الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

ترحال ورحيل.. الإسلاميون والمظلومية وغضب الشعب والبام وبنكيران ووهبي وأخنوش

 
يونس وانعيمي
 
 
ما يقع للإسلام السياسي في البلدان العربية، وحسب ما توقعناه، هي عملية تجفيف أو تقشير للجير detartrage.
لكن لكل بلد طبعا وتيرته في تقليم قلاع الإخوان المسلمين.. كانت عملية عسكرية سريعة وعنيفة في مصر، وعملية سياسية دستورية شمولية في تونس.. أما في المغرب، فالعملية تتم بوتيرة أبطأ من خلال تعرية سياسية ومؤسساتية: فبعدما أعطيت للإسلاميين فرصة تسيير الشأن العام، وفق انتداب انتخاب سليم، وجد المغرب أن الوقت السياسي مواتٍ للتعرية عن مخطط الإخوان في الاستيلاء على دواليب الدولة وفضح غلوهم في ذلك.
الإخوان بالمغرب يعون جيدا أن تقاطبهم الحقيقي مع القصر هو تقاطب مميت لذلك أخفوه في خطابهم السياسي وعوّضوه بخطاب يشيطن المخزن عبر مؤسساته (سموه بالدولة العميقة) وعبر نخبه (سموها بالعفاريت والتماسيح). لكنهم يقعون بين الفينة والأخرى ضحايا "زلاّت" ألسنتهم لتنفضح مواقفهم الحقيقية من الملكية كعقبة هيكلية أمام توطين مخططهم الاحتلالي.
نستحضر، هنا، تصريحات الراحل عبد الله باها، التي كانت تتطاول على القصر وتصفه بالمؤسسة التي يضعفها تعاقدها مع 'الفساد والمفسدين"، الشيء الذي يواتي، حسب رأيه، دخول الإسلاميين للحكم كفرصة تاريخية.. ثم نستحضر خرجة بنكيران الخطيرة حيث خاطب الملك مباشرة (في إحدى تجمهراته الشعبوية) بأن المغرب ليس له وحده وأنه آن الأوان ليشاركه الإسلاميون فيه.. فضلا عن خرجات عبد العلي حامي الدين، الذي هاجم الملكية واعتبرها هي المعرقل الواقعي الوحيد للديمقراطية (على الطريقة الإسلامية طبعا).. وصولا طبعا عند آخر تصريح للإخوانية المتأصلة الأصولية بسيمة الحقاوي التي قالت، في لقاء شبيبي في مراكش، أن العدالة والتنمية حزب موجود بالفعل وبالقوة شاء القصر أم أبى...
تعمدت أن أبدأ من الإشارة إلى المخطط الإسلامي قبل الحديث عن مبرراته وفضح اللعبة الخطابية "البكائية"، التي تتكاثف عند المشروع الإسلاموي في كل لحظة انتخابية..
الازدواجية في الخطاب شملت العديد من المواقف المهيكلة: شملت القوانين المؤطرة للانتخابات، وشملت التحالفات، وشملت آراءهم حول الأحزاب التي تعيش حولهم وحول استعداد هذه الأحزاب للإجهاز الفعلي علي الهيمنة المحتملة للإسلاميين بعد انتخابات شتنبر المقبل.
 
1- ازدواجية في رؤية الانتخابات
تكلم حزب العدالة والتنمية بسكيزوفرينية ممنهجة حول الانتخابات، التي يستعد المغرب لإجرائها بهدف تشكيل مكونات مؤسسات عديدة (ممثلي الإداريين والأجراء وممثلي المواطنين محليا وبرلمانيا).
وطعن الحزب، خطابيا وشعبويا، في النصوص التي استصدرها من موقعه الحكومي.. وصادق بيد على القاسم الانتخابي ولم يتأخر في سحله باليد الأخرى.. وهو تكتيك ليس غريبا عليه، إذ لعب بنفس الازدواجية في ملفات كبرى تورط فيها ضد المواطنين (ملف التقاعد، والتعاقد والمقاصة والمحروقات وضرب القدرة الشرائية بتواطُئِه مع الباطرونا التي يسبها أينما حل وارتحل)...
حزب العدالة والتنمية يتابع بقلق شديد ما يقع وما سيقع لإخوانه في البقاع العربية. ويفهم شيئا مؤسفا هو أنه، بعد كوارثه التدبيرية (للشأن العام ومعيش المغاربة) ونفاقه السياسي مع الناخبين الذي انكشف بعد تلاشي وعوده الأخلاقية، أصبح في الواقع حزبا غير مرغوب فيه...
ولهذه المحصلة مؤشرات انتخابية بدأت تظهر جليا: فقد الحزب الإسلامي تواجده في الاستحقاقات الإدارية للجن متساوية الأعضاء، واليوم يحصل على انتكاسة حقيقية في انتخابات الغرف المهنية.. وغدا سيعد كل ترساناته البكائية (التبريراوية) بما عُرف عنه من مظلومية، ليعطي تبريرات لانتكاساته المحلية والنيابية..
سيشك في نزاهة الانتخابات أو ربما سيجهر من جديد بلغة "القرد والغيلم" ويصور لنا وجود حيوانات مفترسة تستهدفه.. لكن أشك انها هذه اللغة بقي لها شيء من مشروعية.
 
