الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

تدبير عامِل الزمن.. رهان سياسي واقتصادي

 
د. عبد السلام الصديقي
 
منذ أربع سنواتٍ خَلَت، كتبتُ، ضمن مقالٍ حول شروط الصعود، ما يلي: "نحنُ مُطالَبُــون بتغيير مُقاربتنا لعامل الزمن، واعتباره عامِلاً للإنتاج والتنافسية. فنظرتُنا إزاء الوقت، التي يُمكن وصفُها بلا تردد بأنها متخلفة، هي مُكَلِّفَــةٌ على مُستويين اثنين: التأخير في إنجاز المشاريع؛ وعدم احترام الآجال الذي صار أمراً عادياً. إنَّ اللامُبالاة تُجاه مُتغيِّــر الزمن يكادُ يتحولُ إلى عدوى من شأنها تقويضُ كل الجهود المبذولة هنا وهناك. فنحنُ مدعوون إلى القيام بثورةٍ ثقافية حقيقية، وإلى تغيير سلوكنا في اتجاه إعادة النظر حُيالَ بعض الكليشيهات والعادات (المُريحة). ذلك أن العالم يتغير حولنا ويتطور بسرعةٍ فائقة، والأرضُ تدورُ بوتيرة تفرض نفسها على العالَم، ولا أحد يمكن له أن يمنع عقارب ساعة التاريخ من الدوران. فلنعمل، إذن، على استدراك التأخر لأجل الالتحام مع التقدم. فذلكم هو رهان الحداثة".
 
العالم يتغير حولنا ويتطور بسرعةٍ فائقة، والأرضُ تدورُ بوتيرة تفرض نفسها على العالَم، ولا أحد يمكن له أن يمنع عقارب ساعة التاريخ من الدوران. فلنعمل، إذن، على استدراك التأخر لأجل الالتحام مع التقدم. فذلكم هو رهان الحداثة
 
هذه المسألة التي أثرناها منذ أعوام، لا تزالُ مطروحةً اليوم بالكامل، وتُلقي بثقلها في الوقت الذي تستعد بلادُنا لتنظيم الانتخابات في الأسابيع المُقبلة، ونأمل أن يكون ذلك بأفق ضخ دماءٍ جديدة في شرايين المؤسسات وإزالة الصدأ عن الآلة الديمقراطية. فإذا كان الزمنُ، ظاهريا، هو نفسهُ في كل مكان، إلا أنَّه لا يعيشه ولا يتعاطى معه الجميعُ بنفس الأسلوب في جميع المراحل التاريخية وفي كافة المجتمعات.
 
إن تنظيم حياة الأفراد ونشاطهم ليس، ولن يكون أبداً، معزولاً عن الزمن/الوقت. ذلك أنه في المجتمعات الزراعية، على سبيل المثال، يتحدد تنظيم الوقت بمرجعية فُصول السنة والعوامل المًناخية. وفي ذلك تناغمٌ تام مع ظروف عيش أفراد هذا النوع من المجتمعات، حيث يحيا الناسُ وهم يعتقدون أنهم يتوفرون على ما يكفي من الوقت، إلى درجة أنهم لا يستشعرون أيَّ ضرورةٍ للإسراع، كما تكادُ لا تنتابهم أيُّ ضغوطاتٍ عصبية ذات صلةٍ بتدبير الزمن.
 
وعلى العكس من ذلك، في المجتمعات الحديثة والمتطورة، نلحظُ ثورةً حقيقية وتحولاً جذريا في التعامل مع الزمن. واشتدت حدَّةُ ذلك أكثر في ظل العلاقات الأجرية، ومع تطبيق الأجرة حسب عدد ساعات العمل، وظهور الحساب الاقتصادي ومفهوم المردودية، وتطوير تقنيات الدقة، واشتداد المنافسة، سواء بين البلدان أو بين الفاعلين الاقتصاديين الآخرين. فهذه الدينامية التنافسية أفضت إلى ظهور أسلوب "الوقت المناسب" (JAT)، وهو أسلوبٌ يقوم على أساس تزويد الزبون بكل ما يطلبه من منتوجات أو خدمات في الوقت الذي يرغبُ فيه، وفي المكان الذي يريده، وبالجودة والتكلفة المُتفق عليهما. أجل، ليس المجالُ هنا لمناقشة مزايا ومساوئ هذه المنهجية، ولكننا فقط نبتغي مُقاربةَ التغيير الذي أحدثتهُ من خلال وضعها لمتغير الزمن في مرتبة العامل الاستراتيجي.
 
