قصة اليخت.. بين الرجم بالغيب وفوضى القيم في زمن كورونا
الكاتب :
يونس التايب
يونس التايب
فيديو اليخت وما خلقه من جدل، أكد أن هواية الرجم بالغيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا تزال في أوجها، وأنها قد تخفت قليلا لتعود بقوة أكبر، مستهدفة الأفراد والهيئات والمؤسسات والوطن ككل. وفي ظل فوضى القيم وسيادة الشعبوية في تحليل كل القضايا، كيفما كانت المناسبة أو الحدث، يتم تركيب أجزاء مصطنعة وأخبار كاذبة لتحقيق تراكم سلبي وتحريضي.
في قصتنا الجديدة، كانت البداية بشخص شاهد فيديو لمجموعة أفراد يرقصون في حفل خاص على ظهر يخت في عرض البحر، وتهيأ له أن رجلا في الفيديو هو "فلان". وهنا لا تهمنا هوية فلان بالضبط، بقدر ما يهمنا أن نستوعب كيف يمكن أن تتأسس انتفاضة فايسبوكية على أساس كذبة واحدة.
أتى بعد ذلك شخص آخر ليقول: "آه... فلان، أعرفه هو شخصية مهمة تشغل منصبا كبيرا في الدولة!". ثم أتى ثالث ليقول: "نعم... هو فلان. ذلك الرجل الذي له أجرة شهرية كبيرة...!". ودخل على الخط أشخاص آخرون ليكتبوا تدوينات تتهجم على فلان وتندد بسلوكه الباذخ في عز أزمة اقتصادية عامة. وهكذا، بدون مساطر أو إجراءات تحقيق أو حق في الدفاع أو سعي للاستماع للمتهم، أو السماح بمعاينة مسرح "الجريمة" والتدقيق في أدلة وقوعها، تنطلق جلسة محاكمة علنية، ويتم مسبقا رفض كل شروط التخفيف المحتملة، لأن ما يهم المحرضين هو أن للمتهم منصبه الكبير، وقد ظهر في حالة فرح وثراء، وذلك كاف كي يكون كما قال عنه الناس من سوء وربما أكثر.
وهكذا، تتدحرج كرة الثلج وتكبر حتى يتجمع في الفضاء الأزرق الألاف، ينددون بالمتهم فلان وينعتونه بأقبح النعوت. ثم تنطلق مسيرة افتراضية في الفيسبوك والإنستجرام، تشجب وتستنكر، ويخرج الغاضبون من كل حذب وصوب، وينطلق موسم الضرب تحت الحزام، وكل أسلحة التسفيه فيه مباحة. وشيئا فشيئا يخرج النقاش من دائرة حفل خاص إلى عملية تسوية حسابات تخص الشأن العام، ويتوقف العقل عن الاشتغال أمام لاعقلانية زاحفة تستثمر الضيق المادي والنفسي، وتستغل مشاكل الناس الاجتماعية والاقتصادية. ثم عند تناول الأخبار وتحليلها ينتحر المنطق، وتسود المشهد التواصلي تجليات عنف رمزي كبير وفراغ قيمي دراماتيكي.
و بعد أن يكون الحقد والتهجم على الأشخاص، والخلط المتعمد والربط بين مواضيع لا رابط بينها، قد انتشر كالنار في الهشيم، تتبين الحقيقة بأن لا أحد أتى بدليل يؤكد أن فلان هو نفسه الشخص الذي في الفيديو. كل ما في القصة أن الهجوم عليه تم على أساس قيل ويقال، وبناء على تشابه متخيل بين الوجوه. ولو أن الناس دققوا في الأمر، لعلموا أن لا علاقة للرجل الذي ظهر في اليخت، بمن اتهموه ظلما.
