عبد الصادق السعيدي يقدّم رواية "رݣراݣة" لحنان الرݣراݣي: الكتابة ضرب من ضروب الصلاة
الكاتب :
"الغد 24"
مازال النص الروائي "رݣراݣة" للكاتبة حنان الرݣراݣي يستأثر باهتمامات المجالس والمحافل الأدبية ومراكز الدراسات، فبعد العديد من اللقاءات وحفلات توقيع الرواية، تنظم مؤسسة أبو بكر القادري للفكر والثقافة، اليوم الثلاثاء 12 نوفمبر 2024، بمقر المؤسسة بمدينة سلا، لقاء مع الكاتبة حنان الرݣراݣي بمشاركة الكاتب والباحث إدريس العلوي المدغري.
رواية "رݣراݣة" صدرت بالفرنسية، وتُرجمت إلى العربية من طرف الإعلامي والباحث نور الدين الصوفي، فيما ينتظر أن تكون ترجمته إلى الإنجليزية نزلت إلى الأكشاك والمكتبات هذه الأيام...
تقول حنان الرݣراݣي وهي تستحضر خلفيات كتابة رواية "رݣراݣة": "سليلة للنسب الرݣراݣي، وجدتُ نفسي منذ لحظة الطفولة مُفتَتَنَةً بتاريخ أسلافي، إذ دخلت، وأنا عضو في عائلة رݣراݣة، عالماً غامضا تعانق فيه الأسطورةُ التاريخَ. فكانت قصتي هاته حكياً بنَسَغِ الخرافة، وسرداً يأخذ فيه كل قارئٍ بحظه من المتعة والفائدة، خاصة القرّاء الشباب، على اعتبار أن الأساطيرَ تشكل أساسَ الطقوس، وبالتالي فهي تعيش في وعي الناس كحقائق داخلية يصدرون عنها في رُؤاهم وأفعالهم".
وتابعت حنان الرݣراݣي موضّحة: "وقد أعانني كوني حفيدة سيدي واسمين، سلطان الأولياء، على تركيب قطع اللغز التاريخي، الذي يحُفُّ برجال رݣراݣة، وتصفيفها بطريقتي الخاصة، مع الوفاء التام للقصصِ الأصولِ، التي اجتهد ذوو البصر بالتاريخ في تثبيت مروياتها"...
رواية "رݣراݣة" تُعدّ من المؤلفات الاستثنائية المساهمة في طرح ومقاربة "رݣراݣة" بأسلوب مختلف عما أنجز من قبل، حسب مترجمها نور الدين الصوفي، الذي اعتبر أن هذا العمل يستحق التتبع لما يفتحه من آفاق للبحث في هذا المجال، الذي لم ينل حظه بعد من قبل الدارسين والمهتمين...
وستأخذ رواية "رݣراݣة" طابعا خاصا في التعامل الأدبي والاجتماعي مع الفاعل الجماعي والناشط المدني محمد عبد الصادق السعيدي، الذي هو أيضا سليل لأشراف "رݣراݣة"، إنه حفيد نقيب زوايا "رݣراݣة" سيدي محمد بن احميدة، الذي هو أيضا حفيد الشيخ الجليل سعيد بن يبقى، المعروف بـ"سيدي سعيد السابق"... بهذا المنطلق، والأفق في نفس الوقت، يدعو عبد الصادق السعيدي إلى فتح نقاش محلي ووطني حول التاريخ المحلي والوطني لـ"رݣراݣة" بشكل خاص، أولا كمكوّن من مكونات تاريخ منطقتيْ الشياظمة وحاحا، بارتباط مع الدور الذي لعبته في استقرار المنطقة ونشر الدين الإسلامي، وثانيا كموسم سنوي "دور رݣراݣة"، الذي يعد أكبر وأطول موسم على الصعيد الوطني ، إذ يدوم 40 يوما في محطات متواصلة ومتماسكة تجوب مختلف زوايا رݣراݣة بالشياظمة الشمالية والجنوبية وجنوب عبدة وشمال حاحا.
