الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الفقيد حسن السوسي صورة مأخوذة من فيديو على قناته في اليوتوب باسم "قناتي"

سيدي حسن السوسي كما عرفته

 
 
عبد السلام الرجواني
 
 
هو واحد من رفاق ورفيقات كسروا عزلتي وآنسوا وحدتي حينما حللت بفاس طالبا بقسم الفلسفة قادما إليها من سوس العالمة. كان ذلك سنة 1974-1975، أي سنتين بعد حضر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وشلّ الحركة الطلابية المغربية إثر اعتقال قيادة أوطم والتعيين القسري لجل أطرها بمناطق نائية.
 
كان الجمود سيد الموقف، وكانت محاولات النهوض لا تتعدى حلقات ضيقة وسرية بين بعض مناضلي اليسار الماركسي اللينيني، وبعض مناضلي الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. وشاءت الصدف أن يضم قسم السنة أولى فلسفة كوكبة من الطالبات والطلاب الذين شكلوا، في ما بعد، طليعة النضال الطلابي بظهر مهراز، ينتمون إلى مختلف الفصائل آنذاك، والتي كانت تشكل امتدادات للاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة 23 مارس ومنظمة إلى الأمام. مما جعل من ذلك القسم فضاء لنقاشات فكرية وسياسية لا تنتهي...
 
وكان لأساتذة أجلاء، من قبيل الدكتور محمد سبيلا والأستاذ جمال الدين العلوي ومحمد المرسلي، فضل كبير على مجموعتنا تلك من حيث التكوين الفلسفي العميق والتأطير الفكري الملتزم...
 
أول صورة لعبد السلام الرجواني مع حسن السوسي بفاس 1976
في أوج المعركة من اجل رفع الحظر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب
 
أول خيوط علاقتي بالسي حسن في ظهر المهراز
 
ضمن كوكبة من الطلبة النجباء والمتشبعين بقيم النضال تعرفت على حسن السوسي، طالبا جديا، مواظبا، حريصا على الجلوس في الصف الأمامي، تزين هامته عمامة صفراء تشهد على نسبه الصحراوي الأصيل. لم يكن من اليسير ولوج عالم حسن الخاص، ولذلك لم تتوطد علاقتي بابن واحة "ألنيف" إلا في السنة الثانية، التي شهدت بدايات حركة طلابية ناهضة بقلعة ظهر المهراز، في خضم أحداث وطنية عارمة أتاحت هامشا ديمقراطيا، تمثلت أساسا في المسيرة الخضراء، وفي المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي، وهما الحدثان التاريخيان اللذان مهدا للمسلسل الديمقراطي، وكانا، إلى جانب معركة رفع الحظْر عن المنظمة الطلابية العتيدة "أوطم"، من الموضوعات الرئيسية لنقاش الحلقات.
 
كان حسن دقيقا في ملاحظاته، عميقا في تحليلاته، صارما في مواقفه، واضحا في آرائه... وكان، وهو في الواجهة الجماهيرية الحبلى بالمخاطر، مثال القائد الجريء والمحاور الودود مع ممثلي الفصائل، ومثال المسؤول الذي يقدر الأشياء حق قدرها بعيدا عن كل تهور غير محسوب، ولكن أيضا دون وجل أو تردد
 
في هذه الأجواء، نسجت أول خيوط علاقتي بالسي حسن، الذي كان دائم الحضور في الحلقات، في الوقت نفسه كنت عند العتبة الأولى لانضمامي إلى منظمة 23 مارس. لم أكن على علم بالانتماء السياسي لسيدي حسن، الذي كان منفتحا على كل الفصائل وتربطه علاقات متينة مع قياديين محليين لمنظمة إلى الإمام، كما كانت له علاقات مع مسؤولين محليين بمنظمة 23 مارس. شيئا فشيئا توطدت علاقتي الشخصية بالسي حسن إلى جانب الرفيق عبد السلام حيمر، والرفيقة صوين التالية، وقويدر عوكري، فضلا عن عبد الوهاب الصافي، وآخرين: محمد بنطاهر، أحمد قاشّة، أحمد شراك، بلكراد، عبد الرفيق بوركي، الغازي...
 