أما لو علم الناس حقائق الأمور في حياة المتهم، لعرفوا أن الرجل الذي حاسبوا في شخصه كل مصائب الواقع واختلالاته، هو رجل قد تربى في بيت علم وورع ومقاومة ووطنية، يعرف عنه الناس أخلاقه العالية، وأسلوب حياته البسيط الذي يجعله بعيدا كل البعد عن سياقات احتفالية كتلك التي رأيناها في الفيديو. وهنا، قبل كشف هوية فلان واسترجاع بعض المحطات من مساره، من الواجب التأكيد على أن مضمون الفيديو ليس شأنا عاما كي نخصص له هذا الكم الهائل من الكلام المليء بالخلط والرجم بالغيب بشكل متعمد. وليس من الأخلاق، التلصص وسرقة نظرات على جسد راقصة، وفي نفس الوقت لعنها لأنها ترقص. كما ليس من ديننا هتك الستر عن عوالم الناس كيف ما كان وضعهم الاجتماعي. وإذا كان ذلك حق كل المواطنين علينا، فهو نفس الحق تستحقه تلك العائلة الميسورة التي اختارت تنظيم حفل خاص على ظهر يخت في عرض البحر. تلك حياتهم الخاصة، وليس لأحد أن يحشر أنفه فيها. وحبذا لو أنهم انتبهوا إلى من كان يصورهم، وجنبونا كل هذا الهرج والمرج على نطاق واسع.
أما الحديث عن المتهم فلان، فهو حديث ذو شجون. ويمكن بداية أن نذكر اسمه ونتحدث عنه مباشرة في ما بقي من المقال، لعل ذلك التعريف ينبه البعض إلى قدر الرجل فيستحيون ويكفوا ألسنتهم. صاحبنا الذي لم يكن بتاتا على ظهر اليخت، هو السيد مصطفى التراب. والده هو الحاج عبد القادر التراب، المقاوم الصلب الذي قضى سنتين ونصف في سجون الاستعمار في الخمسينات لأنه رفض التواطؤ ضد وطنه وملكه. ومصطفى التراب هو أيضا حفيد شيخ الإسلام سيدي محمد بن العربي العلوي، العالم الفذ والمربي الجليل والمناضل الوطني الوفي لثوابت البلاد، الذي قال عنه المرحوم محمد عابد الجابري: "كان الشيخ محمد بن العربي العلوي نموذجا للعالم السلفي المناضل الشعبي في المغرب، سواء أثناء عقد الحماية أو خلال عهد الاستقلال".
ويشغل مصطفى التراب، حاليا، منصب الرئيس المدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، وهو بدون تردد واحد من خيرة أطر المغرب كفاءة واستقامة، بل هو من خيرة أطر التدبير الاقتصادي والصناعي على مستوى العالم. ومن يجهل قيمة الرجل المهنية، ومساهمته لخدمة مصالح بلده، عليه أن يعود إلى التاريخ ليعرف أن الرجل هو مهندس بيع الرخصة الثانية للهاتف المحمول بالمغرب، عندما كان مديرا عاما للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، في عملية نموذجية جلبت لخزينة الدولة عائدا ماليا بالعملة الصعبة لم يكن أحد ينتظره.
ولا أظن أن من عاشوا تلك المرحلة من تاريخ بلادنا، يمكن أن ينسوا كيف أسعدت تلك العملية جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، وكيف افتخر المواطنون بها، وسعدوا وهم ينصتون إلى خطاب ملكي أطلق ديناميكية وطنية استثنائية لتمويل عدد من التجهيزات الكبرى الاستراتيجية، من خلال صندوق الحسن الثاني للتنمية، الذي شكل بفعل عائدات بيع الرخصة الثانية للهاتف النقال، رافعة تمويلية غير مسبوقة في بلادنا.
