إذا كان للثقافة العالمة وضع اعتباري خاص بالنسبة إلى العرب شأنهم في ذلك شأن كل الشعوب التي تجاوزت المرحلة الشفاهية، وصارت لها ثقافة عالمة، فإن ذلك يبرز في كونها تمثل تراثهم الكتابي الذي يمتد على عدة قرون. ساهم في الثقافة العالمة العربية كل الأقوام التي دخلت في الإسلام، وعاشت في ظل الحكم الإسلامي أيا كانت الأعراق التي تناوبت عليه على مر التاريخ. ولقد اغتنى هذا التراث بتفاعله مع عطاءات مختلف القبائل والشعوب التي ظلت جزءا من العالم الإسلامي، وهي تنصهر في نطاقه، وتندغم في نسيجه.
قاومت اللغة العربية والإسلام وهما أساس هذه الثقافة العالمة، وركيزتها المحورية، كل تقلبات الزمان بمراراته وخيباته وهزائمه. كما أنهما ظلا سامقين يقاومان البلى والاندثار، وكل أساليب المحو والتهميش. يبدو لنا ذلك بجلاء في أن كل من يكتب بالعربية إلى اليوم يفكر من خلالها، وبواسطتها، وينتج إبداعاته الأدبية والفنية والفكرية في نطاق تطورها التاريخي. إن من يكتب المقالة والرواية والقصيدة والبحث الأكاديمي والفكري، ومهما كانت درجة تأثره بثقافات أخرى، لا يمكن أن ينتج ذلك إلا في نطاق الثقافة العربية العالمة. ويُعدُّ كل إنتاج منخرطا في سلكها جزءا من تاريخها وواقعها ومستقبلها.
عاشت الثقافة الشعبية العربية بموازاة مع الثقافة العالمة العربية، وكانت على صلة وثيقة بها، وإن اختلفت طبيعتها. لقد ظلت هذه الثقافة تمتح مما أرْسَته الثقافة العالمة من قيم ومبادئ، ولكنها في الوقت نفسه بقيت محافظة على خصوصيتها التي تستمدها من ثقافة منتجيها. لقد ميز العرب القدامى بين ثقافة الخواص والعوام. وإذا كان بعض من ينتمي إلى ثقافة الخاصة لا يعترف بثقافة العامة، كان البعض الآخر يقر بأهميتها. كما كان في الوقت نفسه ممن يسهم في ثقافة الخاصة ينهل من ثقافة الخاصة، أو أنه يسخر منها ويعمل على معارضتها. ومن خلال هذا التجاذب ظلت الثقافتان معا في اختلافهما وتآلفهما متجاورتين وكل منهما تحقق لها تطورها الخاص لتشكلا معا خصوصية ثقافية ذات ملامح متميزة عن غيرها من ثقافات الأمم والشعوب الأخرى التي كانت بدورها نتاج التفاعل بين الثقافتين.
مع تطور الثقافة الشعبية العربية تحولت إنتاجاتها مع الزمن إلى الكتابة، فصار لها مبدعوها الذين يسهمون في تحويل منتجاتها إلى الكتابة، فعبرت عن هواجس الشعب وروحه المرحة والقلقة. وكان من اعترض على هذه الإنتاجات لكونها لا ترقى إلى ما ترمي الثقافة العالمة إلى تجسيده. ولكن مع ذلك نجد هذه الثقافة الشعبية تفرض نفسها، وتطور ذاتها. نلاحظ ذلك، من جهة، في كثرة النصوص التي وصلتنا مكتوبة، ومن جهة أخرى ما وصلنا من نصوص تتضمنه مصنفات جامعة تنتمي إلى الثقافة العالمة العربية. لقد ساهمت الكتابة والتدوين في انتشار هذه الثقافة الشعبية على الصعيد العربي، وتم تداولها على نطاق واسع. فكان لها أثرها في الإنتاجات الثقافية المحلية في مختلف البيئات العربية. ويمكننا الاكتفاء هنا بمثال السيرة الشعبية العربية التي كانت متداولة في كل أرجاء الوطن العربي.
وتشكلت مع مرور الزمن، ونتيجة الاستقرار التي عرف مع الوقت، ثقافات شعبية محلية موازية للثقافتين العالمة والشعبية العربيتين اللتين فرضتا نفسيهما طويلا بسبب التطور الذي عرفتاه معا. إن هذه الثقافات الشعبية المحلية وليدة شروط ونمط حياة كانت تحدده التطورات التي عرفتها البيئات المختلفة التي تكرست فيها أشكال من التفاعل مع العلاقات التي كانت تربط الفرد والجماعة مع المحيط الذي يعيش فيه، والذي أدى إلى تبلور عناصر ومقومات حياتية مختلفة تنسجم مع خصوصية البيئة التي يعيش فيها.
