الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

مصطفى عنترة: الملك محمد السادس في 25 سنة.. الأمازيغية عنوان حقيقي للمصالحة

 
د. مصطفى عنترة
 
شكلت المصالحة المؤسساتية الشاملة عنوانا بارزا لمرحلة ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، مصالحة همت في جانب منها الأمازيغية في أبعادها المرتبطة باللغة والثقافة والهوية والحضارة والتاريخ.
 
وقد عرف هذا الورش الإصلاحي طيلة هذه الفترة الزمنية تحولات هامة ونوعية دشنت عهدا جديدا، اتسم بانخراط فعلي للمغرب في مجال احترام منظومة الحقوق الثقافية واللغوية كجزء أساسي من الديمقراطية، ما جعل هذا الأمر يحظى بإشادة الأوساط الحقوقية وتثمين المجتمع الدولي.
 
وفي هذا السياق برزت المؤسسة الملكية كفاعل مركزي في خضم هذه الديناميات الإصلاحية الكبرى التي شملت المسألة الأمازيغية، خصوصا بعد أن تم ربطها بالمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي أطلقه ملك البلاد في بداية الألفية الجديدة.
 
سنتعرض في هذا الموضوع لثلاثة محاور أساسية، تهم: أولا دلالات وفلسفة الخطاب الملكي التاريخي بأجدير، وثانيا أهمية مأسسة الأمازيغية وانتقالها إلى مجال السياسات العمومية؛ وثالثا وأخيرا رمزية الاعتراف بالسنة الأمازيغية وأبعاده العميقة المختلفة.
 
أولا: الخطاب الملكي بأجدير
 
يٌعبر الخطاب الملكي التاريخي بأجدير عن تحول بنيوي في علاقة الدولة بالمسألة الأمازيغية، ذلك أنه قطع مع مرحلة الملك الراحل الحسن الثاني ودشن لأسلوب جديد في التعاطي مع هذا الموضوع من خلال مصالحة مع الأمازيغية، ليس كلغة أم وثقافة متجذرة، بل كهوية أصيلة وحضارة عريقة غنية وتاريخ طويل ممتد لآلاف السنين.
 
وقد شكل "خطاب أجدير" نوعا من "التعاقد اللغوي والثقافي" بين المؤسسة الملكية ونخبها التي تم إشراكها في الاحتفالية الكبرى التي اتسم بها الخطاب الملكي، اذ عرف هذا الحدث حضورا متنوعا من الفاعلين داخل الحقل السياسي (الحكومة والعلماء وفعاليات سياسية ونقابية ومدنية…)، كتجسيد يرمز إلى ثقافة الإجماع حول الأمازيغية.
 
من هذا المنطلق أعاد الملك محمد السادس الأمازيغية إلى تربتها الأصلية بعد أن حاول البعض استئصالها من محيطها، وأخرجها من هامش الهامش الذي اختير لها ضدا على منطق التاريخ والجغرافيا… لاعتبارات سياسية وإيديولوجية معروفة.
 
وهكذا أصبحت الأمازيغية، بعد "خطاب أجدير"، ملكا لكل المغاربة بدون استثناء، والنهوض بها مسؤولية وطنية، ومبعث اعتزاز وفخز، ومكونا أساسيا للثقافة الوطنية، وتراثا ثقافيا زاخرا ظل حاضرا في كل معالم التاريخ والحضارة المغربية.
 
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالملك محمد السادس ربطها بالمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي أطلقه في بداية حكمه القائم على إعادة الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية، والأهم من هذا وذاك أنه وضع نفسه في مرتبة "الأمازيغي الأول" من خلال التأكيد في حوار صحافي على أصوله الأمازيغية من والدته ذات الأصول الأمازيغية:
 
"أنا نفسي نصفي أمازيغي، وسيكون إذن من قبيل التنكر لجزء من ثقافتي وأصولي إن لم أفعل ذلك. أنا مع الأسف لا أتحدث بالأمازيغية لأنها لم تكن ضمن المقرر الدراسي الذي لقنته، ولكن بودي أن أتمكن من إيجاد الوقت الكافي لتعلمها".

إن المغرب مزيج من الثقافات، إنه أكثر بلدان شمال إفريقيا تمازجا، إذ نجد فيه الثقافة الأندلسية والثقافة الإفريقية والثقافة اليهودية والثقافة العربية الراسخة. لن أضع أمازيغية المغرب في المقدمة وأنكر جانبه العربي، كما أن الثقافات الأخرى التي ذكرتها تشكل جزءا لا يتجزأ من الثقافة المغربية".
 
