الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

وجهة نظر حول تعثر المسيرة السياسية وتحقيق الاندماج للقوى المكونة لليسار المغربي

 
عبد العلي اكميرة
 
على أنقاض الصراعات والانشقاقات التي عرفتها الأحزاب الوطنية والديمقراطية، يحاول جيل من الفاعلين السياسيين بناء تجربة جديدة تنطلق من الشتات وتبتغي التجميع من أجل تحقيق الاندماج في إطار واحد، يطلق على تسميته "فدرالية اليسار الديمقراطي FGD"، إطار يحمل طموح ممارسة ديمقراطية ولا يمكن لأي أحد مهما بلغت درجة تجذره في الممارسة السياسية إلا أن يثمن هذا الفضاء وهذا الحلم وأن يتقاسم المبادئ والأهداف العامة التي تأسست عليها، وخصوصا، إذا كان منتميا إلى الأصوات المعارضة لهيمنة المخزن، في ظل عولمة تحاول بشتى الطرق والوسائل اجتثاث وإقبار كل القيم التي راكمتها الإنسانية خلال مسيرتها الطويلة في الصراع، وتوازنات جهوية هشة تفقد المشروعية السياسية وسلطة القرار.
 
محليا، دولة يهيمن فيها المخزن ويحكم قبضته على كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، حيث نجح في بلقنة المشهد السياسي وتهميش أدوار كل الفاعلين التواقين إلى الممارسة الديمقراطية، ويعمل على تقليص وتضييق فضاءات الفعل لكل الإطارات الراغبة في ممارسة السياسة المتحررة والمتخندقة في صفوف الجماهير الشعبية.
 
استطاع المخزن استقطاب جزء من قوى كانت محسوبة على الصف الديمقراطي واختارت  خندقا آخر مقابل الاستفادة من بعض المواقع والاستئناس بالريع والاقتناع بوهم المشاركة في تدبير الشأن العام
 
للأسف، استطاع استقطاب جزء من القوى، التي كانت بالأمس القريب، محسوبة على الصف الديمقراطي والتي اختارت لنفسها خندقا آخر، مقابل الاستفادة من بعض المواقع، والاستئناس بالريع كممارسة، والاقتناع بوهم المشاركة في تدبير الشأن العام.
 
لقد مرت حقبة زمنية طويلة على سنة 1956، وقعت أشياء كثيرة عكست نظرة الحركة الوطنية لمفهوم السياسة ومفهوم الصراع، والتي كانت من نتائجها، التوافقات مع النظام ولو على حساب حلم الحركة الديمقراطية والجماهير الشعبية في الحرية والانعتاق.
 
بالفعل، سنة 1956، كثفت جزءا من تاريخ المغرب، الذي دُبّر من طرف الحركة الوطنية واختياراتها، في ممارستها للسياسة وفي طريقة تدبيرها للصراع والمقاومة، وكذا في مستوى فهمها وإدراكها للتناقضات. جزء من هذا التاريخ تم تدوينه وكتابته بطريقة يمتزج فيها الخيال بالواقع، إلى درجة نسج الأسطورات التي خلقت الزعامات، وأوصلتها إلى درجة القدسية. والجزء الآخر، مع الأسف، لم يتم تدوينه وكتابته، وهو الجزء الذي حصلت فيه أحداث كثيرة من قبيل تهميش شخصيات وازنة، ونفي مناضلين شرفاء، واغتيال قادة سياسيين، وهذا هو التاريخ الذي كتب له النسيان والذي يجب على المهتمين والباحثين في تاريخ المغرب محاولة إعادة كتابته وتدوينه، لأنه سيشكل مرجعا مفيدا في فهم أزمنة وحقب منسية أو تعمد نسيانها، للتمكن من فهم ما حصل وإدراك واقعنا السياسي.
 