وكم مرة استغرق النقاش مع السي حسن لساعات حول الموقف من الوحدة الوطنية والثورة الوطنية الديمقراطية والخلافات الإيديولوجية والسياسية بين منظمة 23 مارس ومنظمة إلى الإمام... كان حسن دقيقا في ملاحظاته، عميقا في تحليلاته، صارما في مواقفه، واضحا في آرائه... هكذا وجدنا أنفسنا ضمن خلية واحدة من خلايا 23 مارس بقرار من مسؤولي المنظمة. ومما زاد من قوة علاقتنا تحملنا معا مسؤولية العمل الجماهيري بجامعة فاس بعد اعتقال الرفاق الذين سبقونا إلى ذلك، ومنهم محسن عيوش وعبد الوهاب الصافي وأحمد شراك وأحمد بلعزيري رحمه الله. وقد كان حسن، وهو في الواجهة الجماهيرية الحبلى بالمخاطر، مثال القائد الجريء والمحاور الودود مع ممثلي الفصائل، ومثال المسؤول الذي يقدر الأشياء حق قدرها بعيدا عن كل تهور غير محسوب، ولكن أيضا دون وجل أو تردد.
 
أبان الرجل الفيلسوف عن مهارة في الخطابة دون صخب، وقدرة على الحجاج والإقناع، وصلابة في الدفاع عن مواقف فصيل الطلبة الديمقراطيين، وعن حنكة في تدبير الخلافات داخل الحركة الطلابية من منطلق المبادئ المؤسسة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب: الجماهيرية والتقدمية والديمقراطية والاستقلالية
 
واعتبارا لطبيعة العمل السري، كان علينا أن نتجنب مخالطة باقي الرفاق في العلن، مما فرض علينا أن نكتفي بمرافقة أحدنا للآخر، وأن نحدّ، في الوقت ذاته، من حركتنا خارج الحرم الجامعي، فصرنا مثل توأمين في السر والعلن، نعبر سويا ساحة "هوشي منه"، وندلف المطعم الجامعي معا، ونتجول خلسة بشوارع فاس يدا في يد. أينما كنا ومتى كان يسكننا سؤال التغيير الثوري: كيف؟ ولماذا؟ ومن هي قوى الثورة؟ ومن هم أعداؤها؟ وماذا قال عنها لينين وتروتسكي وماركس؟ سؤال الحركة الطلابية المغربية والنضال من أجل رفع الحظْر عن (أ.و.ط.م) كان دوما حاضرا فينا وبيننا...
 
الى جانب حسن ورفاق ورفيقات، بنينا خلايا 23 مارس بفاس، وأسهمنا في إعادة بناء "أوطم"، بتحالف مع الطلبة الاتحاديين وطلبة التقدم والاشتراكية...
 
فضلا عن الفعل النضالي المتواصل، كان السي حسن عاشقا حقيقيا للفلسفة وقارئا نهما لكبار الفلاسفة على اختلاف اتجاهاتهم من طاليس إلى ألتوسير، ومن أفلاطون إلى ميرلو بونتي، ومن ديكارت إلى هيجل وماركس... اطلع على كل الاتجاهات الفلسفية التي كان يتحدث عنها حديث العارف بتفاصيلها وأبعادها، حديثا نقديا عميقا عمق معرفته بالاتجاهات الفكرية العربية وأعلامها من طراز الطيب تيزيني وحسين مروة وإلياس مرقص وبوعلي ياسين والمهدي عامل وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. لذا اختار حسن شعبة الفلسفة، وكان البحث الذي أنجزه للحصول على الإجازة حول مفهوم الإيديولوجيا عند لويس ألتوسير.
 
بعد حصولنا على الإجازة سنة 1977-1978، غادرت فاس والحياة الطلابية، واختار حسن عن طواعية أن يواصل دراسته العليا بكلية الآداب، وأن يقود فصيل الطلبة الديمقراطيين نحو المؤتمر الوطني 16 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لم تنقطع صلتي بالرجل الذي كان يزورني كلما حل بالرباط رفقة محسن، وأحيانا رفقة مصطفى بوعزيز والسي أحمد بنعزوز رحمه الله، وذلك في غمرة التحضير للمؤتمر السادس عشر للمنظمة الطلابية، إذ كان حسن السوسي ومحسن عيوش وطالع السعود الأطلسي أعضاء لجنة التنسيق بين الفصائل الوطنية الديمقراطية.
 
