الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

سراق الماشية... مجرمو ليلة العيد

 
يونس التايب
 
وصلتنا ليلة العيد صور أحداث مشينة جرت في سوق للماشية بالحي الحسني بمدينة الدارالبيضاء، حيث خلق عدد من المواطنين الفوضى واستحلوا وضع اليد على ما أتى به إلى السوق فلاحون ومربو ماشية، بدعوى أن الأثمنة مرتفعة ولا قبل للناس بها. مشاهد بئيسة نقلتها هواتف محمولة، أظهرت أن البعض أحدثوا عرفا جديدا يجيز أن يتحول ما ليس في متناول اليد بالحلال والقانون، ليصبح متاحا بالعنف والسرقة الحرام شرعا والممنوعة قانونا.
 
تلك المشاهد والصور انتشرت كالنار في الهشيم، وخرجت للعالمية، وخلفت عدة ردود أفعال استنكرت جلها ما وقع دون السقوط في خطيئة التهوين والتبرير والتطبيع مع الحالة، ولا في فخ التهويل أكثر من اللازم. لكن، رغم ذلك أثارت انتباهي بعض التعليقات والتفاعلات التي ظهر من خلالهما رأيان مجانبان للصواب، في نظري، لأنهما يحملان فهما خطيرا يستدعي تفكيكه والتصدي له بحزم:
 
رأي أول، حاول أصحابه تبرير حيثيات ودوافع ما وقع ليلة العيد، إما عبر إلصاق ما حدث بالفقر، وإما بتشجيع تحلل الأفراد من أية مسؤولية في ما يجري في الواقع ورمي الكرة في ملعب الدولة وحدها، او اعتبار سياسات الحكومات هي السبب وإطلاق العنان من جديد لسمفونية العدمية والتيئييس.
 
- رأي ثان، تعمد تعميم الحالة والمزايدة واسترجاع الحديث عن الضباع و"بوزبال" وجلد الذات المجتمعية أكثر من اللازم، حتى قد يتخيل للغريب عن واقعنا أننا أمام بلد يعيش حالة تسيب أمني، وأن الكل يمكنه أن يسرق الكل، وأن هذا الشعب أصبح مشكلا من الهمج، وعليه لا يستحق أي تكريم أو عناية واحترام. وهذا غير صحيح بتاتا وجرم أخلاقي كبير سأعود إليه في مقال لاحق لإبراز خطورة ما فيه من كوارث تؤذي المجتمع والوطن.
 
أما في هذا المقال، فسأكتفي بتناول الرأي الأول لأبين المنطق السليم في تناول ما وقع في سوق الماشية، من خلال طرح عدة أسئلة ونقط بشكل هادئ وموضوعي، كالآتي:
 
- أولا، ما جرى في سوق الماشية بالحي الحسني هو بلطجة مطلقة، واعتداء على ممتلكات الغير، وسرقة ونهب، وترويع للآمنين، وعنف من مجموعات لها نزوع إجرامي. وهي أمور موجبة للمتابعة القانونية وللإدانة الأخلاقية. وإذا كان صحيحا أن ذلك التسيب ما كان له أن يقع من الأساس، في سوق منظم ومؤطر، ولكن أما وقد وقع ما وقع، فلا شك لدي في أن السلطات الأمنية ستقوم بما يستوجبه مقام المسؤولية من ضبط وإحضار للمتورطين في تلك المخالفات، وتوقيف المعنيين بالإخلال، وإخبار الرأي العام بنتائج البحث في الأيام المقبلة.
 
