الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

الإعلام سلطة ومؤسسة ديمقراطية

 
جمال المحافظ
 
لا يمكن الحديث عن التحولات التي طالت وسائل الإعلام، بدون ربطها بالثورة، التي طالت ميدان الاتصالات والمعلومات، الذي يعد أبرز ما يميز العالم الراهن الذي أخذت، في ظله، الحدود بين وسائط الاتصال تنهار على نحو مضطرد، خاصة منذ التسعينيات من القرن الماضي، وأصبح بذلك من البديهيات القول إنه لا ديمقراطية بدون ضمان حرية الصحافة والإعلام.
 
وهكذا أصبح الفضاء الرمزي، في ظل المتغيرات الرقمية، كالقراءة، لا يخضع للرقابة، و"لا يقف على أبوابه حراس"، حيث أسفرت هذه التحولات في وسائط الاتصال إلى نتائج اجتماعية وثقافية مهمة، وأصبحت وسائل الإعلام موجها لطريقة تمثلنا للعالم، وجعلت علاقتنا بهذا العالم، لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بل وفق ما يقدمه لنا الإعلام جاهزة يحاول إدخالها في مخيالنا الجمعي.
 
فهذه التحولات المتسارعة ساهمت في انتقال الإعلام من سلطة رابعة إلى سلطة أولى، بوظائف وبرهانات جديدة، جعلت الفضاء العمومي يتحول، نتيجة التوسع الهائل لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، إلى فضاء إعلامي بامتياز -حسب المفكر الألماني يورغن هابرماس- تشكل داخله الصحافة بوسائلها المتعددة النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الجمهور.
 
لكن على الرغم من حجم هذه التغيرات التي طالت الإعلام، ظلت وظيفة "السلطة الرابعة" هي الإخبار بالأساس، ومهمة الصحافي البحث عن الحقيقة، فإنه أصبح من الضروري ربط التقدم الحاصل في ميدان تكنولوجيا الاتصالات، بالسياقات التي نشأت فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار التطور التدريجي والتراكمي للوسائط، والتداخل الحاصل في التأثيرات بين هذه الوسائط بأنواعها المختلفة وغيرها من العوامل الاجتماعية، كما جاء في كتاب "التاريخ الاجتماعي للوسائط من غتنبرغ إلى الإنترنت"، لمؤلفيه أسا بريغز وبيتر بروك.
 
وازدادت أهمية الصحافة والإعلام -بفضل الثورة الرقمية- من حيث نشر الأخبار والمعلومات، كما أصبحت الرقابة التي كانت تمارسها الأجهزة السلطوية في مهب الريح، وأصبح بالفعل الإعلام، سلطة مضادة ومستقلة وسلطة رقابة. وبالتالي أصبح الإعلام الذى انتقل من سلطة رابعة إلى سلطة أولى "مؤسسة ديمقراطية" في البلدان الغربية، لكونه يؤدى مهام "كلب حراسة" بجعل أنشطة السلطة بشكلها المادي والرمزي، موضع مساءلة وتحقيق في ما يمكن أن ترتكبه من تجاوزات خلال أداء عملها.
 
فمهمة المراقبة التي تقوم بها وسائل الإعلام، تتسم بأهمية أكبر من دورها في مجال توفير المعلومات وتعميم الأخبار، لأنها تحمي المواطنين من تدخل السلطة في ممارسة حرياتهم الفردية، مما يجعل العلاقة بين الإعلام والدولة، غالبا ما تتسم بمزيد من التعقيد التوتر، في الوقت الذي يظل من الضروري، لتحرر أي مجتمع، أن تظل سلطات الدولة موضع مساءلة.
 
وبالنسبة للعلاقة بين الإعلام والديمقراطية، يلاحظ كثير من الباحثين أن دور وقدرة ميديا الإعلام على تعزيز الديمقراطية مازالت جد محدودة، بغض النظر عمن يعتبر أن وسائل الإعلام مسؤولة عن السلبيات التي تعاني منها الديمقراطيات الناشئة أو تلك التي تعرف انتقالا ديمقراطيا.
 
وإذا كان من الملحوظ، بصفة عامة، أن دور الإعلام لم ينل اهتماما من جانب الأوساط العلمية والأكاديمية التي تشتغل على قضايا التحول الديمقراطي، فإنه في ظل الحالة التي تكون فيها مؤسسات الوساطة، منها الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، فقدت مصداقيتها، فإن الإعلام يظل حاضرا، لكونه الأداة الرئيسة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتوفير المعلومات المخالفة، خاصة تلك المرتبطة بتدبير الشأن العام، إذ أبانت عدة تجارب، في فترة السبعينيات من القرن الماضي، كالتجربة الإسبانية ما بين 1975 و1978، أن الصحافة كانت مدعمة بشكل كبير للتحول إلى الديمقراطية.
 
بيد أنه على المستوى الوطني، يلاحظ أن دستور 2011 نص - لأول مرة- على الحق في الإعلام، وأن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، مع ضمان حق الجميع في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، مع الزام السلطات العمومية بالتشجيع على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، مع الالتزام بما يحدده القانون من قواعد تهم تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع.
 
وإن كانت بعض المقتضيات الدستورية في مجال الصحافة والإعلام، تم تفعيلها، إلا أن ذلك ما زال يصطدم بإكراهات ذاتية وموضوعية، في مقدمتها بيئة الممارسة الإعلامية، والنقص الحاصل في التربية الإعلامية، وتراجع منسوب أخلاقيات المهنة، وعدم استيعاب مختلف الفاعلين، بما فيه الكفاية، للأدوار المهمة، التي تضطلع بها وسائل الإعلام والاتصال، ليس فقط في مجال النهوض بحرية التعبير وحقوق الإنسان، ولكن أيضا في تحقيق التنمية المستدامة.
 
فبغض النظر عن النوايا المعلنة، فإن الوضع الراهن يتطلب الارتقاء بمستوى تعزيز برامج التوعية والتحسيس بأهمية ممارسة حريات التعبير والصحافة والإعلام وإدماج قيم ومبادئ حقوق الإنسان في برامج التكوين واستكمال التكوين الموجهة لفائدة مهنيي الإعلام والاتصال، وتوطين موقع ووظائف الإعلام والتواصل في الديمقراطية والتنمية وطنيا وجهويا.
 
كما أن توسيع وتطوير الحوار والتشاور على المستوى المركزي وبين الجماعات الترابية والسلطات العمومية والمجتمع المدني والجامعة والفعاليات والمؤسسات الإعلامية والصحفية، سيساهم كذلك في ترسيخ دور وسائل الإعلام كجهاز إنذار وأداة لليقظة المجتمعية وللرقابة على تدبير الشأن العام. ويفرض، من جملة ما يفرض، الانتقال من علاقة الصراع والتوتر والتوجس وعدم الثقة والتفاهم التي ميزت دوما العلاقة بين السلطة والإعلام، إلى علاقات مبنية على مبادئ التكامل والتعاون، مع حفاظ كل طرف على استقلاليته.
 
كما يتطلب الأمر من المؤسسات الصحفية القطع مع أساليب الهواية، والتسلح بقواعد الاحتراف والمهنية، والفعالية، والمصداقية، مع تسخير الإمكانيات الهائلة التي توفرها التكنولوجيات الحديثة لتيسير التواصل مع الرأي العام، وتكريس حق الحصول على المعلومات إلى واقع يلمسه ليس فقط الصحافي ولكن المواطن أيضا.
 
كاتب وإعلامي مغربي