اليوم، إن المتتبع للمشهد السياسي المغربي يكاد يصاب بالتيه لكثرة الأحزاب السياسية من حيث العدد، لكن في غياب أي تأثير أو فعل على مستوى الواقع، وهي أحزاب يصعب تصنيفها إيديولوجيا، ولا يمكن توصيفها لا باليسارية ولا بالديمقراطية ولا بالليبرالية ولا بالقومية ولا بالدينية، فمن باب التجاوز يمكن الاعتبار أن لها برامج، لكن تعيش نوعا من الازدواجية بين الخطاب والممارسة، تعيش على المتناقضات، لكن لها القاسم المشترك ألا وهو تكريسها للريع والانتهازية والبيروقراطية كممارسة، جزء كبير منها تم تشكيله تحت الطلب، أدى الأدوار التي طلبت منه وزيادة في تبخيس تام للعمل السياسي النبيل وتعميق الهوة بين المواطن والفاعل السياسي، هذا المواطن الذي تولدت لديه قناعة على أن الفعل السياسي ما هو إلا جسر للارتقاء الاجتماعي وبلوغ المناصب.
 
في البلاد أحزاب يصعب تصنيفها إيديولوجيا لا باليسارية ولا بالديمقراطية ولا بالليبرالية ولا بالقومية ولا بالدينية لكن لها قاسم مشترك ألا وهو تكريسها للريع والانتهازية والبيروقراطية
 
مع الأسف، هذه الأحزاب السياسية التي أساءت إلى نفسها بالدرجة الأولى وإلى وطنها لا تريد الانسحاب، بل تتشبث بالكرسي والانتماء إلى كل الحقب والأزمنة السياسية، بل منها من يريد أن يجدد عذريته.
 
والأدهى من كل ذلك، أن بعضها يمنح لنفسه الحق للتكلم باسم الشعب المغربي في غياب تام لهذه المشروعية، دورها وقربها من المواطن ينحصران فقط في المحطات الانتخابية أو التطبيل للقرارات المخزنية، عملت على خلق قواميس جديدة في السياسة تنهل من ثقافة السوق، جعلت من السياسة قاطرة للارتقاء الاجتماعي، وهي بفعلها هذا تساهم في تكريس النفور السياسي وتمعن في تفقير وتخلف الشعب، فمسؤولية النظام إذن ثابتة في خلق هذا النوع من الأحزاب، وبلقنة المشهد السياسي، وإضعاف الأحزاب السياسية الجادة، وعلى الخصوص، الأحزاب ذات المرجعية اليسارية الديمقراطية. ومن باب المسؤولية الأخلاقية والتاريخية، فالأحزاب الوطنية التي التحقت بجوقة الأحزاب الادارية المخزنية، مسؤولة هي الأخرى على ما آلت إليه أوضاع الشعب المغربي.
 
إن تاريخ الحركة السياسية المغربية مليء بالصراعات والانشقاقات، وتجلى هذا الصراع في عمليات التصفية التي وقعت داخل الحركة الوطنية وبعض أعضاء جيش التحرير، لينتقل بعد ذلك الصراع ليشمل السياسي ويشهد ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وخروج الجناح النقابي، كما أن كل هذه الانشقاقات التي عرفها هذا الحزب والتي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، تصعّب من مأمورية وحدة الصف الديمقراطي ومشروع التجميع، لكن في نفس الوقت وإذا تمت قراءة هذا الوضع من زاوية أخرى، يمكن لكل هذه الانشقاقات أن تشكل عاملا مشجعا ومحفزا بالنسبة لجيل جديد من المناضلين بمقدوره قراءة تاريخه بالطريقة الصحيحة، وكذلك بدرجة حنكته في تجاوز خلافاته بعيدا عن تأثيرات الأجيال السابقة، التي ما زالت صراعاتها القديمة تؤسس للموقف السياسي والتنظيمي.
 
بالفعل من الواجب على هذا الجيل الجديد الذي يتطلع إلى الحزب الكبير أن يمتلك أدوات التحليل في تحديد التناقضات الرئيسية والثانوية، وأن يمتلك البوصلة التي تمكنه من الاصطفاف مع قضايا الجماهير حاضرا في احتجاجاتها ومتواجدا في الاطارات الجماهيرية بالفعل والممارسة، وأن يعتبر أن النضال ليس خطا مستقيما فهناك مراحل ومحطات من المد، كما أن هناك أخرى من الجزر، لكن الأساسي والأهم في كل هذا وذاك أن لا نفقد بوصلة الانتماء إلى هذا الوطن.
 
