الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عرين الصفصاف

 
إيمان الرازي
 
ليلة واحدة كانت كفيلة بأن تدكني دكا نحو ما كان...
 
هناك في الشارع الطويل الذي يقسم بين الدرابلة والحبابضة ألف حكاية تلف المكان، تطوقه بسلاسل من الماضي البعيد، هناك رقصت فرحا وتمرغت باللعب أرضا وحسبت النجوم ليلا من سطح دار با الحاج أو من فنائه المربع أو من حديقة طاطا خديجة التي غادرت ذلك المنزل احتراما منها لهيبة القانون، الذي طالبها بإفراغ سكنها الوظيفي بحكم ابتدائي فقط دون أن تستأنف الحكم، في حين أن جيرانها مازالوا مرابطين ببيوتهم الوظيفية رغم الحكم النهائي الذي صدر بالإفراغ، وتلك حكاية أخرى لا يتسع لا الزمان ولا المكان لسردها بالتفصيل...
 
الشماعية.. وأشجار الصفصاف.. متلازمتان أبديتان لا يمكن الحديث عن الشماعية دون الحديث عن أشجارها العملاقة، تلك الأشجار التي تغطي سقف الحكايات بحنو وشموخ.. تسمو فوق الذكرى كأب حنون مهما غضب منك فلن ينفصل عنك.. علاقة أبيسية تحكم المشهد بإتقان كل مساء.. في الشتاء كما الصيف، تعزف الأشجار سمفونيات الطبيعة.. في كل عطلة كنا ننتظر متى يحين موعد السفر عبر الكار في الرابعة صباحا.. كار القلعة/ اليوسفية.. أتذكر جيدا كيف كنا نقضي ساعات الليل الأولى ونحن نعد عقارب الساعة ونحسب الثواني والدقائق للانطلاق وارتداء ملابس السفر حتى أنني كنت أقضي ليلتي بملابس السفر، وأضع حذائي تحت السداري محتفظة به في مكان منزوي كما لو أنه سيتيه مني حينما ستحين الساعة الصفر للسفر...
 
تدفع أمي للكورتي ثمن التذاكر ثم نلج درج الباب الخلفي للكار لنجد مكانا مناسبا لنا نحن الأربعة، ونودع أبي من النافذة المكتوب عليها نافذة الإغاثة...
 
أنا للطريق.. إلى اليوسفية عبر بنجرير.. لا شيء مميز عبر هذه الطريق سوى الحفر، نهتز جماعة مع كل حفرة كعدائي فئة 100 متر موانع، أولئك الذين كنا نشاهدهم في الشاشة مرة كل أربع سنوات في الأولمبياد... ومع كل هزة لعجلات الكار يهتز قلبي الصغير الذي يهتف بالشماعية والحنين إليها كما لو كانت مدينة الأحلام أو ديزني زمانها حتى أنني أحسب أشجار الطريق عبر الكار مع بزوغ الصباح وخيوط شمسه المنسدلة والتي تخترق غفوتنا الصباحية...
 
صفصافة صفصافتان ثلاث صفصافات وهكذا... بين الشماعية واليوسفية طريق طويل به صفوف صفصاف مرتبة بعناية إلهية فائقة، بين كل شجرة وأخرى نفس المسافة تماما كجيش مدجج بالصفصاف.. أشجار عالية خضراء وارفة الظلال باسقة الطلة كضباط صف في جيش نظامي منظم..
 
نصل إلى الشماعية في غضون الساعة السابعة صباحا، نلج لاگار، رائحة المسمن والحريرة تعبق الفضاء الذي يعج بكل رواد المحطة والعاملين بها والمسافرين منها وإليها... ننزل ونمتطي الكرويلة صوب الدرابلة، حيث منزلا جدتي نانا وخالة أمي الأستاذة خديجة، التي كنا نناديها بـ"طاطا"، والتي يفصل بين سكنها الوظيفي وبيت جدتي طريق خميس زيمة...
 
كنا نتفنن في الغنج والدلال، نحتار بين أي منزل سننزل من المنازل، كنت أفضل سكن خالتي الذي يتميز بجردة فسيحة نلعب فيها وبها باب حديدي كبير كنا نستعمله كأرجوحة على طول أيام عطلنا هناك...
 
أتساءل اليوم عن سر هذا الحب الدفين العظيم لتلك التربة الدافئة التي تتجذر في كياني حتى العظم واللحم والدم، فالمسألة بالنسبة إلي تتجاوز ارتباطا كاثوليكيا بفضاءات مفتوحة وأخرى مغلقة أليفة غير معادية توحي جميعها بالأمن والأمان الروحيين.. كنا نقضي نهار عطلتنا في الجردة وفي بيوت طاطا ونانا وزيارة جدتنا الكبيرة الحاجة ربيعة أم نانا في درب السويقة، تلك الأمازيغية الجميلة التي لا تتحمل شقاوة الأطفال إلا شقاوتي أنا الوحيدة...
 
حينما يحين الليل تُعزف سمفونية الطبيعة.. الريح تعوي في الخارج كذئبة.. إنها المايسترو الذي يوزع ألحان الصفصاف وتضبط أوتاره كل ليلة.. صفصاف يرحب بك أحيانا ويوبخك أحيانا أخرى لأنك أطلت الغياب يخبرك بالحنين وأشياء أخرى قد لا يدركها عقلي الصغير آنذاك...
 
لكن ليلة واحدة كانت كفيلة بأن تدكني دكا نحو ما كان.. فجأة تحولت سمفونية الصفصاف المبهجة إلى ترانيم مبكية محزنة تحكي الألم والفراق ولوعة الغياب الأبدي الطويل الأليم.. يحكي فصول أول رحلة بدونها، بدون تلك التي غرست الشماعية وتفاصيلها بين الضلوع، تلك التي همست في أذني ذات الليلة وقالت أنا الصفصافة الباسقة الباقية، روحي هنا تعانق عنان السماء.. في تلك الليلة بالضبط، اكتشفت أن سمفونية الصفصاف ما هي إلا أرواح منكسرة متمردة وأخرى هنية هادئة.. اكتشفت أيضا أن كل ليلة تنزل فيها هاته الأرواح في موسم بهيج، أهازيجه ريح وصفصاف، يرقص فرحا أحيانا وألما أحايين أخرى..
 
هو الصفصاف إذن، لغة الروح التي تسكنني والتي سأخلدها على طريقتي لأن الفرح وحده من يستحق الخلود...
 
سأتذكرك بفرح ما دام في الطريق إليك عرين الصفصاف يزفني إليك متى شاءت الأقدار ومتى سنحت لي الظروف بالزيارة.. إن كان للمكان سلطة فالصفصاف عقيد الذكرى وخازنها الأمين...
 
______________
قاصة وفاعلة سياسية ومدنية