بعيون الإعلامي الكبير الصديق معنينو.. أسرار المخطط السري الذي وضعه الحسن الثاني للمسيرة الخضراء
الكاتب :
حسن عين الحياة
حسن عين الحياة
مرت 45 سنة على ملحمة "المسيرة الخضراء"، التي دعا إليها الملك الراحل الحسن الثاني، والتي استرجع المغرب بواسطتها صحراءه من قبضة الاستعمار الإسباني.. وهي مدة، تمكنت من خلالها المملكة أن تكرس مغربيتها على هذا الإقليم الذي ظل خاضعا عدة عقود لقوات "الجنرال فرانكو"، وأن تركز على تنميتها وتأهيلها، وأن تشيد على امتدادها مدنا من عدم، في ظرف وجيز لم يتجاوز الخمسة والأربعين سنة، رغم العراقيل، التي وضعها وتفنّن فيها خصوم وحدة المغرب الترابية.
اليوم، تشكل عدد من المدن بالصحراء المغربية، نموذجا تنمويا يضاهي مدن الداخل على مستوى مؤشر التنمية، بعد أن ضخت الدولة أموالا طائلة، بشكل تضامني، في شرايينها، لتصبح على ما هي عليه اليوم، كمحطة جذب كبرى للمشاريع التنموية.
ولأن "الأثر يديل على المسير"، فلم تعد الصحراء المغربية اليوم في حاجة إلى من يصف الدينامية التي تعيشها، خاصة في عهد الملك محمد السادس، أو إلى التذكير، كيف تحولت مدنا كالعيون والداخلة وبوجدور والساقية الحمراء إلى وجهات مفضلة للجالس على العرش.. ذلك أن كل المراقبين، سواء في الداخل والخارج، يعتبرون الصحراء المغربية اليوم، قطبا تنمويا واعدا، من شأنه أن يلعب أدوارا كبرى على مستوى تنمية القارة الإفريقية، خاصة بعد اعتماد المغرب منذ حوالي سنة "فلسفة القنصليات" لتكريس الطابع المغربي على صحرائه.
لكن بين الأمس واليوم، ثمة محطة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، يعود إليها المغاربة سنويا، ملكا وشعبا بنوستالجيا مفعمة بحنين الانتصار، هي ملحمة المسيرة الخضراء.
اليوم هناك مشاهد متفرقة عن حدث المسيرة الخضراء، رصدها رجل عايشها وساهم في الإعداد لها وتفاعل معها واحتك عن قرب بصانعها الحسن الثاني وبرجالته ممن انهمكوا في تنفيذ "مخططها السري".. هو الإعلامي الكبير الصديق معنينو الذي ارتبط اسمه طويلا بالإذاعة والتلفزة المغربية.
وهنا تحديدا، لابد من تسليط الضوء على كتابه الممتع "أيام زمان" في جزئه الثاني "الفتح المبين"، والذي جاء تتمة للجزء الأول "موكب السلطان"، ليكون هذا "الفتح" بوابة أخرى لنسيح في تفاصيل مشوقة ومغرية حول "المسيرة الخضراء"، وكيف أعدها الحسن الثاني وغلفها بطابع سري، قبل أن يفاجئ بها خصومه الإسبانيين والجزائريين.. لكن بين كشف وآخر، يفاجئنا الصديق معنينو بوقائع غاية في الإثارة سبقت تنظيم المسيرة، نستعرضها في هذا الملف...
الاسم السري للمسيرة الخضراء تيمنا بفتح مكة المكرمة
في كتابه "أيام زمان - الفتح المبين" يستعرض الصديق معنينو محاطات بارزة سبقت موعد انطلاق المسيرة الخضراء وأخرى خلالها وبعدها.. ليقف بالتفصيل عند بعض هذه المحطات، في محاولة لرسم سيناريو، من زاوية شاهد على العصر، حول ما لم تلتقطه عدسات الكاميرات آنذاك، خاصة وأن ذلك الزمن، كانت فيه التلفزة المغربية تعتمد على وسائل "بدائية ومتخلفة" يصعب معها تأريخ بعض الأحداث التي ساهمت في إنجاح المسيرة.. لكن هنا، يعيد معنينو رسم الأحداث بالكلمة، لتكتمل الصورة في الأذهان بلغة شاهد من قلب الحدث...