وارتباطا مع الوضع العام والصراع المتأجج بين قطبين: القطب الرأسمالي والقطب الاشتراكي، هذا الصراع الذي لم تكن الحركة السياسية المغربية بعيدة عنه، حيث تم تشكيل يسار جديد بالمغرب، عمل على خلق تنظيماته واختلف مع الخط الإصلاحي التوافقي للأحزاب الوطنية، سواء على مستوى الممارسة أو رؤيته لتدبير الصراع، طبع مرحلة سياسية مهمة في تاريخ المغرب بثقافته وتضحياته، وواجه القمع والبطش إلى درجة الاستشهاد، هوجم من طرف النظام المخزني، الذي رفض التخلي عن الهيمنة كطريقة في تدبير الشأن العام أو اقتسام السلطة أو التخلي عنها، ومع تذبذب الأحزاب الوطنية استطاع تحقيق الانتصار وخلق إجماع آخر تمكن خلاله من تجديد ميكانيزمات التحكم وتشديد وسائل عزل وتهميش اليساريين والديمقراطيين.
 
لقد ضحى جيل من اليساريين في الدفاع عن هويته، لأجل حقه في الوجود وممارسة الصراع، واستطاع بناء ثقافة شعارها النضال والممانعة، مناقضة تماما لثقافة التوافقات التي نهجتها الأحزاب الوطنية، جمع بين الفعل والحلم وضحى بالغالي والنفيس من أجل تحقيق حلم التغيير، صمد أمام مآسي الاعتقال، غادر السجون وهو يحمل معه جروحا وأمراضا نفسية وجسدية وعاهات مزمنة وظروف حياة قاسية وصعبة، ومع ذلك استمر، لكن مع الأسف راكم بين صفوفه الخلافات والعداء والإقصاء دفاعا عن "الخط الصحيح" على الرغم من قلته، هذا جزء من تاريخ اليسار الجديد الذي يستحق كل التقدير والاحترام والوقوف بإجلال لأرواح شهداء هذه الحركة امتنانا لهم على كل ما قدموه، وكذا على أرواح شهداء الشعب المغربي. ونتأسف وبكل الحرقة والمرارة عن هذه الحقبة التي لم يذكر عنها الشيء الكثير والتي نعتبرها تجربة غنية. لذا، فمن باب المسؤولية التاريخية والأدبية والأخلاقية، ندعو جميع من عاشوا هذه التجربة أن يؤرخوا لها ضمانا لحفظ ذاكرتها من التلف والضياع.
 
فعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار أن شتات اليسار يشكل العثرة الثانية للمسيرة السياسية لهذا البلد، بعد العثرة الأولى للحركة الوطنية وكل الانشقاقات التي عرفتها الأحزاب الوطنية.
 
إرهاصات التجميع وحلم الوحدة
 
بخصوص هذا الموضوع سأتناوله في خطوطه العريضة وفي محطاته الرئيسية نظرا للوقت الذي استغرقته النقاشات وسأحاول الوقوف على ما ميزتها، وكذا على خلاصاتها. وبالضبط، منذ نهاية الثمانينات وبعد مغادرة أفواج من المعتقلين السجون، منهم من كان ينتمي للأحزاب الوطنية، لكن الذي يهمني هم المنتمون للتنظيمات اليسارية، وأخص بالذكر تنظيم إلى الأمام، وتنظيم لنخدم الشعب، وتنظيم 23 مارس، وكذا فصيل الطلبة القاعديين. وحتى أكون وفيا للتاريخ، جزء من هذا الفصيل هو الذي شكل الديمقراطيون المستقلون. وللتوضيح، فهذا الجزء، وبعد تخرجه من الجامعات والمعاهد العليا، لم يحبذ مناضلاته ومناضلوه الانضمام إلى الأحزاب والتنظيمات اليسارية، بحيث كان همهم هو النضال والالتحاق بالحركة الجماهيرية، وكنا نجدهم في الإطارات النقابية، وفي الجمعيات الثقافية، وفي الأندية السينمائية، وفي لجان الأحياء الشعبية، ومنهم من أسس تجارب غنية ومتميزة في مجموعة من المدن، لكن بعد مرحلة من العمل طرح سؤال الاستمرارية، خصوصا أن نضالاتهم يتم توظيفها والمقايضة بها. لذا، كان لزاما أن يفتح نقاش من أجل تحديد الخطوة المستقبلية ضمانا لاستمرارهم وللتهييء لفضاء مشترك يضمن للأجيال المتخرجة من الطلبة القاعديين الالتحاق بهذا الفضاء. لذلك تم الانفتاح على كل اليساريين من أجل بناء هذا الإطار، خصوصا، وأن نقطة قوتهم كونهم شبابا ولهم قدرة متميزة للممارسة اليومية في الواقع، وعدم مراكمة أي عداء مع أي طرف، بالإضافة لكونهم غير معنيين بجراحات الماضي.
 
