الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

النموذج التنموي الجديد.. مدخل لقراءة تترفع عن الشعبوية والصراخ

 
محمد نجيب كومينة
 
تحتاج قراءة تقرير لجنة النموذج التنموي الجديد إلى نوع من الترفّع عن الشعبوية والصراخ، في حال الاختلاف أو الاتفاق مع ما ورد فيه من تشخيص وتحليل، وما يقترحه للمستقبل، كي يكون النقاش العمومي مفتوحا فعلا على إمكانية الخروج مما يشدنا إلى الوراء، ويُبقي نمونا ضعيفا وفوارقنا الاجتماعية والمجالية صارخة وتنميتنا البشرية فاشلة وبناءنا الديمقراطي هشا ومهددا بالتراجع والسلطوية... إلخ.
 
التقرير، الذي سيصبح لا محالة ميثاقا أو رؤية استراتيجية حسب توصيته، وثيقة لا يمكن قراءتها بالسهولة التي يتصورها البعض، لأنها مشحونة بمفاهيم تستدعي امتلاكها أو فهمها، ولأنها تعتمد اختيارا منهجيا متعددا بتعدد اختصاصات المساهمين في بلورتها، وتقوم على أساس مرجعية في ما يتعلق بالتنمية والاختيارات الكفيلة بجعلها تحقق جملة من النتائج تستوحي جملة من النماذج... ولأنها صيغت كذلك في إطار مؤسساتي وعلى أساس تراكمات سابقة وليس انطلاقة من نقطة الصفر.
 
وقبل مناقشة التقرير، لابد من طرح سؤال أساسي يمثل مدخلا لا محيد عنه: هل نحن في حاجة إلى مراجعة النموذج التنموي الحالي أم لا؟
 
السؤال، رغم بساطته الظاهرة، بالغ التركيب، لأن الأمر يتعلق بواقع مركب ينفتح في سيره، وفي زمننا هذا، على اللايقين. ذلك أن ما تثبته التجربة الخاصة والعالمية هو أن التوقع صار بالغ الصعوبة، نظرا لسرعة التغيرات وتشابك المصالح والمجتمعات وحركة الفاعلين وانتقال القيم، مما جعل منهج التوقع يفقد جدواه، وبالمثل فإن النماذج المختلفة التي تم اعتمادها وتسويقها هنا وهناك توجد كلها عرضة للانجراف بسرعة ما لم يتم تحيينها وملاءمتها، كما أن زرعها في تربة غير ملائمة تنتهي إلى نتائج عكسية، بحيث يتم تدمير ما هو قائم وما يعطي نتائج ولو محدودة دون أن يتمكن البديل من تحقيق وعوده.
 
إننا في حاجة بكل تأكيد إلى نموذج تنموي جديد، وليس إلى نموذج للنمو فقط، نموذج يمكننا من تجاوز النمو الضعيف تاريخيا، ومن تعبئة إمكانيات النمو في السوق الداخلية، التي أعادت لها الاعتبار جائحة فيروس كورونا المستجد، وإمكانيات النمو دوليا أيضا، خصوصا في هذا الوقت الذي سيعاد ترتيب سلاسل القيم وتوزيعها على نحو جديد نسبيا، ويمكننا من خلق أكبر عدد من مناصب الشغل لسكان نشيطين يعانون من البطالة والشغل الناقص، ويمكننا من محاربة الفوارق الاجتماعية التي تتعمق وتجعل الفقر يورث جيلا بعد جيل والثروة تتركز بين أيادي أوليغارشية تتحكم في كل شيء، في الثروة والسلطة، وتفرض على البلاد ما يلائمها ولا يلائم البلاد وعموم سكانها، ويمكننا من حل مشاكل عويصة تشكل تهديدا وجوديا، وفي مقدمتها مشكلة انهيار نظامنا التعليمي والتربوي الذي يرافقه انهيار للقيم وضعف في الشعور بالانتماء...، ويمكننا من السير على السكة القويمة والسليمة نحو بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان والالتزام باحترام الاختيارات المعبر عنها في انتخابات شفافة ونزيهة ومنتظمة... إلخ، مع التأكيد على ربط كل المسؤوليات بتقديم الحساب.
 
حاجتنا إلى هذا النموذج الجديد ملحة كي نصبح قادرين على النظر إلى المدى البعيد، ونتحرر بالتالي من قصر النظر السائد، وتصبح الرؤية مشتركة وكفيلة بجعل جميع الفاعلين يكتسبون درجة عالية من الوضوح لاتخاذ قراراتهم ويساورهم شعور بالأمان والاطمئنان دون خشية مفاجآت، وهي ملحة أكثر بالنسبة للدولة كفاعل رئيسي له مسؤوليات شاملة كي تنسق سياساتها العمومية وتسير بها نحو الأهداف المتوخاة بانسجام وبمعرفة بآثارها الخارجية les externalités السلبية التي تستدعي المعالجة كي لا تتفاقم وتصبح عرقلة. ذلك أنه إذا كانت الفترة التي تلت تقرير الخمسينية قد تميزت بإطلاق مشاريع البنية التحتية، التي حققت نجاحا ملموسا، والاستراتيجيات القطاعية، التي لم تفِ بوعودها كاملة رغم المجهود العمومي، وأدت إلى تحاشي السقوط في النمو السالب في سنوات الجفاف، وهي على كل حال استراتيجيات أُوحي بها من طرف البنك العالمي، الذي اعتمد هذه المقاربة عالميا، وقامت بإعدادها شركات دولية، وبالأساس ماكنزي، دون مرافقة حقيقية وفاعلة لدى التنفيذ والتسويق، إذا كان الامر كذلك، فان التنسيق قد بات ملحا للتحكم في الكلفة وتخصيص الموارد النادرة، وبالتالي تجنب الإهدار والتبذير الذي طبع تنفيذ بعض تلك الاستراتيجيات المعزولة، وبالأخص مخطط المغرب الأخضر، وجعل كلفتها باهظة في الوقت الذي كان انعكاسها على النمو محدودا جدا، وكان أثرها على التشغيل وتوزيع المداخيل ومحاربة الفوارق سلبيا، بل إنها كانت في صالح مزيد من تركيز الثروة وتعميق الفوارق وعدم الوفاء بالتزامات التنمية البشرية والتنمية القروية.
 
هكذا أصبحت التقائية البرامج والسياسات العمومية واعتماد الأفقية في تدبير الشأن العام كلمات رائجة، لكنها بلا دلالة في الواقع، في غياب رؤية تنتظمها وتحرص على التكامل، وهي الرؤية التي غابت منذ نهاية العمل بمخططات التنمية وبآليات التخطيط، رغم كل ما يمكن قوله بشأن تجربتنا التي انحصرت في الإدارة وتغلّبَ فيها الروتين الإداري، والتي بات من غير الممكن الاستمرار في التهرب من وضعها...
 
للموضوع بقية...
 
كاتب وإعلامي واقتصادي