يصر الكاتب، خلال جزء مهم من الكتاب، على الطابع السري الذي لف كل الجوانب المتعلقة بإعداد الحسن الثاني للمسيرة الخضراء.. سواء تعلق الأمر بالفكرة، الإعداد، التنظيم، التعبئة، اللوجستيك والتنفيذ.. لكن قبل أن نغوص مع معنينو في بحر الأحداث، تنبغي الإشارة إلى أن فكرة تحرير الصحراء المغربية من قبضة الاستعمار الإسباني، التي انطلقت من "رؤيا رآها الحسن الثاني في منامه"، لعب من خلالها الملك الراحل على عنصرين مهمين.. وطني وديني، كما كان لها تسمية أخرى استبدلت بـ"المسيرة الخضراء"، ما أدى بها إلى بلوغ أهدافها كما رسمها الرسام في ذهنه أول مرة.. وهنا يقول معنينو "إذا كان الدافع الأول الذي انبثقت منه الفكرة، هو دافع وطني، فقد أضاف إليه الملك دافعا آخر، من نفس القوة، هو العامل الديني، إذ كان الاسم السري للمسيرة هو "فتح"، تيمنا بفتح مكة المكرمة وما صاحَب تلك الملحمة من حكمة سياسية نبوية انتهت بالفتح المبين".
سيكولوجية ملك.. الحسن الثاني يهيء المغاربة نفسيا للمسيرة
دون أن يطلعهم على المخطط
قبل سنة 1975، كانت الأحداث تتناسل بسرعة بين المغرب وإسبانيا.. ففي بداية يوليوز من سنة 1974، التي سماها معنينو بـ"سنة المناورات"، استدعت الخارجية الإسبانية سفراء المغرب وموريتانيا والجزائر، وأبلغتهم عزم مدريد على إجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء، وقال الوزير الإسباني وقتها إن "بلاده مقبلة على الشروع في نهج سياسة جديدة في الصحراء". يقول معنينو، قبل أن يضيف أن المغرب، فور توصله بهذا الخبر "بعث الحسن الثاني برقية إلى فرانكو أكد فيها (إذا تحقق ذلك فسيفضي إلى تدهور العلاقات القائمة بيننا.. إن أي عمل تقوم به إسبانيا على انفراد في المناطق الصحراوية، سيضطرنا لا محالة إلى السعي من أجل حماية حقوقنا المشروعة... أنا وحكومتنا نحتفظ لأنفسنا بحق القيام بما يقتضيه الموقف)".
بالنسبة لمعنينو، كان تهديد المغرب صريحا. لكن بالنسبة للملك الراحل الحسن الثاني فقد دفعه هذا التطور إلى إعداد العدة، والتهييء النفسي للمغاربة استعدادا لحدث أكبر.
لم يمر على اجتماع وزارة الخارجية بسفراء المغرب وموريتانيا والجزائر سوى أسبوع واحد، حتى كشف الملك عن جزء من مخططه.. يقول معنينو "في خطاب عيد الشباب، في تاسع يوليوز، دق الحسن الثاني ناقوس الخطر، وقال... (نظرا لخطورة الموقف، أريد منك شعبي العزيز، ومن شبابك المتوثب، أن نجعل من السنة المقبلة سنة استكمال حريتنا واستقلالنا الترابي)... ثم استعرض تاريخ قضية الصحراء، وأكد أنه في سنة 1965، وضمن احتفالات المغرب بمرور عشر سنوات على استقلاله، استقبل الملك وزير خارجية إسبانيا وقال له... (إننا نطالبكم بإرجاع الأراضي المغتصبة والصحراء التي تديرونها... إننا عازمون على عرض القضية على أنظار الأمم المتحدة إذا لم تُرِد إسبانيا أن تعترف لنا بحقنا وترُد لنا صحراءنا)".
وبحسب معنينو، فبعد هذا الخطاب، تحدث الحسن الثاني في خطاب 20 غشت من السنة ذاتها "عن ملف الصحراء، وأبرز الجهود الدبلوماسية الكبيرة التي قام بها" من أجل الملف. ولم يمر سوى أسبوع واحد على هذا الخطاب حتى اجتمع الملك بعدد من الوزراء وزعماء الأحزاب.
معنينو "أذكر أنه في منتصف شهر يوليوز (1974)، ترأس الملك اجتماع "اللجنة العليا للدفاع الوطني"... هذه اللجنة مكونة من الوزراء ومن رؤساء الأحزاب السياسية... قمت بتغطية هذا الاجتماع، ولاحظت جلوس رؤساء الأحزاب عن يمين الملك، والوزراء عن يساره.. كان قادة الأحزاب على هذا الترتيب في الجلوس... عبد الكريم الخطيب، عبد الرحيم بوعبيد، أمحمد بوستة، أبو بكر القادري، المحجوبي أحرضان وعلي يعتة... بدأ الاجتماع في الموعد المحدد، وكان الجو متوترا والشعور بالمسؤولية باديا على محيا الجميع... وقال بلاغ للديوان الملكي.. (قدم الملك توجيهات إلى الحاضرين... الذين أسند إليهم مهمة شرح موقف المغرب من قضية صحرائه، في مختلف الدول الصديقة والشقيقة).. بعد الاجتماع، حاولت الحصول على تصريح لبعض الحاضرين، لكني لم أوفق في ذلك... وكيفما كانت الوضعية، كان هذا الاجتماع، لهذه اللجنة، إيذانا بانطلاق عملية دبلوماسية عالمية لشرح موقف الرباط...".