وفي هذا السياق أحدث العاهل المغربي "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" كمؤسسة استشارية تحظى برعايته وتشتغل بجانبه في كل ما يتعلق بتأهيل اللغة الأمازيغية لإدماجها في مؤسسات الدولة والمجتمع.
 
ولم يفوت الملك الفرصة في مناسبات عديدة دون التأكيد على أهمية ورش الأمازيغية والدعوة إلى الإسراع في المصادقة على القوانين المرتبطة بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لتأخذ مكانتها الطبيعة في السياسات العمومية للدولة.
 
وبالتالي فمن المؤكد أن "خطاب أجدير" بحمولته العميقة ودلالاته الرمزية القوية أحدث قطيعة مع مغرب الملك الراحل الحسن الثاني، وأبرز الاستثناء الثقافي والهوياتي لبلادنا تجاه الآخر، وتحديدا المشرق العربي، كما دشن أفقا جديدا للأمازيغية كورش وطني كبير مرتبط بالديمقراطية والتنمية المستدامة والوحدة الوطنية.
 
ثانيا: مأسسة الأمازيغية
 
عرفت الأمازيغية خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة بدايات مأسستها من خلال انتقالها إلى مجال السياسات العمومية، فـ"المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" الذي ضم نخبة متميزة من الحركة الأمازيغية، سواء في مجلسه الإداري أو مراكزه البحثية العلمية، استطاع تحقيق الأهداف الكبرى التي رسمت له، وخصوصا تأهيل اللغة الأمازيغية من خلال اختيار "تيفيناغ" كأبجدية رسمية لكتابة اللغة الأمازيغية، بعد مباركة الملك محمد السادس والأحزاب السياسية (باستثناء تحفظ حزبين)، ومعيرة اللغة الأمازيغية ووضع برامج ومناهج ومقومات إدماجها في قطاعات التربية والتعليم والإعلام والثقافة، كما عمل على تشجيع النسيج الجمعوي الأمازيغي للقيام بمبادرات مدنية تروم النهوض بالثقافة الأمازيغية.
 
كما لعب المعهد دورا هاما في رفع ملتمسات إلى الملك وتقديم مرافعات في المنتديات والملتقيات لصالح عدالة وشرعية اللغة والثقافة الأمازيغيتين، والتصدي للمغالطات المتضمنة في بعض التقارير الدولية حول المسألة الأمازيغية، وكذلك الوقوف في وجه بعض الجهات، سواء التي لم تستوعب بعد التحولات العميقة التي عرفها المغرب بعد "خطاب أجدير" أو الجهات المحافظة أو تلك المناهضة لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في مؤسسات الدولة، والعمل على تفكيك الطروحات الرافضة عموما للنهوض بالثقافة الأمازيغية.
 
وسيعرف ورش الأمازيغية محطة جديدة بعد دستور 2011 كلحظة استثنائية متميزة في تاريخ المغرب، وقبل ذلك الخطاب الملكي في التاسع من مارس 2011 الذي أكد على "التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة"، ضمن مرتكزاته الأساسية السبعة. إذ سيتم الانتقال من الأحادية اللغوية إلى الثنائية اللغوية، كما سيتم ترسيم التعدد الهوياتي، والتأكيد على الانتماء الثقافي للمغرب في فضائه المغاربي (اتحاد المغرب الكبير)، بالإضافة إلى التنصيص على قانون تنظيمي متعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وقانون تنظيمي مرتبط بإحداث "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية" كمؤسسة دستورية وطنية مستقلة مرجعية في مجال السياسة اللغوية والثقافية.
 
وتأسيسا على ما سبق، ستعرف مأسسة الأمازيغية محطة متقدمة بعد المصادقة على مشروع القانونين التنظيميين المتضمنين في الفصل الخامس من الدستور، وكذلك بعد بلورة المخطط الحكومي المندمج لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في المجالات المحددة لها من قبل القانون ذي الصلة، ووضع صندوق خاص لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكذا تعزيز دينامية شراكات القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية لتوسيع مشاريع تعزيز استعمال الأمازيغية في الإدارات والمؤسسات العمومية.
 