سنة في الرباط زمن التحضير للمؤتمر 16 لأوطم
 
دام تواجدنا، أنا وحسن، بالرباط سنة واحدة، كانت حافلة بالعطاء النضالي الصادق، والمحبة الطافحة بالأمل. نذر حسن وقته وتفكيره لمهمة الإعداد للمؤتمر الوطني السادس عشر بعد رفع الحظر، ضمن لجنة التنسيق الوطنية، التي كان من بين أعضائها عيوش والأطلسي، وإدريس لشكر والجداوي والعلوي وبنصر، وهي اللجنة التي يعود لها الفضل في إدارة الحوار بين مكونات الحركة الطلابية وتحقيق التوافق حول برنامج مرحلي، بدعم من بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني 15، أمثال أحلافي وأمغار والشافعي من خارج السجن، وعبد الواحد بلكبير نائب رئيس المنظمة والمعتقل آنذاك بسجن مكناس.
 
صحبة هؤلاء، طافَ حسن مختلف المؤسسات الجامعية المغربية والمعاهد والمدارس العليا، وساهم في تأطير عشرات التجمعات الحاشدة في إطار التعبئة للمؤتمر المقبل. وأبان الرجل الفيلسوف عن مهارة في الخطابة دون صخب، وقدرة على الحجاج والإقناع، وصلابة في الدفاع عن مواقف فصيل الطلبة الديمقراطيين، كما أبان، في الوقت نفسه، عن حنكة في تدبير الخلافات داخل الحركة الطلابية من منطلق المبادئ المؤسسة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب: الجماهيرية والتقدمية والديمقراطية والاستقلالية. وهي المبادئ التي تمسك بها حسن عبر كل تجربته في قيادة الحركة الطلابية المغربية في فترة إعادة البناء رغم كل الصعوبات. دافع ضد الهيمنة وضد العدمية والانتهازية اليمينية واليسراوية، وقاوم بحجة المنطق والتاريخ الاتجاه اللاوطني داخل "أوطم"، وعمل ما بوسعه، بتوجيه من قيادة 23 مارس، على ترسيخ الوحدة النضالية بين الفصائل الوطنية الديمقراطية، وباختصار كان له دور متميز في خلق شروط انعقاد المؤتمر الوطني 16.
 
بعد كل تجمع جماهيري، وبعد كل اجتماع تنسيقي، يعود حسن ومعه الرفيق محسن، إلى القيادة المحلية لمنظمة 23 مارس، للإخبار والتشاور وبلورة المواقف التي يجب اتخاذها إزاء تطورات الساحة الطلابية. وكان حسن دقيقا في سرد المعطيات وتحليل المواقف، وواقعيا في تقدير موازين القوى، ومنصتا جيدا لآراء الرفاق. في لقاءاتنا تلك بشقة حسان، كانت تستمر لقاءاتنا طويلا، وقد أذهلني حسن بصبره وقدرته على التحمل وإصراره على إكمال جدول الأعمال.
 
بين الفينة والأخرى، كنت "أسرق" حسن من لجة "أوطم" لنرتاد معا، أو صحبة غسان، حانة "ليل نهار"، لننعم بلحظات استرخاء قلما يجود زماننا بها... ورغم كل محاولات ممازحة حسن، كان هو حريصا على ألا يتعدى الحدود... إن ضحك، ضحك باقتصاد، وإن حكى نكتة، اختار النكتة الدالة، وإن... وإن... فعل ذلك بمقدار.
 
في هذه الأجواء، عشنا تجربة الرباط رفقة محسن والأطلسي وبنعزوز وآخرين... وفيها أيضا تعرّف حسن على حبيبتي وزوجتي فاطمة، التي ارتاحت للرجل، وصارا صديقين عزيزين. والحق يقال إن حسن كان محبوبا عند كل الرفيقات، الصوين التالية وحورية شريف حوات ونزيهة المحجوبي وغيرهن، لدماثة أخلاقه وطيبوبته وتلقائيته... وفي هذه الأجواء، تم التحضير للمؤتمر السادس عشر، الذي كان حسن عضوا بلجنته التنفيذية. للأسف غادرت الرباط ذاك الصيف إلى سوس، حيث عُينت أستاذا للفلسفة، ولم أحظ بحضور المؤتمر...
 
