تلقت الساحة الإعلامية والثقافية، بصدمة كبيرة، صباح اليوم الأربعاء 9 دسمبر 2020، وفاة الإعلامي والشاعر والكاتب المبدع، حكيم عنكر، عن 52 عاما، متأثرا بمضاعفات إصابته بفيروس كورونا...
كم يلزم الواحد ليصدق: حكيم عنكر مات.. كم يلزم من القوة لوقف دموع تنزل مدرارا.. وعلى الفور تهاجمك صورته طلعته البهية وذلك العزم والشموخ عندما كنا نهتف جماعيا: "الأمل الأمل.. منظمة العمل"...
في صورته، كما في كتاباته، تكاد تجتمع كل المتناقضات، إذ بمجرد ما تصل إليه تكفّ عن التناقض، وتتوحّد، والسر: لأن حكيم كان إنسانا جمعيا، فيه الحكمة وفيه التهور المشاغب الجميل، فيه الرزانة وفيه الانفلات الجميل، فيه الجدية وفيه الهزل الجميل، حتى في المواقف، مر بكثير من المواقف السوريالية، أذكر في تسعينيات القرن الماضي، عندما كنا نستقر في الرباط، ونشتغل في الرباط، كان حكيم يبدأ صباحه في مقهى المثلث الاحمر، يفطر، ويطالع الصحف، ويتسلم البلاغات، وتأتيه الأخبار، فلا يدخل الجريدة إلا و"المزيودة" عامرة.. مرة، صادف احتجاجا لنقابة التجار المتوسطين والصغار، أمام غرفة التجارة، على مقربة من مقهى "التريونگل روج"، فالتقطه نقابي يعرفه، وطلب منه الوقوف معهم، وفي لحظة حماس، هجم المحتجون على الغرفة، واحتلوا المنصة، ووجد حكيم نفسهم معهم معتليا المنصة، وأعطوه الميكروفون ليخطب في التجمع... وحين كان حكيم يخطب ويندد ويدين ويستنكر، كانت قوات التدخل السريع تقتحم المكان، وتحتفل بعظام المحتجين بواسطة هراوات "سبيسيال"، كانت اقتنيت حديثا آنذاك من كرواتيا، ولما وصلوا إليه، شرع حكيم يصرخ: الصحافة، الصحافة الوطنية، لعله يفلت من هراواتهم، وما أفلت، لم يعتقلوه، لكن "احتفلوا" بعظامه وضلوعه...
عندما كان حكيم يحكي الواقعة، كنا نستلقي على القفا ضحكا، بل قهقهات، عندما تكون مع حكيم لا مجال للاعتدال والاتزان، تضحك بقوة، تقرأه بافتتان، إذ كان كل شيء يبدع فيه بعنفوان: عندما يكتب الشعر، ويكتب النقد الأدبي، ويكتب السياسة، ويكتب المجتمع، ثم عندما يكتب كل أجناس الصحافة: من الخبر إلى التعليق إلى التحليل الإخباري إلى الروبورطاج وإلى التحقيق... كان حكيم دائما المفرد والجمع...
وهذا المبدع في الكتابة الصحفية الاجتماعية والثقافية والسياسية والنقدية، مبدعٌ أيضا في السياسة، وعندما يغضب كان الغضب يظهر عليه في عقدة حاجبيه، لكنه دائما ما كان يمتلك صحوه، وتيقظه، في ممارسة مسؤولياته الشبيبية والحزبية، في حركة الشبيبة الديمقراطية، وفي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي... وكنا نجد فيه باستمرار ذلك الحكيم المتعدد...
في القصيدة، يكون حكيم من هو، "كيكون في نهارو"، في ألقه وبهائه وصفائه، وفي الوقت نفسه في جنونه، قد يتجاسر، قد يناور اللغة، قد يراودها ىفيومض ويخبو ويباغتها لتسلم له قيادها، وكذلك كانت تفعل، وكانت تتصابى أمامه عندما يكون يحاور أو بصدد تقديم شاعر كبير للجمهور، من محمود درويش إلى محمد علي شمس الدين، حيث كان بحق شاعرا "ينازل" شاعرا، خصوصا في الساحة الخليجية، التي شهدت العديد من منازلاته، إذ اشتغل لفترات من الزمن في كل من الإمارات وقطر، وفي ذلك، كان يواجهه أحيانا سؤال الهوية، وكان لا يتردد في الإجابة وفي ممارسة الإجابة، وفيهما معا كان يجسد معنى أن يكون مغربيا...
أن يرحل عنا حكيم هكذا يحس الواحد أنه ظلم، أو إنه طعنة غدر من كورونا، أو... معذرة أحيانا قد لا نعرف ما نقول من قوة الصدمة وهول الفجيعة حتى بدأت أستحضر ذكريات، وكتابات، هي في الواقع نوع من الهروب من الفجيعة وصدمة فراق أبدي... أعترف أنني أريد الهروب.. أعترف أنني لا أعرف كيف أتمالك دموعي.. أعترف أنني مهدود منهزم مصدوم وتالف.. أحيانا آخذ الهاتف وأخرج اسمه ورقمه، هل أناديه، أكتب كلمات، جملا، ثم أتوقف، تعود بي الذاكرة إلى لقاءاتنا المتعددة والكثيرة، وتهجم الفجيعة، فأبحث عن الهروب...
رجاء اعذروا هروبي الآن، وتقبلوا أحر التعازي والمواساة.. لكل أفراد عائلته الكريمة، ولكل رفاقه وأصدقائه وزملائه.. عزاؤنا واحد...
الفقيد حكيم عنكر وضحكة الرفيق محمد بنسعيد الجميلة
هذه الصورة التُقطت يوم 23 أبريل 2013، يعانق فيها فقيدنا حكيم عنكر المناضل التاريخي وقائد جيش التحرير في الجنوب المغربي الرفيق محمد بنسعيد أيت إيدر.. وكنت شاهدا أن رفيقنا بنسعيد كان يعز فقيدنا حكيم كثيرا، وكان يسأل عنه باستمرار، وعندما باعدت بينا انشغالات المهنة واستهلكنا اليومي، كان بنسعيد عندما يلقى حكيم يبتسم، ويسأله عن الغيبة، ويقول له "ولينا نشوفوك غير في الجرائد"....
مرة، كتب الفقيد حكيم عنكر عن ضحكة بن سعيد أيت إيدر الجميلة:
أهم ما في محمد بنسعيد آيت إيدر، زيادة على أمور أخرى وخارج الألقاب، هذه الضحكة.. كان يبشّ في وجهي كلما التقيته، ويسعد.. ويسعدني اليوم أنه موجود بيننا، فهو لم يسمح أن "يبيعه" أحد في سوق المزايدات.. حتى في اللحظات العصيبة التي عاشتها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي.. كان يبتسم ابتسامته المعلومة، ويذهب إلى ما هو صواب.. ولو أراد أن ينهب مثل الناهبين، لما عاش حتى هذا العمر من الصفاء.. ابتعدوا عن الرجل، إنه يعرف جيدا "تقنية خاوية في عامرة"...