2- ازدواجية في رؤية التحالفات
ينتقد العدالة والتنمية اليوم، من خلال كتابات "منظريه"، مصداقية المنتخَبين، الذين زكتهم الأحزاب المنافسة لهم بمبرر أنهم نخب سياسية ترحل من حزب لآخر ويغيرون أحزابهم كما جواربهم. وهي في نظرهم ظاهرة شاذة يجب القضاء عليها.
لنقف قليلا عند هذا الموضوع..
صحيح أن لظاهرة الترحال الحزبي المحايث لكل موعد انتخابي وقع سلبي على مصداقية السياسة وأثر وخيم على انخراط المواطن في سياسة بدون إحداثيات وملامح. لكن ليس هذا ما يقلق حزب العدالة والتنمية. إنه متوجس أولا بمنهج عمل الأحزاب، التي زاد منسوب استقطاب الأعيان لديها.. وتطورت تكتيكاتها الانتخابية التي بدأت تعتمد على استقطاب جماعات التأثير المحلية les gens d'influence... واستمع العدالة والتنمية لتحليل "ذكي" قدمه إدريس لشكر زعيم الاتحاديين عندما قال إن للتباري الانتخابي، قبل الفوز، منطق تكتيكي مختلف عن العمل السياسي بعد الفوز.. إذ ما يهمه اليوم هو غاية ربح المقاعد حتى ولو اقتضى الأمر استعمال وسيلة الأعيان كوسيلة براغماتية وبعد ذلك، وبعد ترسيخ الفوز، يمكن أن ننفذ الرؤية السياسية المجردة والمبدئية...
لذلك، سيضطر "حزب الإسلام" القيام بأكبر عملية ترحال سياسي حدث في المغرب: هو تحالفه مع حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان ينعته الإسلاميون، للأمس القريب، بآلة جهنمية حاشدة لأكبر منسوب من الأعيان.. هو ترحال أكبر وأخطر من تلك الرحلات الصغيرة العرضية التي يقوم بها أفراد عزل من حزب لآخر.. أليست، سيدتي بثينة القروي، المنظرة الفذة الإسلامية، ترحالا سياسيا كبيرا؟
في نظري يمكن اعتبار القفز وتغيير المبادئ أكبر ترحال.. بل وأخطره. حيث يخرج علينا السي سليمان العمراني، نائب الأمين العام للحزب الإسلامي، بنظرية خارقة في "الاستقلاب السياسي" حيث يخبرنا أن العدالة والتنمية ينظر إلى التحالفات بعينين مختلفتين: هناك تحالف مصلحي محلي يفرضه الواقع المحلي، وهناك تحالف سياسي عام تفرضه المبادئ العامة.. ماذا نفهم؟ نفهم أن الإسلاميين يمكن لهم أن يسبوا حزب الأصالة والمعاصرة أو التجمع الوطني الأحرار في نطاق الخطاب العام (الشعبوي طبعا) لأنه ضروري بالنسبة لهم أن يكون هناك صراع طاوي taoïste بين ملاك وشيطان.. ثم بعد ذلك يمكن لهم أن يتحالفوا معهم في تسيير مجالس جهات محلية... السي العمراني هنا يعطي للازدواجية والترحال في المبادئ صفة نظرية داروينية في الارتقاء.
 
3- بعد إلياس العماري هناك عزيز اخنوش
كما سبق وأشرت إليه، ضروري في خطاب الإسلاميين أن يكون هناك عدو (أو بالأحرى شخص يلبسونه ذلك اللباس).
عشنا معهم حلقات في البهرجة خصوصا مع "مهرج" اسمه بنكيران، كال السب والشتيمة لأناس من الأصالة والمعاصرة، منهم العماري وبن شماس، باعتبارهم شياطين حقيقيين من آل كفرة ماو تسي تونغ... وأفزع المغاربة منهم بدون أن يسمي الأمور بمسمياتها..
اليوم، وبالرغم من خفوت صوت المهرج، ما يزال حزب العدالة والتنمية ينتهج نفس التكتيك.. لكن بشخوص جديدة أولها عزيز اخنوش زعيم الحمامة والمنافس "الطبيعي" لهم.
يسبون الأحرار باعتبارهم مرتعا لأباطرة المال.. ولكن من دون أن يعترفوا بأنهم كانوا أطيب وأصدق صديق وداعم لهم من خلال كل قراراتهم الحكومية.
يسبون عزيز أخنوش باعتباره يشبه ذلك "الثقب الأسود" الذي يفترس كل "الأجرام السماوية" ليستدمجها في حزبه.. لكن طبعا بدون أن يشيروا إلى أن مصالح أخنوش المالية لم تكن لتنتعش إلا بوجود وبفضل الإسلاميين من مواقعهم الحكومية.. يسبونه اليوم وهم الذين انحنوا له، بكل مهانة، عندما وضع تحفظه السياسي من مشاركة حكومة بنكيران الثانية التي سقطت سقطة سياسية...
وحتى محاولة استقوائهم الماكيافيلي بحزب البام لمحاصرة حزب الحمامة كشف أولا عن خوفهم الحقيقي من الغرق، ثم ثانيا عن سذاجتهم السياسية لأنهم وثقوا في عبد اللطيف وهبي ذلك "الثعلب" الذي يعي جيدا أن مشواره السياسي لا يمكن أن ينهيه بسرعة مع حزب تريد أكثر من جهة أن يجمع امتعته للرحيل.
كلمة أخيرة عن رفض الأمانة العامة للعدالة والتنمية من تزكية ترشح بنكيران في سلا. إنها إشارة إلى أن الحزب يحاول أن يتبث أنه عاد وطبيعي وأنه انفض من هويته الصدامية السابقة... لكنها إشارة زادت تأكيدا على أن خروج الإسلاميين إلى المعارضة سيكون ذلك المسمار الأخير الذي سيدقونه على نعشهم لأنهم، بدون صلافة بنكيران، سيذوبون في مقاعدهم الكثيرة تحت وقع البكم والصمم كما يذوب عقار وجع الرأس..