انتخابات مندوبي المؤتمر 16 لم تعكس
دور الطلبة الديمقراطيين في إحياء "أوطم"
 
ساهمت تجربة العمل الوحدوي بين فصائل الحركة الطلابية بمناسبة المؤتمر 16 للاتحاد الوطني لطلبة المغرب في نسج علاقات جديدة مع الأحزاب الوطنية الديمقراطية، وأساسا مع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قوامها التنسيق والحوار والتقدير المتبادل. ومما لا ريب فيه أن ذاك العمل المشترك طوّر من وعينا الوحدوي والديمقراطي، وغدت أطروحاتنا في 23 مارس أقرب إلى توجهات الاتحاد الاشتراكي، سواء تعلق الأمر بالقضية الوطنية أو بالمسالة الديمقراطية، وتعمقت بالمقابل خلافاتنا مع منظمة إلى الإمام وتعبيراتها الطلابية حول الموضوعين معا. وأكاد أجزم أن تلك التجربة مهّدت إلى التفكير في الشرعية وجعلتنا عمليا في وضع "المسموح به" (toléré) كما جاء في وثيقة الشرعية.
 
اعتبرنا أن الأهم هو التفاوض مع مكونات الحركة الطلابية، وخاصة الطلبة الاتحاديين، لضمان تمثيلية محترمة داخل المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. وهي المهمة التي أنجزها رفاقنا على أحسن وجه. هكذا انغمس حسن في لجة الحركة الطلابية المتجددة وأعرض عما سواها من الدنيا والآخرة
 
لم تعكس انتخابات مناديب المؤتمر 16 الإسهام الكبير للطلبة الديمقراطيين في إحياء "أوطم"، إذ جاءت النتائج مخيبة للانتظارات، خاصة بجامعة فاس. وقد تلقى حسن تلك النتائج بأسى وحسرة، لكن دون يأس أو تبخيس. أرجعنا ذلك إلى سببين، أولهما وجود أهم رفاقنا بالقطاع الطلابي بحامعة محمد الخامس بالسجون (لطيفة اجبابدي، عبد الواحد بلكبير، عبد الجليل طليمات، نضيف، بنيوب، وآخرون)، واضطرار آخرين إلى الاختفاء بسبب ملاحقتهم من طرف المخابرات، وثانيهما ضعف خبرتنا في الانتخابات مقارنة مع فصائل أخرى.
 
كان حسن يعتبر، رغم ذلك، أن المهمة المركزية هي أن يستعيد "أوطم" هياكله وتسترجع الحركة الطلابية روحها وديناميتها الكفاحية، وبالتالي إسهامها في الحياة السياسية الوطنية إلى جانب القوى الديمقراطية التقدمية. اعتبرنا إذن أن الأهم هو التفاوض مع مكونات الحركة الطلابية، وخاصة الطلبة الاتحاديين، لضمان تمثيلية محترمة داخل المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. وهي المهمة التي أنجزها رفاقنا على أحسن وجه. هكذا انغمس حسن في لجة الحركة الطلابية المتجددة وأعرض عما سواها من الدنيا والآخرة.
 
زمن "المحرر" و"أنوال" و"الشباب الديمقراطي" و"الأواكس"
 
بعيدا عن الرباط التي غادرتها وفي قلبي غصة فراق الرفاق، بقي للمدينة صوت عميق في نفسي. أينما حللت، يناديني ذاك الصوت للعودة إلى ديارها، ومداراتها الثقافية والسياسية... مرة أخرى لم أترك الفرصة تفلت من يدي. اجتزت مباراة ولوج مركز تكوين أساتذة علوم التربية بنجاح، فعدت إلى العاصمة في أيلول، كان فعلا أسودَ. عدت في مناخ سياسي متوتر يخيم عليه سجن الزعيم الاتحادي الكبير عبد الرحيم بوعبيد، ورفيقيه السي محمد اليازغي والسي محمد الحبابي، ونفْيهم جميعا إلى ميسور، بعد أن أصدر المكتب السياسي للاتحاد بيانا يرفض فيه قبول الدولة المغربية بمبدأ تنظيم استفتاء حول الصحراء المغربية، في قمة نيروبي، وتداعيات انتفاضة يونيو 1981 بالدارالبيضاء، التي سُفكت بشوارعها دماء مغربية غزيرة وعزيزة ذاك الصيف الحزين، ومنع جريدة "المحرر" الغراء.
 
من بين الأوراش التي كنا نشتغل عليها مجلة "الشباب الديمقراطي"، التي كان محسن مديرها المسؤول، وكان حسن السوسي ومحمد الهجابي وشوقي بنيوب من بين هيأة التحرير. كنا نتعاون جميعا على إعداد موادها، وتحرير كلمة العدد، التي تعتبر توجيها سياسيا عاما لفصيل الطلبة الديمقراطيين داخل الجامعة
 
أقمت بيعقوب المنصور، قريبا من سكن الرفيقين الصوين وعبد الوهاب، وبجوار الرفيقين عبد اللطيف شنطيط والتهامي، وعلى مسافة قصيرة من ثانوية "حليمة السعيدية"، حيث عُينت فاطمة.
 