إن مقارنة الشعب المصري بالمغربي، مثلا، خلال مرحلة ما قبل الاستعمار نجد كلا منهما عرف تاريخا خاصا مختلفا عن الآخر. كما أن تطور اللهجات واللغات في كل منهما أدى إلى بروز صور مختلفة من التفاعل مع المحيط البيئي، فتشكلت بذلك إنتاجات ثقافية متعددة ومتنوعة ومختلفة، وإن ظلت جميعها تنهل من الثقافة العامة العربية ـ الإسلامية. فالأهاجيز والأغاني المصرية مختلفة عن نظيرتها المغربية، كما أن الراوي صاحب الربابة في مصر مختلف مثلا، عن نظيره شاعر الملحون. والأمثلة لا حصر لها. لقد تشكلت إبداعات وثقافات في كل البلاد العربية ـ الإسلامية تعبر عن هواجس الشعب بلهجاته ولغاته، وهي تجسد بذلك طبيعة ونوعية حياته، وهمومه وآماله. وظلت هذه الإبداعات متداولة بين مختلف الأوساط الشعبية من خلال الأمثال والحكايات والأغاني والقصائد وغيرها، وإن كنا نسجل أن كل هذه الاختلافات ذات الطبيعة الخاصة بكل شعب أو قبيل كانت مؤتلفة في تجسيدها لخصوصية الإنسان العربي بوجه عام.
الإنسان ابن بيئته، ووليد الشروط الجغرافية والتاريخية التي يعيش فيها. إنها جميعا تسهم في إعطائه طبائع وخصوصيات تجعله مختلفا عمن يعيش ظروفا مغايرة. فمن يعيش في الصحراء ليس كمن يعيش في السهل أو الجبل. وكل منهم ينتج ويعبر عن نفسه وفق ما تكوَّن لديه في علاقته بمحيطه. لكن المحيط العام والشامل يظل محدد تلك الخصوصيات الخاصة. يقدم لنا التاريخ الثقافي المغربي الخاص صورة واضحة عن ذلك. فمنذ الفتح الإسلامي، وانتشار اللغة العربية وكل التراث التي حملته جعلت المغاربة يتفاعلون معه، ويرون أنفسهم جزءا منه. لكن الظروف التاريخية والجغرافية الخاصة منحته خصوصية تجلت فيما أبدعه المغاربة طوال التاريخ تعبيرا في آن واحد عن تفاعلهم العام مع التراث العربي ـ الإسلامي، من جهة. ومن جهة أخرى في تفاعلهم مع محيطهم البيئي الخاص. ولما كان هذا المحيط الخاص متعددا ومتنوعا تنوع الجغرافيا المغربية (صحراء، ساحل، جبل، سهل)، وتبدل التاريخ المغربي (الصراع بين القبائل، والمخزن) الذي ظل يؤدي إلى انتقال القبائل من فضاء إلى آخر. كل ذلك أدى إلى نوع من التناغم والتفاعل المتعدد، فكان أن تبدلت اللغات واللهجات، فتمغزَّت قبائل عربية، وتعربت قبائل أمازيغية. فكانت فسيفساء الثقافة الشعبية المغربية دليلا على هذا الانصهار والتنوع. ويبدو أن هذه الخصوصيات قلما نجدها في بعض البيئات العربية.
تتجلى فسيفساء الثقافية الشعبية المغربية بوضوح في أن كل منطقة أو جهة في المغرب لها خصوصيتها التي تجعلها مختلفة عن غيرها. فنجد مثلا آلة "لوتار"، وهي آلة مغربية خاصة تتكلم العربية والأمازيغية. وطريقة صناعتها مختلفة من منطقة إلى أخرى، فهي مستديرة في سوس، وكبيرة الحجم في الأطلس، ومتوسطته في السهول. كما أن عدد الأوتار مختلفة، وكذلك نوع الغناء الذي يصاحبها. فقد تكون العيطةَ بأنواعها، أو المديح النبوي أو التصوف، أو الحب والغزل. بل إن العيطة نفسها تختلف من منطقة إلى أخرى، حتى وإن كانت المناطق متجاورة، إذ في كل منطقة نجد لونا مغايرا. فنتحدث عن العيطة الزعرية (قبائل زعير) والمرساوية (الشاوية) والحصبة (عبدة)، والحوزية (حوز مراكش)، والطقطوقة (الجبلية). قد نجد تبادل التأثير والتأثر بين هذه الإبداعات لكن تظل لكل منها رنتها الخاصة. ويمكننا تعداد الأمثلة حول الحكايات والأمثال واللهجات. فلكل منطقة لهجتها الخاصة التي بها يمكن التعرف على الناطق بها سواء كانت هذه اللهجات بالعربية أو الأمازيغية. وكل هذه الثقافة وليدة وطن تشكل عبر الزمن في نطاق ثقافة ذات أصول تاريخية وجغرافية خاصة توحدها بينها.