وعلى الرغم من كونه أخذ في تهييء المغاربة نفسيا لما هو قادم، ظل الحسن الثاني محتفظا بفكرة تنظيم المسيرة لنفسه ولم يشرك فيها أحدا إلا حين اقترب موعدها. لكن من خلال معنينو، أخذ الملك في تهييء مدينة طرفاية لتكون واسطة العقد بين المغرب وصحرائه الخاضعة للاحتلال الاسباني، وأيضا لتكون منطلقا لأهم حدث عرفه المغرب المستقل (المسيرة الخضراء).
وقبل سنة من انطلاق المسيرة الخضراء، وتحديدا في 2 شتنبر 1974، يقول معنينو، كان الحسن الثاني قد استقبل في أكادير وفدا من شرفاء قبيلة الرقيبات، وهي من أقوى القبائل الصحراوية.. بعدها "استقبل الملك ممثلي طرفاية وأكادير، وخاطب المسؤولين... (أطلب من جميع الأطراف أن يولوا إقليم طرفاية اهتماما بالغا... علما منهم بأن هذه المنطقة أصبحت الآن بمثابة رباط نعد فيه ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل... حتى إذا زحفنا تمكن المغرب من أن يكون زحفه زحفا شاملا سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا).
ويتذكر معنينو أن الملك أضاف بلهجة فيها تحذير "نأمل ألا نضطر إلى استعمال العنف... مؤملين ألا تجد عناصر السوء وعناصر التفرقة الفرصة لمحاولة التفرقة بين الإخوة... إنهم مدفوعون من مصالح أجنبية وعالمية ليصطادوا في الماء العكر.. إننا نأمل أن يقف هؤلاء المخربون عند حدهم... ولن نتأخر في الضرب على أيديهم، نحن المغاربة، كرجل واحد...".
بعد مرور أربعة أشهر، على هذا الاستقبال، حظيت مدينة طرفاية برعاية ملكية، تمهيدا لقيامها بالدور الذي رسمه لها الحسن الثاني، حيث ستكون، بعد 10 أشهر، نقطة انطلاق المسيرة الخضراء.. وهنا يقول معنينو، إنه في يناير 1975، وهي السنة التي سماها بـ"سنة الحسم".. "قام ولي العهد سيدي محمد، مصحوبا بشقيقاته الأميرات بزيارة إلى طرفاية دامت أسبوعا كاملا... استقبل الأمير ممثلين عن القبائل الصحراوية، ودشن مشاريع تنموية، وحضر مناورات عسكرية... كانت رسالة الحسن الثاني واضحة... (هذه المنطقة لم تحظ بالرعاية الكافية، لكن هاهم أبنائي بينكم يجددون الاتصال والعهد)".
هكذا وضع الملك سر المسيرة الخضراء أول مرة
بيد بعض المقربين.. قبل أن يشرك فيه بوستة وبوعبيد
يروي الصديق معنينو حدثا مهما، جرى بمناسبة ذكرى "ثورة الملك والشعب" في 20 غشت 1975، أي على بعد أقل من ثلاثة أشهر من انطلاق المسيرة الخضراء، حيث بدا الملك من خلال خطابه أنه عازم على شيء، أو يهيء لشيء ولكن لا أحد يتكهن بما كان في طور الإعداد.. وحسب الكاتب، قال الملك... "لا أريد أن نظل كل يوم نردد أننا سنعمل وسنعمل،... لأن الذي يتحدث كثيرا، يصيح كثيرا، لن يعطي جيرانه (يقصد الجزائر وإسبانيا) أية قيمة لكلامه.. أما نحن فلن نتحدث، والجواب ما سوف يرون لا ما يسمعون".
ويضيف معنينو الذي يحتفظ بأرشيف مهم عن هذه الفترة، أن الحسن الثاني قال للمغاربة "وحينما يحين الحين، ويدق الوقت، يجب على كل واحد منا أن يهيء حقيبته، ويبرئ ذمته، ويركب مطيته لكي يذهب إلى الساحة". وعلى الرغم من ذلك، فهم المغاربة أن الملك يُعد لحدث كبير في الصحراء الخاضعة وقتها للاستعمار الإسباني، لكن لا أحد كان يعرف ما يفكر فيه بالضبط.