كما كان الحال في حسان، أصبحت دارنا بيعقوب المنصور وجهة كثير من الرفاق والرفيقات، المقيمين بالرباط والقادمين من فاس. كانت فاطمة تستقبل الجميع بحفاوة لا تضمر، فنستغرق في نقاشات لا تنتهي. حتى إن جن الليل، يذهب من يذهب، وينام ببيتنا من ينام. نقتسم الرغيف واللحاف، مثلما نقتسم الحلم والأمل.
 
من بين الأوراش التي كنا نشتغل عليها مجلة "الشباب الديمقراطي"، التي كان محسن مديرها المسؤول، وكان حسن السوسي ومحمد الهجابي وشوقي بنيوب من بين هيأة التحرير. كانت المجلة لسان الطلبة الديمقراطيين، ومنبرا مفتوحا على قضايا الشباب من تعليم وشغل وفنون وثقافة، نتعاون جميعا على إعداد موادها، وتحرير كلمة العدد، التي تعتبر توجيها سياسيا عاما لفصيل الطلبة الديمقراطيين داخل الجامعة. بها كنا فرحين فرحتنا بأختها الكبرى، "أنوال"، منذ عامين.
 
احتجاجا على نشر "الأواكس" بالجامعة المغربية، قررت قيادة "أوطم" شن إضراب عام، أعلن عنه في ندوة صحفية حضرها مراسلو صحف دولية، من أبرزهم رونالد ديلكور عن "لوموند" الفرنسية. كان من بين مؤطري الندوة الرفاق محسن عيوش وحسن السوسي ومسعود بوعيش.
 
 ليلة ذلك اليوم (02 دجنبر 1981)، اعتُقل عيوش، وبعده بيومين اعتقل السوسي، ثم بوعيش. في ذلك اليوم أوصيت حسن ألا يذهب إلى المطبعة كي لا يُعتقل قال لي مبتسما، وهو يحمل مواد العدد الجديد لمجلة "الشباب الديمقراطي": "لابد من إخراج العدد"، أجبته مازحا "بنلتقي في لعلو". ابتسم مرة أخرى وانصرف
 
ليلة ذلك اليوم (02 دجنبر 1981)، اعتقل محسن، وبعده بيومين اعتقل السوسي، ثم بوعيش. ما زلت أذكر صباح الرابع من دجنبر 1981، حين ودعت حسن وأنا أوصيه ألا يذهب إلى المطبعة كي لا يُعتقل كما اعتقل محسن منذ يومين. قال لي مبتسما، وهو يحمل بيده اليمنى محفظة سوداء ضمنها مواد العدد الجديد لمجلة "الشباب الديمقراطي": "لابد من إخراج العدد"، أجبته مازحا "بنلتقي بالعلو". ابتسم مرة أخرى وانصرف.
 
بعد محاكمة جائرة وأحكام قاسية، أودعوا ثلاثتهم، عيوش والسوسي وبوعيش، بسجن "العلو"، حيث كان في انتظارهم قادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل: الأموي ومنشد والأشعري وخيرات ومولاقات وآخرون من مناضلي الاتحاد الاشتراكي والكونفدرالية.
 
حرصت على زيارة الرفاق، مرة رفقة "الصوين"، المتخصصة في تمرير الرسائل عبر "البارو"، ومرة برفقة فاطمة التي تشبثت بحقها في رؤية رفاق أعزاء رغم حملها المتقدم، ومرة مع "أمي فاطنة" والدة محسن، التي لا ترتاح إلا بعد تفجير غضبها على الدولة والحكومة وكل من له يد في سجن فلذة كبدها.
 
في أجواء الحزن والتوجس، أضاءت بيتنا طفلتي الأولى، اخترنا لها اسم فدوى. اسم استوحيناه من شاعرة طوقت ذوقنا الفني، ونحتت في وعينا قصيدة الثورة والفداء. في عيني الوليدة فطنة، وحذق، وبهاء. تكفل بّا محماد بذبح العقيقة، وجاءتنا "أمي رقية" من سوس بعسل السحتر وزيت أركان، فأقمنا حفلا بسيطا لم يحضره إلا الرفاق والرفيقات، وقليل من الأهل يتقدمهم أخي عبد النبي.
 