هكذا، إذا كان الزمن، ظاهريا، لا يزالُ يُقاسُ بنفس وحدات القياس المُعتمدة دائماً، غير أنَّ الأمر ليس كذلك في الحياة اليومية وفي الواقع. وذلك لسببٍ بسيط هو أنَّ العالَمَ يشهد تغييراتٍ كثيرة وعميقة على المُستوى العِلمي والتكنولوجي، وعلى صعيد أنماط الحياة المترتبة عنه. حيث إن ما أنجزَهُ العالَمُ في بضع عشريات أخيرة من اختراعات واكتشافات علمية يفوق ما أنتجته البشريةُ منذ وجودها الأول. فمن كان منا يتصور أنَّ العالَم يمكنُ أن يُوفر لقاحاً ضد فيروس كوفيد 19 في مُجرد بضعة أشهر معدوداتٍ من البحث، علماً أن اللقاحات كانت، إلى عهد قريب جدا، تتطلبُ خَمْسَ سنوات، في المعدل المتوسط، ما بين اكتشافها واستعمالها الفعلي!؟ لقد صرنا نُشاهد تسارع التاريخ كَــمَا لو أنَّ الأيام والشهور والأعوام تمر أمام أعيننا بوتيرة أسرع مما كانت عليه من قبل.
 
في المجتمعات الزراعية، يحيا الناسُ وهم يعتقدون أنهم يتوفرون على ما يكفي من الوقت، بينما في المجتمعات الحديثة والمتطورة، نلحظُ ثورةً حقيقية وتحولاً جذريا في التعامل مع الزمن، من خلال وضعه في مرتبة العامل الاستراتيجي
 
من هنا تبرز ضرورةُ وضع "الزمن السياسي" في تناغم مع الزمن الفعلي. فَـــكَــوْنُ البلدان الديمقراطية عملت على خفض مدة الانتداب الانتخابي والحد من عدد الانتدابات، فهو أمرٌ ليس عبثياً، بل إنَّ المُرادَ منه هو مزيدٌ من الفعالية والارتباط أكثر بالواقع الذي لا يكفُّ عن التحرك باستمرار.
 
إنَّ بلادنا التي يحدوها طموح، ولديها إمكانياتٌ، لتصيرَ صاعدةً، عليها أن تتأهل لكسب الرهانات وتذليل العقبات، وذلك من خلال تفاعلها السريع مع المُحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكذا عبر ضرورة أخذها في عين الاعتبار "الزمن الحقيقي"، كما أوضحنا ذلك سالفاً.
 
فعلى سبيل المثال، لا الحصر، لا ينبغي أن نستهلك كثيراً من الوقت في تحضير وأجرأة بعض القوانين التي نعلم مُسبقاً أن أمد حياتها قصيرٌ للغاية. إذ أننا نجد بعض القوانين الهامة والمُهَيْكِلة تتقادمُ قبل الشروع في تطبيقها أحياناً. ولم يفلت حتى قانوننا الأسمى من هذه الوضعية، حيث برزت أصواتٌ تنادي بإصلاحٍ سياسي، وبإصلاح دستوري، في حين أن الدستور الحالي لا تزالُ بعضُ مقتضياته لم تُطَبّق بَــعدُ لحد الآن.
 
إنَّ بلادنا التي يحدوها طموح لتصيرَ صاعدةً، عليها أن تتأهل بتفاعلها السريع مع المُحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والأخذ بالاعتبار "الزمن الحقيقي"، إذ إننا نجد بعض القوانين المُهَيْكِلة تتقادمُ قبل الشروع في تطبيقها أحياناً، مثل الدستور الذي ارتفعت مطالبات بإصلاحه فيما بعضُ مقتضياته لم تُطَبّق بَــعدُ لحد الآن
 
مع ذلك، أبانت بلادنا، خلال الشهور الأخيرة، كيف أنه بإمكاننا الاشتغالُ بسرعةٍ وجودةٍ في العمل. وبالمِثْل، فإن القرارات التي ينبغي اتخاذها، دون أيِّ تضحية بالممارسة الديمقراطية والاستشارة اللازمة، عليها أن تأخذ بعين الاعتبار عامِل الزمن... ألاَ يتعين أن يخضع العرضُ السياسي أيضاً لمبدأ "الوقت المناسب"!؟
 
فبلادُنا بإمكانها، ومن واجبها، أن تتغير على هذا المُستوى. ولها كل الإمكانيات إلى ذلك، وهو ما تأكد خلال الأسابيع الماضية. حيث أنه، في زمنٍ قياسي، بفضل انخراط وإرادة جلالة المَلِك، نجحنا في كسب رهان المُصادقة على ثلاثة قوانين إطار تكتسي أهمية بالغة. وصار الطريق الذي يجب اتباعُهُ مُــعَــبَّداً أمام الحكومة المقبلة!
 
اقتصادي وأستاذ جامعي ووزير سابق