وعلى هذا الأساس، انطلق النقاش داخل اليساريين من مختلف المشارب، حيث طُرحت نقطتان أساسيتان من أجل تشكيل الإطار الجديد: الأولى، التخلي عن السرية مع حل التنظيمات السابقة. والثانية، هي ضرورة العمل في إطار قانوني، الشيء الذي لم يحصل عليه اتفاق مع الرفاق في تنظيم إلى الأمام، وهكذا انتهى الشوط الأول من النقاش ليذهب كل طرف سواء لترميم تنظيمه أو إعادة بنائه. فتشكلت الحركة من أجل الديمقراطية، والنهج الديمقراطي، والديمقراطيون المستقلون، هذه التجربة الواعدة التي لم تكتمل. وكانت هاته هي العثرة الثالثة في حقل الممارسة السياسية.
 
الحزب الاشتراكي الموحد يضم مناضلات ومناضلين بهويات مختلفة، الماركسي، واللينيني، واليساري، والاشتراكي، والليبرالي، والقومي، وحتى الأصولي، مما يزيد في تعقيد واستحالة تموقع الحزب داخل المشهد السياسي
 
وبعد مجهودات من طرف الجميع، استأنف النقاش من أجل الحسم في الإطار المنشود، وكان لقاء بوزنيقة الذي أسفر عن انسحاب الرفاق في النهج الديمقراطي، ليدخل بعدها الرفاق في "الحركة من أجل الديمقراطية" في الانتخابيات التشريعية لسنة 1997، متحالفين مع الرفاق في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي (OADP).
 
وباقتراح من الرفاق في "الحركة من أجل الديمقراطية"، تم فتح نقاش مع الإخوة في المنظمة، وتم ربط الاتصال بمجموعة من المناضلين المنتمين لليسار والغير المنتظمين في الإطارات السياسية التي تم تشكيلها، أطلق عليهم اسم "الفعاليات اليسارية"، لينعقد مؤتمر اليسار الاشتراكي الموحد (GSU) بحضور أربعة أطراف: الديمقراطيون المستقلون، والحركة من أجل الديمقراطية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والفعاليات اليسارية، والذي أفرز قيادة رباعية. وللتذكير، فإن جزءا من الديمقراطيين المستقلين لم يحضروا هذا المؤتمر لعدم اقتناعهم بالاندماج، وهذه في نظري هي العثرة الرابعة في مسلسل المسيرة السياسية.
 
هل نجح الاندماج؟
 
بعد مرور مرحلة من العمل المشترك، تمت مباشرة عملية حل التنظيمات المكونة لليسار الاشتراكي الموحد، وبدأت تطفو على السطح مجموعة من الخلافات تعكس التباعد في تصور وفهم العمل السياسي، وكذا فلسفة التنظيم، إضافة إلى التباين الواضح في الثقافي والإنساني، كل هذا أدى إلى إجبار مجموعة من المناضلات والمناضلين إلى مغادرة مركبة الحزب لعدم اقتناعهم بتحقق الاندماج مع تسجيل المجهودات التي تم بذلها من طرف الجميع لتجاوز هذا الوضع. وبانسحاب مجموعة من المناضلين في مرحلة التأسيس تكون هي العثرة الخامسة في المسيرة السياسية.
 