في أجواء الحزن والتوجس، أضاءت بيتنا طفلتي الأولى، اخترنا لها اسم فدوى. فأقمنا حفلا بسيطا لم يحضره إلا الرفاق والرفيقات، وقليل من الأهل يتقدمهم أخي عبد النبي. قالت لي فاطمة بعد الحفل بأيام معدودة: لابد أن يتذوق حسن ومحسن مأدبة العقيقة. وكانت قصعة كسكس من "سبع خضاري" دخلت السجن
 
قالت لي فاطمة بعد الحفل بأيام معدودة:
- لابد أن يتذوق حسن ومحسن مأدبة العقيقة.
- ما أكرمك أيتها الصبوحة.
 
وكان لفاطمة ما تشاء، صحبة حورية كريمة محسن، وندى ابنتهما الجميلة الرائعة: قصعة كسكس من "سبع خضاري" دخلت السجن، ولم تعد القصعة أبدا. وعادت عبر القضبان رسالة من حسن للطفلة الوليدة.
 
رسالة حسن إلى فدوى وهي تعانق الحياة
 
اخترت، هنا، أن افسح المجال لروح حسن، الذي بعث من زنزانة 28 بسجن لعلو بعد ازدياد فدوى، برسالة بعنوان: "رسالة إلى فدوى وهي تعانق الحياة"، بتاريخ 28 يناير 1981، أي بعد ثلاثة أسابيع على مولدها.
 
"كيف أخاطبك وأخاطب كل الأحباء؟ كيف أهمس في أذن الصغيرة "فدوى"؟
أعرف انها لا تجيد بعد "حرفة" الإنصات. لكنني أناشدك اقرأ في عينيها دهشة الفرحة والخوف،، وهي تتطلع بين لحظة وأخرى إلى سقف البيت،، إلى المصباح الكهربائي، إلى فاطم،، إليك،، إلى كل حركة تدب بجوارها،،،
اقرأ في بريق العينين أن صمتها ليس شيئا آخر غير تجميع للقوى تأهبا واستعدادا لاكتشاف أسرار هذا العالم،، لمواجهة الحياة،، حلاوتها الممزوجة بالقساوة وقساوتها التي تنضح حلاوة وعبيرا،، والإنسان في عراكها"...
 
المقطع الثاني من رسالة من السجن المدني بالخميسات بتاريخ 18 نونبر 1982
 
"وإذا كان لابد لهذه الرسالة من موضوع، فسأجازف فأختزله في همسة إلى الصغيرة فدوى،، لكن مع رجائي أن لا تهيمن إحساسات الغيرة عليك، أنت، وعلى فاطم، إذا خصصت هذا الحيّز للصغيرة، للمستقبل الواعد بالحياة.
فدوى: تحية وقبلة وبعد
كنت ساعة الرحيل تعلنين الخصوبة،، وتصنعين عوامل المخاض.. فكان الرحيل وكان المخاض.. تمت الولادة..
لحظتها كتبت إليك: هنيئا "فدوى" وهمست في أُذنك بشتى الآمال والتمنيات رغم معرفتي أنك لم تكوني بعد "تجيدين حرفة الإنصات"، ورغم ذلك كنت أقول إنها تجيد الفراسة.
أنا حائر الْيَوْم كيف أخاطبك وقد بدأت غزوك للقاموس.. ما هي مصطلحاتك بعد أن تجاوزت الغمغمات الغامضة، والدالة في نفس الوقت؟ كيف نسجت نسيج الفرحة داخل العش ورسمت تفاصيل بحبوحة الدفء؟
تحياتي إلى أب فدوى وأم فدوى وكافة البراعم المتفتحة في المدينة، في تضاريس هذا الوطن"...
 
هكذا كان حسن وفيا حتى مع الأجنة والصبيان، ولذلك حزنت فدوى لفقده حزنا لم أشهده على محياها من قبل. فوداعا رفيقي على أن نلتقي بروحك تخليدا لأربعينية رحيلك. سيرتك منقوشة في ذاكرتنا الجماعية وعطاؤك للوطن والشعب لا يقدره حق قدره سوى من عاشرك عن قرب في السراء والضراء. وتحية لأهل ألنيف وترابها الذي أبى إلا أن يستعيدك بعد هجران طويل...
 
 
الفقيدان حسن السوسي وعبد الواحد بلكبير