الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

دفاعا عن "مايا"


منعم وحتي
 
تجاوزاً للمغناطيس المُوَجهِ الذي تحاول بعض البؤر الإعلامية حشرنا فيه.. يمكن أن نمتلك ذكاء جماعيا، لتحوير مبتغاهم، وذلك بفتح زوايا أكثر إضاءة للأحداث، والانفلات من القالب الذي صمموه بعناية لتعليب أدمغتنا والتحكم في الضمير الجمعي الزائف الذي يخلقون به نمطية التبعية والاستيلاب الثقافي.
 
في وصلات التعذيب حتى الموت برجم النساء بتهمة تدنيس الجسد كانت النشوة الكبرى للذكور بالمشاركة الهيستيرية في الرجم والقتل الدموي
 
كان الجسد دائما مَوْضِعَ جدل داخل المجتمعات المغلقة، التي يحكمها منطق الطابو، والصياغة اللغوية والأخلاقية لكلمة "حشوما". وتحضر بقوة تنظيرات ميشيل فوكو في كتابه المبدع "المراقبة والمعاقبة" (Surveiller et punir)، وذلك باستعمال المجتمع / الدولة لسلطة العقاب، التي تستمد قوتها من ترسانة القوانين والمناهج الموضوعة لخلق الرأي العام وفرض التصور العام وتعليب القيم.. ولن يكون موضوع العقاب إلا الجسد المفترى عليه.. لفرض الانضباط العام للمتنفذ بالمورث وضبط هيبة السلطة.. بل تصل الرقابة والمراقبة إلى درجة خنق أنفاس المتخيل وحصر فضاء الإبداع المنفلت من الرقابة.. فسباحة الفكر دائما ما كانت محصورة بسوط العقاب.. ويبقى الجسد دائما موضوعا مدنسا عند سلطة الرقابة. وفي دائرة مقصلة العقاب.
 
في جزء من تاريخنا الموبوء، كان الانتشاء بالقتل بدم بارد في الساحات العامة لذة دفينة تختزن شيفرة الموروث المزروع في دواخلنا.. ففي وصلات التعذيب حتى الموت برجم النساء بتهمة تدنيس الجسد.. كانت النشوة الكبرى للذكور بالمشاركة الهيستيرية في الرجم والقتل الدموي.. إنه تصريف للكبت التراكمي، ويتحول إلى "أورگازم سادي"، فيتضاعف مفعول العنف الذاتي والخارجي، ليختلط تعذيب النفس بتعذيب الآخر.. ولو أتيحت لنفس الجمهور العصابي الذي باشر عملية الرجم، فرصة الاستفراد بهذا الجسد الأنثوي في ظلمة معزولة لانتفت عوائق الإكراه المقدس، ولتحول الجسد المدنس قبليا إلى لحظة رغبة جامحة مشتهاة تكسر رقابة السلطة والقانون والدين.. ولَتَمَّت استباحة الجسد ولو غصبا وعنفا جنسيا.. فالمرور من المازوشية إلى السادية عبر جسور الانهيار الداخلي، مؤسس على شرعنة الطابو تقية وإدانته علنا.. إنه الانفصام المقدس.
 
كم من فقيه قيل عنه إنه متفقه وهو عبد لنصوص بائدة لا يستعمل عقله فيها إلا بمقدار ما يسمح به صولجان المراقبة والعقاب إنه تحنيط للعقل واستبدال للمادة الرمادية بالسائل المنوي
 
لا تحتاج لِتُبحر عميقا في يم فطاحل الفكر لكي تكون متوازنا ومنسجما في رؤيتك للحياة، فكم من فقيه قيل عنه إنه متفقه، وهو عبد لنصوص بائدة لا يستعمل عقله فيها إلا بمقدار ما يسمح به صولجان المراقبة والعقاب، إنه تحنيط للعقل واستبدال للمادة الرمادية بالسائل المنوي.. حيث الأحكام جاهزة والجسد مدنس في الأصل والمخيال مغتال في الولادة والأنثى عورة والذكر ملك الكون.. فأبسط القوم يمكن أن تقوده بصيرته لتفكيك أعطاب الحياة وتذوق نكهتها الإنسانية.
 
 
أثارتني جرأة الراقصة "مايا" وهي تدافع عن الرقص كأحد الفنون الإبداعية، التي مازالت منحوتاته شاهدة على رقيه على مر الحضارات الفرعونية والبابلية والسومارية... وسكت "المثقفون" وشمتوا واستعروا.. بنفس منطق الرقابة القبلية التي استعبدت أقلامهم وعلَّبت قيمهم.. إلى درجة اعتبار الرقص انحطاطا.. إنها نفس حكاية الجسد الأنثوي المدنس ولادةً والتي سوّقها التاريخ المقدس الموبوء.. يمكن لقيم المدنية والإبداع والفنون أن تجد أصواتها في أي منطقة من هرم المجتمع.. لكن المثقف الزئبقي ينحني لسادية العشائرية واستبداد القبيلة خوقا من نفيه خارج مضاربها.. ناسين أن أجمل الشعر والحكمة كان منفلتا من عقال شيخ القبيلة.
 
تفاصيل وصور ومشاهد وتعليقات وردود وادعاءات وادعاءات مضادة.. شوائب كثيرة حامت حول الأحداث.. لكن الأكيد والمؤكد أن جسد المرأة غير مدنس وأن الرقص قيمة إبداعية راقية، أَرَّخَت الفنون من خلالها للجسد كرسام زيتي للوحات السعادة والفرح الإنسانيين.. على مر العصور والحضارات وأعراسنا شاهدة على ذلك.
 
فاعل سياسي ومدني