وعلى الرغم من هذا الوضع، فقد كان الحزب ما زال يمتلك الجاذبية المطلوبة ويشكل مطمحا عند مجموعة من الديمقراطيين بإعطائه الأمل بأن هناك إمكانية للقيام بفعل سياسي جديد، قادر على إرجاع الثقة للمواطنين في الفاعل السياسي، لتستمر المسيرة النضالية، ويتمكن الإخوة في "جمعية الوفاء للديمقراطية"، المنسحبون من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP) من الالتحاق بالحزب، ليتم اقتسام هياكل الحزب بين طرفين، أي بين مناضلي حزب اليسار الاشتراكي الموحد المكون سابقا من أربعة أطراف وبين الإخوة في "جمعية الوفاء للديمقراطية"، علما أن وزن الحزب يفوق بكثير وزن هاته الجمعية، مما جعل منطق التوافقات يؤدي إلى تهميش مجموعة من المناضلات والمناضلين الذين اختاروا بدورهم مغادرة الحزب، وسيتم بعد ذلك تغيير اسم الحزب من اليسار الاشتراكي الموحد (GSU) إلى الحزب الاشتراكي الموحد (PSU)، وكل هذا شكل العثرة السادسة في المسيرة السياسية.
 
وفي إطار الانفتاح على الفضاء الديمقراطي واليساري، كان النقاش مفتوحا مع الرفاق في النهج في إطار التجمع اليساري، الذي أصبح يعطي ثماره، خصوصا، في مجال النضال المشترك داخل الواجهة الاجتماعية. إلا أن هذا النقاش سيتوقف بناء على الاختلاف حول الموقف من قضية الصحراء، وطبيعة النظام السياسي المغربي، وكذا الانتخابات. وهذه هي العثرة السابعة.
 
وموازاة مع ذلك، تم تشكيل التحالف الديمقراطي، الذي كان يضم الحزب الاشتراكي الموحد (PSU)، وحزب الطليعة الديمقراطي الشعبي (PADS)، وحزب المؤتمر الوطني (CNI)، وبعد نقاشات ماراطونية بين الأحزاب المشكلة لهذا التحالف، تم الوصول إلى قناعة المشاركة في الانتخابات التشريعية والجماعية بشكل مشترك، رغم أن القواعد بالأقاليم والجهات لم تكن مهيأة لهذه العملية، الشيء الذي خلق ارتباكا لدى الجميع وأدى إلى بروز صراعات وعداوات بين مناضلي هذه الأحزاب، مما زاد في تعثر مسيرة هذا التحالف. والأدهى من كل ذلك، هو ما حصل في دائرة يعقوب المنصور حيث تشبت الحزب الاشتراكي الموحد بمرشحه، وحزب الطليعة الديمقراطي الشعبي بمرشحه كذلك، ليتنافس قياديا هاذين الحزبين على هاته الدائرة. وفي نهاية المطاف، لم يتمكن أحد منهما من الفوز، الشيء الذي ساهم في إحباط المناضلات والمناضلين، وجعل حلم التحالف يصاب بالفتور، وكانت هذه هي العثرة الثامنة في المسيرة السياسية.
 
إذا كانت فيدرالية اليسار الديمقراطي هي الحلم الذي ستنبثق عنه حقيقة التجميع وتوحيد الصف فينبغي على الجميع العمل وبالجرأة والإرادة الضروريتين لإنضاج الشرطين الذاتي والموضوعي للوصول إلى هذا الهدف النبيل
 
وبعد انتهاء الانتخابات تم تقييم عمل هذا التحالف، والذي نتج عنه بطبيعة الحال توجيه الانتقادات بين الجميع، وكان كل طرف يحاول إبعاد الاتهامات عنه والعمل على تبرئة نفسه، الشيء الذي يعبر بوضوح عن عدم النضج السياسي. ووسط كل هذه الأحداث وعلى الرغم من حجم صعوبتها، فقد استمر عمل التحالف لتبرز فكرة تأسيس "فيدرالية اليسار الديمقراطي FGD"، التي نشأت وفي أحشائها مجموعة من الاختلافات والتنافر الحاصل بين مناضلات ومناضلي هذه الأحزاب، وعلى الخصوص، في الإطارات الجماهيرية، الشيء الذي جعل هذه الفيدرالية تعرف تعثرا كبيرا. إلا أنه مع كامل الأسف، وبالنظر إلى كل هذه الخلافات والإخفاقات في مسلسل التجميع المنشود، والذي لم يكتب له النجاح، ما زالت قيادات الأحزاب المكونة لهذه الفيدرالية تسلك سياسة الهروب إلى الأمام ولا تطرح الأسئلة الحقيقية، وتفرض نفسها على القواعد، رغم تقاعسها وفشلها في إنضاج هذه التجربة، مما شكل العثرة التاسعة في المسيرة السياسية لهذا البلد.
 