بهذا المنظور المجتمعي العام، سيعتبر عبد الصادق السعيدي أن كتاب "رݣراݣة" يشكل مدخلا عفويا إلى عالم التصوف، ويشق الطريق إلى عوالم جديدة وأفق أرحب يجعلك تسافر لاكتشاف جماليات الطريق الصوفي...
محمد عبد الصادق السعيدي هو، أيضا، كاتب ذلك التقديم الجميل لرواية "رݣراݣة"، والذي عنونه بعبارة مأثورة للكاتب العالمي فرانز كافكا "الكتابة ضرب من ضروب الصلاة"، تقديم تجاوز تلك الحدود المحايدة، والباردة أحيانا، في التعامل مع النص، تقديم تحوّل إلى ما يمكن اعتباره "نصا على نص"، بعدما تلبّسه، وأحاط بمختلف دروبه وجنباته، لكأنه نوع من المرآة العاكسة لجمالية النص الأصلي، ولتفاعلية النص التقديمي، مما يعطي "شحنة" من المتعة لقارئ لتقديم، لكنه يزوّد القارئ العالم بمسارات عبد الصادق السعيدي، بقسط وافر من "شعلة" المتعة والتذوّق والحنين لكل ذلك الزمن اليساري البديع، عندما كان "الرفيق عبد الصادق" يتناول الكلمة، وعندما يخطب في التجمعات، وبين الحين والآخر كانت الكلمات تنساب عميقة بحب وبانسياب وسلاسة مطرّزة بتعابير شعرية نفاذة وجاذبة وفاتحة لأفق حالم بغد جديد سعيد...
في هذه الوقفة، نهدي إلى عموم القراء متعة هذا التقديم، الذي يحرّضنا على الحب وعلى البحث وعلى قراءة رواية "رݣراݣة" بكل ما يلزم من شغف:
رواية "رݣراݣة".. الكتابة ضرب من ضروب الصلاة
محمد عبد الصادق السعيدي
الكتابة ضرب من ضروب الصلاة
فرانز كافكا
في هدوء الصمت، امتد المكان اللامتناهي حولي. استلقيت على ظهري فوق "ݣاعة للَّا مِّينة" لأُكمل قراءة لغز ساحر، أدهشتني تفاصيله الدقيقة، فقد كانت كلماته مُتناغمة كالنغمة العذبة، التي تنساب جرياناً من العين إلى القلب، وكأن كلَّ حرف يحملُ عبقًا خاصًا به. تفاصيله كانت كاللؤلؤ المنثور على الرمال الذهبية، تأسر الأنظار وتشد القلوب إليها بسحرها الفريد. كانت حفيدة "سيدي واسمين" قد نسجت قصة هذا اللغز، مستكشفةً أسراره وملقية الضوء على ألغاز الحياة وجوانب من العالم، لتُخرج كتابًا شعبيًا فريدًا، متاحًا للجميع. يدعوك هذا الكتاب سريعًا إلى رحلة جديدة، لغز محير ومشوق.
يُقدّم هذا النص مدخلًا بسيطًا وعفويًا إلى عالم التصوف، حيث يتغوّل في أعماق الروح ويستكشف جماليات الطريق الصوفي. تأخذنا الحكاية الجذابة والأصيلة في رحلة سحرية إلى عالم التأمل الروحاني، داعيةً إلى تبنّي ثقافة التواصل الصوفي المُبسّط، التي تجسّد السعادة والطمأنينة والسلام الداخلي.
على وتيرة همس الصمت، يغمر المكان الكون بأسره، ألهمتني اللحظة أن أُطلقَ العِنانَ لخيالي ليسبحَ بعيدًا في فضاء الأفكار والأحلام، هنا وهناك، في أعماق ذاكرتي حيث تكمن العديد من الأشياء والأحداث والشخصيات التي غابت عن ذهني ردحا من الزمن، أيقظتها "حفيدة السلطان" من سباتها.