"وقد رأى الملك أن نجاح مثل هذه التظاهرة الشعبية الضخمة، كوسيلة للاحتجاج والتضامن والتحرير، هو المحافظة على سرية إعدادها وذلك باستعمال كافة وسائل التمويه والاحتياط حتى لا ينفضح أمرها" يقول معنينو.
لكن الملك رغم هذا الاحتياط، سيطلع لأول مرة ثلاثة أشخاص على سره، على بعد أسابيع قليلة من انطلاق المسيرة الخضراء.. هنا يقول معنينو "سأعلم لاحقا أن الملك استدعى في صيف 1975 ثلاثة من كولونيلات الجيش، والذين أصبحوا جنرالات في ما بعد وهم: أشهبار وبناني والزياتي.. وكلفهم بإعداد أكبر عملية لوجيستيكية عرفها المغرب الحديث".. ويضيف الكاتب أن هؤلاء الضباط أقسموا أمام الملك للحفاظ على السرية التامة للمهمة التي كلفوا بها.
"كان عليهم أن يعدوا برنامج عمل، يضمن نقل وإطعام مئات الآلاف من المغاربة، وبعيدا عن مدنهم وقراهم بآلاف الكيلومترات.. اشتغل الضباط وراكموا من وسائل النقل وأطنان الطعام ووسائل حفظ وتخزين المياه... ما أنجح ما سمَّيته بـ"أعظم عملية لوجيستيكية" يمكن تدريسها في أرقى الكليات العسكرية". يقول معنينو.
وإذا كان الحسن الثاني قد أشرك بعض الأطر الوازنة في الجيش في سره، فقد توجه إلى بعض زعماء الأحزاب السياسية الوازنين من أجل أن يدخلهم في مشروعه الكبير.. وبلغة الشاهد، يكشف معنينو عما دار بين زعيمي حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي امحمد بوستة وعبد الرحيم بوعبيد والحسن الثاني. "قال لي بوستة... (زارني أحمد العراقي وزير الخارجية إذاك، كما زار عبد الرحيم بوعبيد، وأخبرنا بأن الملك يود الاجتماع معنا.. فعلا توجهنا إلى القصر الملكي.. أدخلنا الملك إلى قاعة، توجد في مستوى تحت أرضي، أقفل الأبواب... اندهشت أنا وعبد الرحيم بوعبيد لهذه الاحتياطات... فاجأنا الحسن الثاني قائلا.. سأطلعكم على سر لا يعلمه إلا بعض الأفراد... ستة أو سبعة أنا واحد منهم)" يحكي معنينو.
ويروي بوستة للكاتب كيف أن الحسن الثاني قبل أن يطلعهم على السر، طلب منهم تأدية القسم للحفاظ عليه... بعدها قال لهم الملك "أنا أهيء مسالة كبيرة... فقد حان الوقت لاسترجاع المناطق المغتصبة وخاصة الصحراء التي توجد بيد الإسبان"... ويضيف بوستة في حديثه لمعنينو "صمت الحسن الثاني لحظة... أخرج من جيبه ورقة كتب عليها بخط يده القسم الذي علينا أن نردده. ويضيف بوستة.."مازلت أحتفظ بتلك الورقة.. أحملها معي في جيبي أينما حلل وارتحلت".
الحسن الثاني يفاجئ عماله بقرار المسيرة الخضراء
ويجبرهم على القسم حفاظا على سريتها
في مقدمة كتابه، أشار معنينو بعجالة إلى أن الحسن الثاني اختار بعناية الأشخاص الذين أطلعهم على سر "المسيرة الخضراء". وأنه "لتعبئة الأشخاص، الذين سيتولون إعداد هذا التجمهر الضخم، كان الملك يطلب من كل الذين أطلعهم على السر أداء القسم. عسكريين ومدنيين، وزراء وعمالا... رؤساء أحزاب ومساعدين... كان يحرر القسم بخط يده ويوقِّعه، ويحتفظ به في جيبه إلى أن يفاجئ مخاطبيه حين يطلب منهم ترديده أمامه".
لذلك، وبعدما أخبر ضباطه الثلاثة، أشهبار وبناني والزياتي بسره، وسع من الدائرة أسابيع قبل موعد انطلاق هذا الحدث الضخم. هكذا إذن، يقول معنينو عندما تقدمت الاستعدادات، واتخذ الملك قراره النهائي، وكان ذلك في أوائل رمضان (1975)، "حينذاك أمر الحسن الثاني وزيره في الداخلية باستدعاء كافة العمال إلى الرباط، على أن يقوم بالتغطية الضرورية حتى يبدو الاجتماع عاديا... بينما كان الهدف الحقيقي، هو أن يجتمع الملك سرا مع العمال، ويحيطهم علما بقرار تنظيم المسيرة الخضراء".