و يمكن، أيضا، العودة تسعة عشر سنة إلى الوراء لمعرفة كم كان أجر مصطفى التراب عندما استقر به المقام في واشنطن، عقب إزاحته من منصبه على رأس الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، من طرف "وزير" لن يذكر له التاريخ سوى هذه الخطيئة التي كان ممكنا بفضلها أن يخسر المغرب أحد أبرز كفاءاته وأبنائه البررة. لكن، لأن على رأس هذه الدولة ملك تنضبط الأمور الاستراتيجية بقراراته الحكيمة، وتستقيم بسداد رأيه وغيرته الوطنية مصالح الوطن والناس، وتسند بحرص من جلالته المسؤوليات الكبرى على أساس الكفاءة والاستقامة والولاء للوطن، تقرر أن يعود المواطن مصطفى التراب من واشنطن إلى وطنه بعد أن منحه جلالة الملك محمد السادس ثقته السامية، وكلفه بتدبير أكبر تحول صناعي معدني عرفه المغرب الحديث على مستوى المكتب الشريف للفوسفاط. وتلك قصة أخرى عن إحدى أهم النجاحات الاقتصادية المغربية في القرن الواحد والعشرين، يمكن الاطلاع على تفاصيلها من خلال مصادر موثوقة متعددة.
لكل ما سبق، أعتقد أن على نشطاء تيار التسفيه والتهييج الذي تعمد الخلط والإساءة، أن يتقوا الله في الوطن وفي أبنائه ورجالاته المخلصين الذين يقدرون مسؤولياتهم ويشتغلون بكفاءة واستقامة كبيرة. وليعلموا أن هؤلاء الرجالات والنساء الفضليات، كثيرون ويشتغلون في صمت، في مستويات عليا ومتوسطة مختلفة، في عدة وزارات ومؤسسات وإدارات، مركزية وجهوية وإقليمية ومحلية، ولم يسمع عن غالبيتهم ما يسوؤهم أو يسيء إلى سمعتهم.
كما على المسفهين أن يتقوا الله في المواطنين الذين لا يريدون سماع أخبار الحفلات الخاصة، ولا يزعجهم تنظيمها بقدر ما يزعجهم أننا ما زلنا نبحث عن كيفية إقناع الناس بوضع كمامة تحد من انتشار كورونا، ونبحث عن كيفية تقليص عدد الوفيات التي تجاوزت حاجز الثلاثين فقيدا، وكيفية تنظيم الدخول المدرسي المقبل وحماية أطفالنا من الفيروس، وكيفية تطوير مستوى جامعاتنا ومعاهد البحث العلمي حتى تدخل ترتيب الجودة العالمي لشانغهاي، وكيفية حماية صناعتنا الوطنية وتحريك الاقتصاد والمحافظة على مناصب الشغل، وكيفية الاستمرار في الحياة العامة بحيوية مع ضمان الحد من انتشار عدوى كورونا.
بدون شك، من ما زال يستهويهم العبث رغم الجائحة وتحدياتها، يخلطون عمدا بين ما لا حق لأحد في الحديث عنه لأنه يدخل في نطاق المجال الخاص، وبين ما هو ضمن المجال العام ويمكن تتبعه وانتقاده. هؤلاء هم أنفسهم من كانوا ولا يزالون يسفهون كل شيء على هذه الأرض، ويجيشون الناس ضد وطنهم ومؤسساته وضد بعضهم البعض، باستعمال توابل سياسوية ومصلحية وطبقية وأخلاقية ودينية.
وقد حان الوقت أن يستوعب العبثيون أن الشعب المغربي، بمواطنيه البسطاء وأطره ونخبه، وبفقرائه وأغنيائه، قد سئم الخطاب العدمي غير النافع. وأن هذا الشعب يتوق لمن يصدقه القول ولا يكذب عليه ويبيعه الوهم، وأنه يتطلع في المرحلة المقبلة، إلى كل صوت نزيه يقترح أشياء إيجابية نضمن بها تركيزا أكبر على استقرار الوطن وأمنه وتنميته وحماية مصالحه الاستراتيجية، وإبداعا لسياسات ناجعة لتدبير أزمة وبائية واجتماعية واقتصادية لا يمكن أن نتركها تنال من مكتسبات الوطن والأمة المغربية.