هل الحزب الاشتراكي الموحد (PSU) يعكس نجاح الاندماج؟
 
إن واقع الحال داخل الحزب الاشتراكي الموحد، يعبر بشكل لا يدع مجالا للشك عن الاختلاف والتقاطع والإقصاء. هنالك من يعتبر أن هذا الصراع هو صحي ويعكس حيوية الحزب وديناميته وقوته، لكن في اعتقادي هذا مجانب للصواب، لأننا لا يمكننا استساغة وقبول أن حزبا يحترم نفسه وقواعده يعمل على إقصاء وتهميش مناضلاته ومناضليه ويجبرهم على المغادرة، ويستعمل وسائل التجييش خلال المؤتمرات التنظيمية والانتخابات بهدف الهيمنة، وقيادة الحزب بالرؤية السياسية ما قبل الاندماج وفي حالات أخرى تطبعها الشخصانية والفردانية. إن هذه الممارسات أبانت أن مشروع الاندماج كان سطحيا وأن جل التنظيمات السابقة لم تستطع توحيد الرؤى وتقريب وجهات النظر، رغم صياغة أوراق مشتركة مذهبية، وإيديولوجية، وسياسية، واقتصادية، ولم تتمكن من تحقيق الاندماج وإقامة الصلح، تاركة الباب مفتوحا أمام استمرار الصراع والاختلاف، بحيث أصبحت المؤتمرات مناسبة لتسهيل مغادرة المناضلات والمناضلين للحزب.
 
إن الحزب اليوم يضم مجموعة من المناضلات والمناضلين بهويات مختلفة، الماركسي، واللينيني، واليساري، والاشتراكي، والليبرالي، والقومي، وحتى الأصولي، مما يزيد في تعقيد واستحالة تموقع الحزب داخل المشهد السياسي، وتمكينه من أن يشكل رقما في المعادلة السياسية في البلاد. لذا، فعلى القيادات أن تعي جيدا أنها توجد على هامش السياسة، وأن صراعاتها التي سوف لن تنتهي، ستقتل حلم التجميع والاندماج، وأنها باستمرارها في موقع القيادة تضيع الفرصة على جيل بكامله، في حقه المشروع في ممارسة سياسية يومية واقعية واستشرافية للمستقبل، وأن التاريخ السياسي في المغرب يجب قراءته في عمقه وشموليته مع استنتاج الدروس والعبر، وأن الزمن والعمر السياسيين مرتبطين بشكل كبير بالعمر البيولوجي، وأن التوافقات في السياسة، سواء كانت مع الدولة أو داخل الحزب لها نتيجة واحدة وهي قتل طموح النساء والشباب، وجيل يحلم بممارسة السياسة خارج دائرة إكراه تاريخ الصراعات الذي عرفته الأجيال السابقة، حيث يتم تنصيب قيادات أبدية لا موقع لها في الصراع الذي يعيشه المجتمع.
 
وبناء على ذلك، وإذا كانت فيدرالية اليسار الديمقراطي هي الحلم الذي ستنبثق عنه حقيقة التجميع وتوحيد الصف، فينبغي على الجميع العمل وبالجرأة والإرادة الضروريتين لإنضاج الشرطين الذاتي والموضوعي للوصول إلى هذا الهدف النبيل، لأن الشرط الأدبي لوحده غير كافي، ناهيك على واقع التباعد الذي يسائلنا يوميا. فالفيدرالية في صيغتها الحالية تضم جبهتين: جبهة مكونة من الأحزاب والجمعيات التي انشقت على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP)، وجبهة تمثل اليسار الجديد باختلاف تلاوينه.
 