ويعود معنينو إلى التفصيل أكثر، من خلال استعانته بشهادة قوية لـ"حفيظ بن هاشم" الذي تقلد عدة مناصب منها المدير العام للأمن الوطني والمندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج.. حيث قال "كانت مفاتيح السر تقضي بالسرية والكتمان التَّامين، ويحكي حفيظ بن هاشم، وهو أحد مساعدي وزير الداخلية، بأن الوزير دعا العمال إلى اجتماع روتيني بالرباط، بجدول أعمال يتضمن مواضيع عادية ومتداولة... جاء العمال إلى العاصمة، كل واحد يحمل ملفاته وهموم منطقته، يرجو الدعم والتفهم والمساندة... مر الاجتماع في إطار عادي، وناقش العمال قضايا عمالاتهم وأقاليمهم، وعند اقتراب موعد آذان المغرب توجهوا للإفطار... بعد وجبة الأكل.. صلى بعضهم... وبحث آخرون عن مكان هادئ للتدخين... وهم كذلك... أخبرهم الوزير بأن عليهم أن يركبوا الحافلات الواقفة بباب المنزل، لأنهم سيتوجهون إلى مكان آخر".
ويضيف المتحدث، تدريجيا توجهت الحافلات نحو القصر الملكي.. "في الحافلة أخبرهم أحد المساعدين بأنهم سيمثلون بين يدي جلالة الملك...". وعن حالة التوتر التي سادت الأجواء بعد هذا المنعطف الذي أدى بالعمال إلى القصر وهم لا يشعرون "ظن البعض أن تعديلا سيقع بعد لحظات وبموجبه سيتم الاستغناء عن عدد منهم.. خيَّم صمت قاتل على راكبي الحافلات... شعر العمال بهيبة وكأنهم مقدمون على امتحان عسير...".
دخل العمال القاعة بالقصر الملكي (كان ذلك في 26 شتنبر 1975 الموافق لـ18 رمضان الكريم)، لكن ما كادوا يجلسون حتى ظهر الملك، يقول معنينو، قبل أن يضيف "فورا طلب منهم الوقوف وتأدية القسم". وحسب الكاتب، أخبر الملك العمال بأن ما سيقومون به سرٌّ لابد من الحفاظ عليه، وأنه عازم على إعداد مظاهرة وطنية بمشاركة عشرات الآلاف من المتطوعين... وقال لهم (سيتم نقل هذا العدد الهائل إلى "طرفاية" لدخول الصحراء ومواجهة جيش الاحتلال)... صاح الملك "المسيرة سلمية لا سلاح فيها والمتطوعون سيحملون الأعلام".
ويحكي معنينو أنه بعد هذا التقديم، استمع العمال إلى شروحات وبيانات عن المخططات التي تم إعدادها، ومراحل تنفيذها، وتقنيات الحفاظ على السر موازاة مع القيام بالاستعدادات المطلوبة، كما دعاهم هؤلاء الخبراء إلى الاحتياط وعدم استعمال الهواتف والفاكس أو الحديث مع أي كان.
بعد ذلك، يقول الكاتب، طلب مؤطرون آخرون من العمال إحصاء كافة المواد التي من الممكن استعمالها في المسيرة. مثل الطحين والسكر والزيت والمصبرات والشموع والوقيد وقنينات الغاز. و"كان عليهم كذلك أن يقوموا بإحصاء وسائل النقل وإمكانيات الإقامة من خيام ولوازمها ومن أغطية وأثواب... ظل العمال صامتين يستمعون... قال لهم الملك حسب حكي أحد العمال .. "نحن على العهد".. وانصرف".
بعدما اطلعهم على سر المسيرة الخضراء الملك يحذر وزراءه
من الهاتف والفاكس والأحاديث العائلية واستماع الكاتبات والمساعدين
كان التمويه والاحتياط عنصرين أساسيين للحفاظ على سرية المسيرة الخضراء.. فخلال الثلاثة أسابيع الأخيرة التي سبقت يوم الإعلان عن المسيرة الخضراء، يقول معنينو، كانت لجنة وطنية من الداخلية والدرك تنتقل سرا إلى مكان الاجتماع الذي يحضره العمال دون سياراتهم الرئيسية وسواقهم العاديين... وكانت الاجتماعات تنعقد في بعض الثكنات، أو الدور العادية، وعند نهاية أشغالها يعود كل عامل إلى دائرة نفوذه، يعود الوفد القادم من الرباط إلى منطلقه.. وفي الصباح كان الجميع يلتحق بعمله ويقوم بمهامه الروتينية دون إثارة الانتباه.