- ثانيا، ما تم من بلطجة وسرقة، هي سلوكات لا علاقة لها بفقر السارقين أو بالعوز والتهميش. ومن يقول ذلك الكلام عليه أن يتحمل مسؤوليته لأنه، من حيث يدري أو لا يدري، يقول كلاما قد يفهم منه أنه يشرعن للفوضى ويعتبر أن الفقر والتهميش مبرر كاف للخروج على القانون. وهذا خطير وغير مقبول. كما أن هذا القول فيه خطيئة أخلاقية لأنه ينسب للفقراء ما ليس فيهم بالضرورة.
وهنا لابد أن نكون واضحين، ونقول أنه من العيب أن يظن البعض أن مواطنين يمكن أن يكونوا سراقا ومعتدين على ممتلكات الغير، فقط لأنهم فقراء. من يقول ذلك الكلام التافه عليه أن يعلم أن فقراءنا لم يختاروا الفقر، بل هو الذي اختارهم ونزل بهم عنوة وخنقهم، وأن فقرائنا هم ضحايا ظروف وسياقات هضمت فيها حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية عبر سياسات عمومية غير نافعة، وحرموا من فرص الاندماج في ديناميكية التنمية بسبب حكامة غير جيدة أو عدم نجاعة أنظمة الحماية الاجتماعية، أو ضعف آليات الإدماج الاقتصادي والتعليمي والمعرفي. وفقراءنا وإن كانوا بالملايين، ما زالوا رغم كل شيء، صابرين يكابدون ظروف الحياة القاسية بشرف، ولا زالوا يحبون وطنهم وينتظرون أيادي الرحمة كي تواكبهم لينهضوا. ومن كان يقرأ عنهم أكثر مما يلتقيهم في الواقع، عليه أن يعلم أنه إذا اقترب من أغلبية فقراء الوطن سيشعر بالحياء من كرمهم وجودهم بما لديهم رغم أنه قليل، حتى قد يحسبهم أغنياء من التعفف.
 
- ثالثا، بالنسبة لأثمنة المواشي التي وجدها البعض مرتفعة وأفتى بمسؤولية الدولة في ذلك، أتمنى أن يذكرني أحد متى كانت الدولة تبعث إلى أسواق الماشية مراقبين عموميين يحددون أثمنة الخروف (سنان الحليب) و(الثني) و(الرباعي) و(الخروفة) و(المعزي)، خلال الأيام السابقة على العيد خلال الأربعين سنة الماضية؟ وفي حالة إذا ما توفرت الإرادة والإمكانيات البشرية للقيام بتلك المراقبة في كل أسواق الماشية، ليخبرني أحد على أي أساس علمي وموضوعي يمكننا تحديد الأثمنة، دون أن نظلم مربي السردي وخروف بني كيل وخروف بالجعد وتمحضيت والدمان؟ ثم، ألم نكن دائما نشتغل بقاعدة (اشري على حساب ما في جيبك)، أو (شري بكري قبل ما يغلا الثمن)، أو في بعض المناطق (تسنى حتى للنهار الأخير، تايطيح الثمن وتايعياو الكسابة، وتايبيعوا ناقص ثمن!)؟ أليس قانون العرض والطلب هو دائما ما كان يحدد ثمن الماشية منذ كنا نذهب للأسواق؟ ماذا اختلف الآن حتى اقترب البعض من أن يعتبروا ارتفاع الثمن كافيا لنشر الفوضى وشرع اليد؟
 
- رابعا، على فرض أن مواطنا ذهب إلى السوق ووجد ارتفاعا صاروخيا في أثمنة الماشية، هل يبرر له ذلك أن يسرق كبشا ويضرب صاحبه، ويعود للبيت ليتقرب إلى الله ويتعبد بهذا الذبح العظيم المسروق؟ منذ متى كان الحلال يؤتى عن طريق الحرام؟ ألسنا نؤمن أنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، فلم يعذب البعض ذواتهم في معارك غير مفهومة بمنطق الشرع، ويسعون بكل الطرق ليشتروا كبشا للعيد وهم ليسوا ملزمين به عندما لا يملكون ثمنه؟ أليست الأضحية سنة للقادر على كلفتها، وليست ركنا لا يصح الدين إلا به؟ أليس المطلوب شرعا هو ذبح خروف واقتسامه مع الفقراء بالمعروف، تعزيزا للتضامن والرحمة؟ أليست الحكمة من الأضحية هو الإخلاص لله والرضا بقضائه وحكمه، فهل يتحقق ذلك الإخلاص والتعبد والرضا عبر سرقة ماشية فلاح مسكين جاء ليبيعها بعد تعب أشهر في تربيتها ؟ ثم متى سنفهم أن قيام الإمام بذبح الأضحية فيه كفاية، من الناحية الشرعية، وتأدية كاملة للنسك بالنيابة عن الأمة كلها، وأن للجميع الأجر والثواب المترتب على ذلك؟
 