ثالثا: رمزية الاحتفال بـالسنة الأمازيغية
 
أقر الملك محمد السادس رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، وأصدر توجيهاته إلى رئيس الحكومة قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي السامي. واعتبر بلاغ للديوان الملكي في هذا الإطار أن هذا القرار يأتي تجسيدا للعناية الملكية، التي ما فتئ يوليها عاهل البلاد للأمازيغية باعتبارها مكونا رئيسيا للهوية المغربية الأصيلة الغنية بتعدد روافدها، ورصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء؛ كما يندرج في إطار التكريس الدستوري للأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية.
 
وقد شكل هذا الحدث التاريخي لحظة متميزة، فهو تتويج لمسلسل من المكتسبات الديمقراطية الهامة التي عرفتها المسألة الأمازيغية وفق رؤية الملك محمد السادس في تدبيره لهذا المجال، التي ظهرت بوادرها في "خطاب أجدير" سنة 2001، وتمأسّست أكثر في دستور 2011 بوصفه دستورًا للحقوق والحريات والهوية، وتوطدت في قرار الإعلان الرسمي عن الاحتفال برأس "السنة الأمازيغية" كيوم عطلة وطنية؛ فهو إذن نتاج موضوعي لتلاقي رؤية ملكية إستراتيجية في النهوض بالأمازيغية، وإحلالها مكانتها الطبيعية داخل مؤسسات الدولة والمجتمع، ونضالات الحركة الديمقراطية، ومنها الحركة الأمازيغية على وجه الخصوص التي ما فتئت في كل مناسبة تطرح هذا المطلب العادل والمشروع.
 
وبالتالي فمن المؤكد أنّ رمزية الاعتراف بالسنة الأمازيغية لها دلالاتها العميقة، إذ سيساهم هذا الاعتراف في تعزيز وترسيخ وعي مُواطناتي جديد يشعر فيه المغاربة بالتوازن في الانتماء لبلد متعدّد المكوّنات والهوية الثقافية الموحدة، وعي يعتبر معطى التعدّد والتنوع عاملًا إيجابيًا في تقوية مقومات التماسك الاجتماعي وترسيخ الاستقرار السياسي، وتأكيد استثناء المغرب كدولة ذات حضارة عريقة ضاربة في جذور التاريخ الأمازيغي الطويل كما قال الملك محمد السادس في خطاب 20 غشت سنة 2021.
 
وعلى العموم بات من الأكيد أن الأمازيغية كورش استراتيجي ذي صبغة ملكية لم تعد موضوع خلاف مجتمعي كما كان الأمر عليه في السابق، ذلك أن إرادة الملك محمد الساس كانت هي الأقوى ورؤيته كانت هي الصائبة لكونها انطلقت من عناصر ذاتية (الأصول الأمازيغية من الأم) وعناصر موضوعية (التاريخ والجغرافيا…)، ما جعل غالبية القوى السياسية تعيد النظر في طروحاتها الفكرية وتراجع مواقفها السياسية وتنخرط في الديناميات الإصلاحية التي ميزت بلادنا.
 
وقد سبق لنا أن تناولنا بتفصيل مجمل هذه التحولات التي شهدها ورش الامازيغية خلال العقدين الأخيرين في مؤلفنا الأخير ، تحت عنوان " المسألة الأمازيغية بالمغرب..من المأسسة الى الدسترة"، والذي حظي بشرف تقديمه الأستاذ والخبير في العلوم السياسية عبد اللطيف أكنوش.
 
وقد استطاع المغرب في فترة زمنية لا تتجاوز ربع قرن تحقيق مجموعة من المكتسبات الهامة والنوعية على مستوى ورش الأمازيغية، إذ يمكن نعت ذلك بربيع أمازيغي مغربي بما تحمله الكلمة من معنى، نظرا لقيمة ونوعية الإصلاحات الكبرى التي شهدها هذا الحقل.
 
وقد لعبت المؤسسة الملكية، طيلة هذه المرحلة، دور القاطرة نحو الانفتاح والتحديث والدمقرطة. وقاد الملك محمد السادس ثورة ثقافية هادئة مكنت بلادنا من وضع الأسس الدستورية والقانونية والمؤسساتية لمعالجة أحد أهم الملفات الشائكة وما تفرع عنها من إشكالات صعبة طرحت بعد رحيل الملك الحسن الثاني، وذلك وفق رؤية ملكية استراتيجية واضحة ومدروسة.
 
 
 
باحث جامعي وإعلامي