الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
النص كتبه مارسيل خليفة صباح اليوم الجمعة على صفحته في الفايسبوك

"قليل" من الخَمر يُفْرِح قَلب الإِنسان


مارسيل خليفة
 
جِئْت بالصدفَة إلى الجزيرةْ البعيدةْ منذ منتصف آذار. وها أنا أدخل في أيلول تصاحبني الأمكنة القصيّة في مساءات تستوحش فيه نفسي. تمعن المسافة في التلاشي بعزلة الحنين وأعجز من أن أجيب عن سؤال مخيف: متى ستعود؟! قال لي الطبيب - البروفيسور الذي عدته أمس في عيادته بعد مرور شهر على عملية قسطرة شريان مسدود يضّخ للقلب الدم والحب.
 
 
- الحمدالله على السلامة! كان ممكنا أن ترحل وأنت نائم، ملاكك الحارس خلّصك! لا إشارة حمراء للشريان تنذِّر بالخطر. هكذا على غَفْلِة يكّف عن الايقاع. ولحسن حظّك أن الشريان المسدود لم يؤثِّر على نشاط قلبك وصماماته. كُتِب لك عمر جديد زائد 3 قساطر من معدن نفيس.
 
ثمّ أهداني قنينة خمر ودعاني لزيارة مزرعته لأرى كيف يقطّر دمع العنب بيديه و"قليل" من الخمر يفرح قلب الإنسان. والطبيب لم يأخذ ملّيما واحدا لمعاينته وهو مازال يحلم بالبعيد فيبدي تأففاً في الحساب ويعيد شريط الهجرة: "جئت من ستين عاماً وأمي ترتّق لنا الثياب العتيقة وهي تئن وتحن. ومازال الأنين دمعة ذاكرة لا تفرِّط بالتفاصيل وتترك محفوظاتها طازجة كبرتقال الخريف. تعلمت من أمي كسر حاجز المسافة بين "الهناك" و"الهُنا" بين "الكان" و"يكون" نتماهى مع المحفوظ، نسترد تفاصيله ولكن أيضاً ننتبه إلى أنه انصرم وتمنّع عن العودة الحسيّة. وذاك ما يصنع الغصّة والحسرة والألم والأنين.
 
في هذا المدى متسّع للتسكّع بين جدران الخيال. وأنتَ تمضي إلى ما لست تدري ويتكاثر في رأسك السؤال: ماذا أعددت لِغَد ليس لك ولا شمس فيه تضيء. إنها دورة من الدنيا ونمضي، فهل تُفضي عمّا مضى أم سيهزمك الحنين؟ سترحل بعد حين إلى مكان لا تعلمه. خُذْ زادك معك كي تشيّع جوع الفراغ المرّ ولا تترك خلفك غير ما يخّف به حمل القلب.
 
- هل أنا مصاب بكل هذا الحب، تقول في نفسك!

الغربة قاسية قال الطبيب - البروفيسور ! لم تكن الهجرة لذيذة من مكان تضيق به وبك. يضيق كي ينبعث معنى جديد للحياة. فاذهب بعيداً كي تصحّح عثرة المألوف.
  
- ألوف الكيلومترات بعيداً عن مكانك كي تصحّح عثرة المألوف؟
 
أيها المحذوف من قائمة الاطمئنان: خُذْ نفسك وارحل. عنّك ارحل. ولا تأخذ شيئاً وارحل. إلى بعيد الزمان ارحل. إلى قريب المكان ارحل. كي تبدّل الذي ما تبدّل. كي يبوح الجسد بما يعذبه. اطلق في النفس دفئاً واقعياً كدفء الشمس في الصباحات الشتوية وارحل.
 
كأسك يا دكتور، وكثير من الحب!