وبعين الملاحظ، يرصد معنينو الأجواء التي سادت هذه الخلايا التي تشتغل بسرية، "مظاهر عادية واجتماعات روتينية تعقد لدراسة أسعار المواد الغذائية في رمضان.. وخلف الستار كانت الاستعدادات تجري لإنجاح المسيرة الخضراء".
كان الحسن الثاني ضابطا لإيقاع الوقت، ويعرف متى يطلع هذا المسؤول أو ذاك على أمر المسيرة الخضراء.. لذلك، وقبل عشرة أيام فقط من توجيه خطابه للمغاربة للإعلان عن عزمه تنظيم المسيرة، ترأس خلال أيام رمضان، وتحديدا في 5 أكتوبر 1975 اجتماعا وزاريا يتضمن جدول أعماله الدراسة والمصادقة على عدد من مشاريع القوانين والمراسيم... هنا، يقول معنينو "لاحظ الوزراء أن هذا الاجتماع انعقد في قاعة غير القاعة المألوفة... وهي القاعة التي ستسمى لاحقا (قاعة المسيرة)".
ويضيف الكاتب أن الوزراء وقفوا عند دخول الملك قاعة الاجتماع، وأقفلت الأبواب. بعدها فاجأ الملك الوزير الأول أحمد عصمان والوزراء بأن طلب منهم تأدية القسم.. "وقفوا مندهشين يرددون القسم، متسائلين عما حدث أو ما قد يحدث... لكنهم جميعا أحسوا بأن في الأمر شيء بالغ الأهمية"، يقول معنينو، ليضيف أن الملك أبلغ وزراءه بعزمه على تنظيم "المسيرة" وقدم عرضا حول فلسفتها وأهدافها ومراحلها.. ثم غادر القاعة.. ظل الوزراء صامتين، ويقول الوزير الأول "كان الصمت رهيبا... وبعد لحظات عاد الملك وخاطبنا قائلا.. إن كل واحد منكم حر بالقبول أو الرفض، ولكن عليه أن يقول رأيه بتجرد وحسب ما يوحي به ضميره".. وبعدها عبر عصمان للملك عن الانخراط التام الكامل للحكومة وراء المبادرة الملكية..
يقول معنينو "ابلغ الحسن الثاني وزراءه بضرورة الاحتياط، وحذرهم من الهاتف والفاكس والأحاديث العائلية واستماع الكاتبات والمساعدين... وقال لهم (إياكم أن تتناولوا الموضوع مع عائلاتكم أو أصدقائكم.. هذه أمانة وطنية في أعناقكم...)".
نقطة التحول في تاريخ الخطب الملكية
الحسن الثاني يغّير الروتين
أُعلن طيلة يوم 16 أكتوبر 1975 بأن الملك سيلقي خطابا في المساء من مراكش، محوره قضية الصحراء، لكن لا أحد كان علم بأنه سيعلن عن تنظيم المسيرة الخضراء إلا قلة قليلة ممن أطلعهم على سره.. تأخر الخطاب عن موعده، ما زاد من حالة الترقب.. وهنا يرسم معنينو صورة من صور الخطاب الملكي، ويؤرخ لنقطة تحول في تاريخ الخطب الملكية. "ظهر الملك وانطلق النشيد الوطني... كانت العادة تقضي بأن يتم مصاحبة النشيد الوطني بصورة للعلم الأحمر وفي وسطه النجمة الخماسية الخضراء، ولكن منذ تلك الليلة وإلى الآن، سيظهر الملك واقفا وإلى جانبه الأمراء".
بالنسبة لمعنينو الذي صوَّر كثيرا من الخطب الملكية، فإن هذا التحول قد يكون ناتجا عن خطأ ما، لذلك "قلت في نفسي... الوضعية مرتبكة في مراكش... هذا خطأ قد يعاقب عليه المخرج. لم أكن حينها على علم بأن الملك قرر ذلك لإثارة الانتباه والخروج عن الروتين... الأمر لا يتعلق إذن بارتباك بل بـ"بدعة" أرادها الملك لتدشين طريقة جديدة لبداية خطبه المتلفزة".
أعلن الحسن الثاني في خطابه الشهير ليلة 16 أكتوبر 1975 عن تنظيم المسيرة الخضراء، وقرر أن يشارك فيها 350 ألف مغربي ومغربية، لكن ذلك بقدر ما أخاف الإسبانيين الذين وضعوا 70 ألف جندي في الصحراء، وأخاف الجزائر التي وضعت قوة عسكرية هائلة على حدودها مع المغرب استعدادا للدخول في حرب، بقدر ما استبعدوا أن ينظم الحسن الثاني المسيرة، معتبرين ذلك مجرد تاكتيك ملكي..
