيني لشعوب العالم كلها واحتضانها له كان هو انتفاضة الأطفال وما قدموه من تضحيات، وهو أيضا نضال الشعوب العربية قاطبة، بعد أن كانت القضية حبيسة خطاب هدام لا يقنع أحدا، لأنه كان يقابل العنصرية بعنصرية مضادة، وخاصة عندما دفعت بعض الدول العربية وحتى المخابرات الصهيونية إلى إنشاء الحركات الإسلامية الفلسطينية، وكان ذلك القشة التي قصمت ظهر البعير، وأبعدت الاحتضان العارم الذي كانت تتمتع به القضية عن نفوس الرأي العام الدولي والعربي، وبرهنت البورجوازية الفلسطينية، سواء العلمانية أو رديفتها الإسلامية أنهما عملتين رديئتين في النضال الفلسطيني.

 

رغم كل هذا، وغيره كثير لا يتسع المجال لتسجيله، سيبقى الشعب المغربي يحمل همّ الشعب الفلسطيني وليس هم حفنة من البورجوازية الفلسطينية أوصلت القضية الفلسطينية إلى أسفل درك، لا هي فاوضت كما يجب للدفع بمفاوضات أوسلو رغم كل ما يعتريها من نواقص، ولا هي شمّرت عن سواعدها لتبدأ الصراع على أسس جديدة بعد أن اتضح أن أوسلو سقط وحاد عما كان قد رُسم له، وبقيت تنتظر الأمم المتحدة كالمهدي المنتظر الذي سيخلصها من الوضع المأزوم، مع العلم أن الأمم المتحدة ليست إلا وسيلة من الوسائل التي تتحرك إيجابا بالنضال أو تتحرك سلبا بالكف عن النضال.

 

لقد قلنا مرارا للفلسطينيين الذين نلتقيهم بأن حملكم ثقيل جدا وأنتم في حاجة إلى دعم كل الشعوب وحتى كل الحكومات التي تستطيعون إقناعها بعدالة قضيتكم، ولا حاجة لكم بالدخول في صراعات دول أخرى أو شعوب أخرى والجميع سيتفهم موقفكم، وإن تدخلتم في الصراعات، فالجميع سيطالبكم بأن تكونوا معه ضد الآخر، وفعلا ما أن اقتنعنا أن القيادة الفلسطينية تعبت من التدخل مع طرف عربي ضد الطرف الآخر حتى تفاجأنا بمثل هذا التصريح الذي يناصر الدولة البترولية في غرب أفريقيا، على حساب كفاح شعب ناضل من أجل وحدته الترابية منذ سنة 1884، تاريخ احتلال الصحراء المغربية.