الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

انتخابات وأحزاب ومتنورون وقطعان

 
عز الدين بونيت
 
هناك انتخابات في البلد.. والناس بين منغمس فيها بكل جهده ووقته، ومتفرج يطل عليها من الأعلى، أو بالأحرى من ناصية المقهى أو شاشة الهاتف، وينظر إليها كما لو كان ينظر إلى كائنات غريبة مثيرة للسخرية. وبين هذا وذاك، يُهيَّأُ للبعض منا أنه الأبعد نظرا والأعمق إدراكا، لما هي عليه حقائق الأمور، وما ينبغي أن تكون عليه. وكما هي العادة، تنبو من هذه التهيُّؤات بعض الأفكار، التي تستوجب التمحيص.
 
لم يسبق لي أن سمعت في انتخابات الدول التي نعتبرها نموذجا نتطلع إليه في الديمقراطية، من ينعتون مواطنيهم بأنهم قطعان، لمجرد أنهم يحتمل أن يصوّتوا لحزب ما. لا يتجرأ أحد في تلك الدول على نعت ناخبي اليمين المتطرف أو أي اتجاه آخر بأنهم قطعان. لأن كل من يدلو بدلوه في بئر السياسة هناك، ينطلق من قناعة راسخة هي أن الكلمة في النهاية هي لذلك الكيان المتعالي الذي يسمونه الشعب، والذي لا يتجسد في الحشود الهلامية، بل في المواطنين الذين يعود إلى كل واحد منهم الحق الشخصي في التصويت وممارسة الاختيار.
 
يعترف المواطنون هناك لبعضهم بهذا الحق الحصري، ويعترفون لأنفسهم به. ولا يتخلون عنه، حتى حين لا يمارسونه فعليا.
 
في هذا الوعي المشبع بفكرة المواطنة ليس من الوارد احتقار الموطنين لبعضهم وممارستهم للحجر الضمني عليهم.
 
عندنا، نسارع إلى نعت فئات واسعة من المواطنين بأنهم قطعان ولا نشعر بأي ذنب في ذلك. ولا يصيبنا أدنى اشمئزاز. هذا يحدث عندنا نحن فقط. ويجري -للمفارقة- في بعض فلتاته على ألسنة من يعتبرون أن الديمقراطية المغربية مجرد مهزلة، وأنه لا جدوى في الاقتراب منها.
 
أين المفارقة هنا؟ المفارقة هي أنك تنطلق، أيها المتنور، في حكمك بأن ديمقراطيتنا هزيلة، ممّا تزعم أنه وعيك المرتفع بحقيقة الديمقراطية. إذا كنت لا تعترف بمصداقية الآلية (أي الانتخابات) ولا بجدوى الأحزاب، ولا بجدية السياسيين، وتضيف إلى ذلك عدم اعترافك بأهلية الشعب الذي تنعته بالقطيع، فأي ديمقراطية تتوقع بالضبط؟ وأي شعب بالضبط سيكون أهلا لها؟ ومن سيجسدها؟ وكيف؟ ومتى؟ وكم من الوقت يلزم أن ننتظر كي يحصل ذلك؟ ومن سيقوم به؟ وماذا ستفعل أنت من أجل ذلك؟... هي في الواقع، ديمقراطية متوخاة في ذهن صاحبها، ليس إلا.
 
ما أجده في هذا النوع من الخطاب، هو قدر كبير من التعالي والتقعير الذهني، خاصة حين يأتي من أولئك الذين لا يتوقع منهم موقف ولا تأثير على هذا المشهد، لأنهم يفضلون البقاء بعيدين عن الواقع والاكتفاء بمراقبته بكثير من التلكؤ والاحتقار، والبحث عن مبررات متزايدة للإغراق في الانزواء والانسحاب، كما لو أنهم، من تلقاء أنفسهم، يعيشون في بحبوحة ديمقراطية في ركن ما من الخيال.
 
وعوض أن يسائلوا أنفسهم عن مدى معرفتهم الفعلية بالواقع الذي يتعالون عليه، نراهم متمسكين بكليشيهات قارة عمّا يجري في الشأن العام. وهي كليشيهات يظل القاسم المشترك فيها هو أن جميع الناس في مواقع المسؤولية فاسدون ومفسدون، إلا هم بالطبع.
 
هؤلاء هم "المتنورون" دائما. والآخرون هم القطيع.
 
لا أدري بالضبط من يحتقر الشعب أكثر، هل السياسيون الفعليون الذين يقررون خوض هذه "المهزلة" -على حد تعبير أصحابنا المتنورين حد الإفراط- ويتوجهون للاحتكاك بالشعب بمحاسنه وسيئاته، أم هؤلاء المتنورون المنزوون الذين ينعتونه بالقطيع، ويأملون في ديمقراطية بدون شعب ولا سياسيين ولا أحزاب ولا انتخابات، ولا بدائل فعلية لكل ذلك...
 
كاتب وباحث ومخرج مسرحي