أطرح هذه الأسئلة كي أنبه إلى واجب التفكير الرصين والتحليل الموضوعي، وضرورة أن نبتعد عن الشعبوية والمزايدات وقبول التبريرات الفارغة، ونتعاطى بوضوح وبعدم انتقائية مع كل مظاهر فساد الواقع، إذا كنا نريد الخير لبلادنا ولأبناء شعبنا.
 
لذلك، لا يمكن تبرير بلطجة سوق "رحبة الماشية"، أو القبول بها أو التساهل مع المتورطين فيها، بداعي الفقر والتهميش، لأن إقدام مواطن على سرقة خروف يستحق أن نتناوله بنفس الصرامة التي نتحدث بها عندما يقوم مسؤول عمومي أو مواطن بسرقة من المال العام أو تلاعب بممتلكات عمومية، أو يقوم منتخب أو إداري بالتلاعب بصفقة عمومية، أو يقوم صاحب منصب باستغلال سلطته لأخذ رشوة من أجل تمرير أمر ما بدون وجه حق، أو إغماض العين عن حق كي لا يأخذه أصحابه، أو عندما يلتزم حزب سياسي بالصمت عن قيام مرشحيه بشراء أصوات الناخبين بمائتي درهم كي يصوتوا في الانتخابات على مرشح يعرف الجميع أنه فاسد وجاهل. هي نفس الأفعال من حيث طبيعتها القانونية والأخلاقية والدينية، وكلها حالات مشينة يتورط أصحابها في نفس المصيبة: سرقة الوطن واغتيال مستقبل أبنائه.
 
لذلك، كي لا نمنح المغرضين فرصة الاعتقاد أن الأمور متروكة للفراغ، أو أنه يمكن القبول بأن تسير الأمور بلا حسيب أو رقيب، يتعين تطبيق القانون وعدم التردد في التحرك بقوة لردع كل من يحاول تسفيه القوانين والنيل من هيبتها بأي شكل من أشكال الانحراف. ولأنه لا يجوز التردد في الدفاع بوطنية وغيرة على صورة البلد، وعلى المؤسسات، وعلى القانون، وعلى مكتسبات الأمة المغربية، من المهم جدا خلال المرحلة المقبلة الحافلة بالمشاكل والتحديات، أن يكون الخيط الناظم الذي يعزز الطمأنينة والأمل، هو أنه "اللي بغى يلعب ويخربق، خاصو يعرف أن الضسارة لن تكون مقبولة"، وأن لكل شيء حد، وحدود المرحلة هي مقتضيات القانون وهيبته، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
 
وبموازاة ذلك، اعتبارا لأن الواقع الاجتماعي صعب للغاية، والوضع الاقتصادي متشعب الأبعاد ومعقد التأثيرات، علينا أن نستلهم مضامين خطاب العرش الأخير ونركز على توجيه مجهوداتنا لبلورة سياسات اجتماعية فيها إبداع وتجديد، واعتماد حكامة تضمن حسن تدبير المال العام، وتحقق التنمية والإدماج، ونطلق برامج تحارب الجهل والعدمية، ونعيد الاعتبار للأخلاق ولمنظومة القيم المغربية الأصيلة حتى تعود أخلاقيات العيش المشترك إلى الأساسيات التي يجب أن تكون عليها.
 
إعلامي ومتخصص في الحكامة الترابية