عُدت بذاكرتي إلى أولى لحظات العمر، استحضرت طيف الطفولة التي كنتها تحت "التابية"، وبين أبواب الباب الجْديد، وأرجاء جنان الدار، والزويتين. أستشعر هيبة الأمكنة، واللحى البيضاء، وظلال شجرة الأركان العتيقة. آذان الفجر ينادي، وقصيدة البردة والهمزية تصدح، و"تدريزة" النساء تنبض بالحياة في المساء. أشم رائحة ماء الوضوء، وأسمع دقات العكاز في العتمة، وترتيل الأب السيد وصلواته، وأدعية الشيخ، و"ݣدرة" سيدي محمد بن احميدة تتناغم مع سبحة الجدة فاطنة وعبق البخور يملأ المكان.
لقد جارت دوائر الزمن بسرعة وثَّابة، وكان الزمان أسْرع مما كنت أتصور، دون أن أدري أن سرعته ستفقدني في طريقي كل هذه الأشياء.
شغفت بتفاصيل الحكاية اللغز، بشكل لم تشغلني به كتابات من قبل، ولا حتى كتاب الجد عبد الله السعيدي الرجراجي "السيف المسلول فيمن أنكر على رجراجة صحبة الرسول"، ولا كتاب العم محمد السعيدي الرجراجي "رجراجة وتاريخ المغرب"، ولا حتى الأستاذ إبراهيم كريدية في "أضواء على شرفاء رجراجة ودورهم المشهود" ومقتطفات من "آسفي وما إليه قديماً وحديثاً" لمحمد العبدي الكانوني، وبعض ما أبدعه المختار السوسي في "المعسول" و"ظاهرة سبعة رجال رجراجة" للسوسيولوجي المغربي محمد جنبوبي... وغيرها من الكتب.
كلها وأخرى تناولت تاريخ ركراكة أو جزءا منه.. كان السؤال حاضرا ومحيرا وما زلت لم أبرح "ݣاعة لالة مِّينة"، ربما لأنني قرأت هذه الكتابات بعيون يساري مغترب، منتصرًا للشك، فأعادني العرض الحكائي بنكهة تاريخية إلى الطفل الذي كنته فجاب بي أرجاءً وفضاءاتٍ سافرت معها من جديد عبر حكاية أو رواية أو كتاب فلسفي، اتخذ من الحكي إطارا ليسرد من خلاله جزءًا من تاريخ الإسلام ودروب التصوف، مستثمرا هذا الشكل الروائي المحبوب لتوصيل معطيات تاريخية غزيرة قد تشكل مدخلا لكتابات أخرى.
ببساطتها وتعقيداتها، بغموضها ووضوحها، أعادت الحكاية طرح نفس السؤال الفلسفي: ما هو الأهم في الحياة؟ من نحن؟ لماذا نعيش؟ كيف نحب؟ وما معنى أن نحب؟ إنها الرواية الأولى حول "السبعة رجال"، التي كتبت كما تذكر حنان الرݣراݣي، لليافعين والقراء الصغار، وهو ما دفعني لقراءتها بقلب ووجدان الطفل الذي كنته.
على الرغم من ذلك، فإن نجاح الرواية في نسج المحكية ضمن إطار أدبي أسطوري يثير تساؤلات عميقة تتعلق بالحياة، الوجود، العيش من أجل الآخر، البحث عن الحقيقة، الخير والشر، الكون، والحياة الأخرى... كل ذلك بأسلوب حكائي رائع ونص سردي متميز، تتخلله أحداث متسلسلة زمنياً وعلاقات شديدة التعقيد، مما جعل منه نصاً ماتعاً يبني سريعاً جسر الثقة مع القارئ.
في نهاية هذه الرحلة الفكرية، يبزغ الكتاب كمنارةٍ مضيئة يشق لنا طريقاً إلى عوالم جديدة وأفقاً أرحب، إنه ليس مجرد كتاب، بل رفيقٌ مخلص يمدنا بالحكمة والإلهام في كل لحظة. لذا، دعونا نمتلكه ونستمتع بثمار معرفته، وإني على يقين أننا سنمضي سويًّا في خياطة حكاية جديدة، تنسجم فيها أوتار الحقيقة وتتراقص ألوان الجمال على صفحات حياتنا. فلنمنح الحياة فصولًا جديدة مليئة بالإيمان والأمل، ولنجعل كل لحظة تنبض ببريق يتلألأ في ذاكرتنا إلى الأبد.