في تلك الليلة، يقول معنينو، طلب الحسن الثاني من حفظة القرآن في كافة أنحاء المغرب التوجه إلى المساجد لتلاوة كتاب الله وختمِه آلاف المرات... بعث الملك وفدا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، للدعاء للمغرب ومسيرته.... ولأول مرة ظلت المساجد مفتوحة طيلة الليل وطيلة أيام المسيرة".
لقد أراد الحسن الثاني أن يتم تسجيل 350 ألف مشارك ومشاركة.. لكن العدد ارتفع إلى رقم قياسي في بضع ساعات فقط.. كيف ذلك؟
لقد مس المغاربة جنون "المسيرة الخضراء"
قبل أن يعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، وتحديدا عندما أطلع سر تنظيمها على عماله.. يحكي معنينو أنه "بعد أيام أرسل كل عامل لائحة بأسماء أشخاص من موظفي الداخلية والجماعات المحلية... كان عدد المسجلين في كل لائحة ما بين خمسين وستين من المرشحين.. قيل لهم بأنهم سيجتازون تداريب تكوينية قصد تحسين وضعيتهم الإدارية.. فرح الأشخاص الذي تم اختيارهم وأشعروا عائلاتهم بسفرهم لمدة أسبوعين... وعن سؤال العائلات عن مكان التدريب، كان المرشحون لا يستطيعون الجواب، لأنهم لم يكونوا على علم بمكان إقامة هذه الدورة التكوينية...".
ويصف معنينو المشهد "حملت حافلات النقل ما يزيد عن سبعمائة من المرشحين القادمين من كافة العمالات والأقاليم، وتم التخطيط بطريقة جعلتهم يتحركون من مكان إلى آخر، دون معرفة مسبقة، ودون التمكن من الاتصال بعمالاتهم أو عائلاتهم... هكذا، ومن حافلة إلى أخرى، وجدوا أنفسهم في مدرسة داخل الثكنة العسكرية في "بن جرير" القريبة من مراكش".
هناك، يقول معنينو، وطيلة أحد عشر يوما، تلقوا كافة المعلومات المتعلقة بـ"المسيرة الخضراء"... تلقوا دروسا في التوعية والتأطير والروح الوطنية.. تابعوا تمارين لمواجهة المشاكل الطارئة وضمان راحة المتطوعين.. تمرسوا على تجميع الناس وفتح مكاتب التطوع وتكوين مجموعات من خمسين متطوعا يعيّن على رأسهم مسؤول يعتني بأحوالهم.. استعدوا لأن يبعث كل إقليم بمجموعة من الأطباء والممرضين وسيارات الإسعاف ومحدثين وعلماء ومرشدين وأعوان سلطة ومجموعة من الشيوخ والمقدمين وأطر من مختلف الوزارات ورجال الأمن.. "كانوا على علم تام بكل الإجراءات الضرورية لإنجاح المسيرة... لكن، وخلال هذه الدورة التكوينية الخاصة والعجيبة، لم يوضع رهن إشارتهم ولو هاتف واحد... ظلوا معزولين داخل القاعدة يستمعون ويسجلون ويستعدون.. لقد أصبحوا على علم بجزء كبير من الأسرار".
كان هذا التكوين عاملا أساسا في إنجاح ملحمة الحسن الثاني.. ففي "يوم 16 أكتوبر، تابعوا (هؤلاء السبعمائة مرشح) خطاب الحسن الثاني كباقي المواطنين، إلا أنهم كانوا على علم بدقائق الأمور قبل الخطاب... كان محظوظين.. فور انتهاء خطاب الملك انطلقوا ليلا إلى أقاليمهم وعمالاتهم.. قضوا الليل بأكمله في الطرقات وفتحوا في الصباح مكاتب التسجيل... قالوا لعائلاتهم لقد تدربنا طيلة هذه المدة ونرجو أن يوفقنا النجاح". يقول معنينو.
من عجائب المسيرة، هو أنه خلال صباح اليوم الموالي، أي في 17 أكتوبر اجتمع العدد المطلوب من المتطوعين، في ظرف قياسي يبعث على الدهشة والاستغراب. يقول الكاتب "كانت الصور القادمة من مختلف أنحاء المغرب تظهر الازدحام الهائل أمام مكاتب التطوع... لقد طلب الملك 350 ألف متطوع ومتطوعة، وها هو هذا العدد في الصباح فقط، قد تم تجاوزه ليبلغ في نهاية المطاف ما يفوق المليونين.. لقد مس المغاربة جنون "المسيرة الخضراء" والتطوع للمشاركة فيها".