وهي بالمناسبة صيغة ليست بالهينة والسهلة. لذا، فالزمن السياسي لا يقاس بالسنوات وإنما بالإنجازات وبالطفرات النوعية التي يمكن القيام بها، وحتى لا نكون خارج السياق أو نزوة عابرة في التاريخ السياسي.
 
لذا، يجب العمل على حل الاشكالات الداخلية لكل حزب، وتسييد الديمقراطية الداخلية، لأن الاندماج ليس عملية حسابية بسيطة بل هي جد معقدة.
 
لذا، يجب الإقرار بأن مشاكل كل حزب إذا أضفنا لها مشاكل الأحزاب الأخرى ستصبح مضاعفة، وستشكل سورا عاليا أمام عملية الاندماج، فالمدخل الرئيسي للاندماج هو العمل على بناء أحزاب قوية لتسهيل عملية التلاقي مستقبلا...
 
جدير بالذكر، أن الجزء الأكير من الديمقراطيين واليساريين غير منتظمين في هذه الأحزاب، وبالتالي فإن المهمة الرئيسية تكمن في كيفية إقناعهم بالالتحاق، لكن ما يجري اليوم داخل هذه الأحزاب يجعل هذه المهمة صعبة المنال.
 
ناهيك على أن المجتمع برمته ينحو منحى المحافظة مما يجعل من تشكيل جبهة تدافع عن الحداثة والديمقراطية هو الجواب الصحيح للتصدي لهذا المد التراجعي، وأن الفيدرالية تبقى حلما مؤجل التحقيق، كما لا يجب أيضا أن نضع شروطا مسبقة من أجل الانفتاح على مجموعة من الفاعلين السياسيين، بل الإسراع في صياغة برنامج نضالي استعجالي مشترك، يضع من بين مهامه تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
 
إن جعل شعار الملكية البرلمانية في هذه الظرفية بالذات كشرط أساسي للتلاقي مع الأطياف السياسية الأخرى يطرح إشكالا حقيقيا، ويضع خطوطا حمراء لا ضرورة لها
 
إن جعل شعار الملكية البرلمانية في هذه الظرفية بالذات كشرط أساسي للتلاقي مع الأطياف السياسية الأخرى يطرح إشكالا حقيقيا، ويضع خطوطا حمراء لا ضرورة لها، لأن الملكية البرلمانية كرؤية لطبيعة النظام المنشود كانت له راهنيته في مرحلة كانت فيها موازين القوى لصالح القوى الديمقراطية، وكذا إبان الزخم النضالي الذي عرفه المجتمع المغربي في مرحلة الربيع الديمقراطي وحركة 20 فبراير، بحيث كانت قوة هذا المطلب حاضرة، كما كانت موازين القوى آنذاك تضفي على هذا المطلب والشعار طابع الواقعية والمشروعية.
 
اليوم، ومع هيمنة المخزن واسترجاعه واستفراده بالمبادرة، وعلى الرغم من الاعتقاد أن الملكية البرلمانية هي مطلب يدخل ضمن استراتيجية، لذلك، لا يجب أن تكون معيقا أمام الانفتاح على الحساسيات الأخرى، كما أنه لا يجب علينا أن نضع سقفا محددا للنضال الديمقراطي لكوننا نعيش وضعا سياسيا سيئا وبئيسا، وفي ظل موازين قوى غير متكافئة إن لم نقل مختلة.
 
وعلى هذا الأساس، يجب علينا توسيع دائرة تحالفاتنا وفضاء ممارستنا لتشمل جميع القوى الحية التواقة إلى الديمقراطية والحداثة، والمقياس الحقيقي هو الانتماء لهذا الوطن والاصطفاف مع جماهيره.
 
هذه هي وجهة نظري ، المنطلقة من خارج الاصطفافات إلا الاصطفاف مع الفضاء اليساري، الحالم بحزب كبير وقوي يكون جوابا على هذا المد التراجعي والمحافظ.
 
الرباط بتاريخ:
10 غشت 2020
_____________________
الكاتب العام للكونفدرالية العامة للشغل وفاعل يساري