دهاء الحسن الثاني ينسي الأمين العام للأمم المتحدة مهمته
بعد أن وجد نفسه في وادي أم الربيع
قامت إسبانيا والجزائر بكل وسائلهما من أجل منع الحسن الثاني من تنظيم المسيرة الخضراء، فهما الآن يتابعان كيف يستعد المغرب بجد لتنظيم واحدة من أكبر المسيرات في العالم.. لذلك حاولتا الضغط من داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن من أجل أن يوقف الملك زحفه البشري الذي أخذ يتقاطر على مدينة طرفاية.. في تلك الأثناء كان الأمين العام للأمم المتحدة قد زار الحسن الثاني بمراكش للتحدث معه حول المسيرة الخضراء.. يقول معنينو "فوجئ الناس بالحسن الثاني، يوم 27 أكتوبر (1975)، يغادر مراكش ويصحب معه الأمين العام للأمم المتحدة "كورت فالدايم" قاصدا سيدي "شحّو" لإعطاء الانطلاقة لأشغال سد سيروي الأرض، ويوفر الماء الشروب، لمنطقة تبدأ من الدارالبيضاء وتنتهي بأسفي".. كان الحسن الثاني ذكيا، بحيث حوَّل الهدف الذي جاء من أجله كبير الأمميين إلى وجهة أخرى.
يقول معنينو "اندهش الأمين العام، حين طلب منه الملك مرافقته لتدشين سد "المسيرة" على وادي أم الربيع... فقد كانت زيارة الدبلوماسي الأممي تهدف أساسا، استطلاع رأي الملك في ملف الصحراء والعمل على تهدئة الأوضاع، كما كان من مهامه معرفة مدى تقدم الإعداد لانطلاق المسيرة، والارتدادات الممكنة، على أوضاع الأمن والسلم بالمنطقة... جاء الأمين العام، بعد انشغال الرأي العام الدولي بإمكانية الاصطدام، خاصة وأن مجلس الأمن كان يتابع جلساته وسط توتر ملحوظ في الأوضاع السياسية والعسكرية بالمنطقة... وها هو الحسن الثاني يدعو ضيفه لمرافقته لتدشين معلمة إنمائية لا علاقة لها بمهمته". يكشف معنينو عن دهاء ملك.
الملك يتحدى رئيس مجلس الأمن
الذي طالبه بتوقيف المسيرة فورا
انطلقت المسيرة الخضراء وفق ما خطط لها الحسن الثاني.. وتوغل المتطوعون عدة كيلومترات، وتابع العالم عبر قنواته حماس المغاربة في معانقة إخوانهم الصحراويين في أرضهم التي وطأها الاستعمار الإسباني.. فجأة توصل الحسن الثاني ببرقية مستعجلة من رئيس مجلس الأمن السوفياتي "جاكوب مالك"، يكشف معنينو عن فحواها.. "يقول فيها... صاحب الجلالة ملك المغرب.."أذن لي مجلس الأمن أن ألتمس من جلالتكم وباستعجال إيقاف المسيرة فورا...". وبخلاف الأعراف المتبعة لم يختم الدبلوماسي السوفياتي كلماته بعبارات التقدير والتحية مما يؤكد توتره وابتعاده عن الأعراف المتبعة...".
عندما توصل الحسن الثاني بهذه البرقية، أجاب رئيس مجلس الأمن "لقينا رسالتكم المتعلقة بما كلفكم مجلس الأمن بتبليغه إلى جلالتنا في شأن "المسيرة الخضراء" نحو الصحراء، ولا يسعنا إلا أن نحيط سعادتكم أن تجددوا لمجلس الأمن، الضمانة التي عبرت عنها المملكة المغربية، بأن هذه المسيرة سلمية لن تنسلخ، في أية لحظة من اللحظات، عن طابعا السلمي، الذي أوحى بهذه المبادرة والذي سيستمر فيه خلال وقوعها.. مع فائق التقدير.. الحسن الثاني ملك المغرب". وبالرغم من هذا التدخل.. استمرت المسيرة دون امتثال بالتوقف.. إلى أن بلغت أهدافها، وهي تحرير الصحراء المغربية من قبضة الاسبانيين، ومعانقة أهلها والانطلاق في إنمائها.
فبعد 45 سنة على هذا الحدث، إن الصحراء المغربية اليوم ليست هي التي كانت سنة 1975.. فمن أرض خلاء، أضحت الآن علامة فارقة في التنمية، ليس داخل المغرب فحسب، بل في القارة الإفريقية برمتها.