كثيرا ما يحلو للعديد من السياسيين والباحثين ومعهم جمهور من المتتبعين المغاربة، القيام بمقارنات ما بين التجربة المغربية خلال حكومة "التناوب التوافقي" ما بين 1998 و2002 وفترة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا ما بين 1975 و1978، على الرغم من أن الجارة الشمالية للمغرب، حققت انتقالها في فترة وجيزة، بينما التناوب في المغرب لم يكتمل، وتوقف مع "الخروج عن المنهجية الديمقراطية" آنذاك.
وبغض النظر عن الاختلافات ما بين تجربتي الملكيتين المغربية الواقعة شمال إفريقيا والإسبانية بجنوب أوروبا على المستويات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، فإن ما جمع بين تجربتين الانتقال والتناوب، إلى حد ما التشابه في طبيعة المرحلة التاريخية التي مرت بهما كلا التجربتين وسمتهما المشتركة المتمثلة في رغبة الفاعلين من مختلف المواقع، معارضة وموالاة، لتجاوز وضعية الاستبداد والحكم الفردي إلى تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي وسلس مبني على قاعدة التوافق بين مكونات الطبقة السياسية لطي صفحة الماضي الأليم والتوجه نحو المستقبل عبر الديمقراطية.
فبمقتضى تدبير أعده الجنرال فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأزيد من 40 سنة، استلم الملك خوان كارلوس سنة 1975 قيادة الدولة، وتوافقت القوى السياسية، يمينها ويسارها، للمضي قدما بالانتقال الديمقراطي، مع ترك الخلافات والصراعات جانبا، والتوجّه نحو المستقبل الذي توج بالمصادقة على دستور جديد، في حين أن التناوب في المغرب، الذي كان "ثمرة تفاهم وتوافق سياسي" بين الملك الراحل الحسن الثاني و(الكتلة الديمقراطية)، كان "صفقة تفاهم سياسي، مبني على الثقة، أكثر منه تعاقد مسطر"، من أبرز نتائجها قبول قائد المعارضة عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تشكيل الحكومة رقم 25 في تاريخ المغرب المعاصر.
توافق بين حكومة ديمقراطية ناشئة وإعلام تعددي
بالمقابل يعود الانتقال الديمقراطي في إسبانيا إلى "ثلاثة لاعبين رئيسيين"، هم الملك خوان كارلوس الأول، الذي قرر التوجه نحو الديمقراطية مباشرة، وأضولفو صواريث، أول رئيس حكومة منتخب ديمقراطيا، والاشتراكي فليبي غونواليس الذي قضى في رئاسة الحكومة 13 سنة. وشكلت هذه التجربة حالة فريدة للتوافق بين حكومة ديمقراطية ناشئة، وبين وسائل إعلام متعددة التوجهات (فرانكوية، اشتراكية، جهوية...).
وبعد إجراء انتخابات 15 يونيو 1977، تعزز الانتقال الديمقراطي، باتخاذ عدة قرارات جريئة، منها على الخصوص إعلان العفو العام، والاعتراف بكل الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وإعداد دستور جديد، وإلغاء الرقابة على الصحافة، وحذف وزارة الإعلام وإحداث محلها وزارة للثقافة.
وتجدر الإشارة إلى أن الانتقال الديمقراطي يعد دعامة الاتصال السياسي الذي يتأسس من واقع التفاعل في ما بين وسائل الإعلام والسياسة والمواطنات والمواطنين مما يجعله ينطوي على قواعد وتوقعات معيارية تبدو جد معقدة.
فعلى خلاف المغرب، ساهمت وسائل الإعلام الإسبانية بدور حاسم في احتضان الانتقال الديمقراطي، واجتهدت الصحافة في ترويج خطاب جديد في مجالي السياسة والثقافة، مسايرة بذلك تطور النقاش السياسي في القضايا العامة، في الوقت الذي كان الإعلام في مرحلة ديكتاتورية فرانكو ينزع الطابع السياسي عن اهتمامات الجمهور، مع التركيز على قضايا بعيدة عن انشغالات الرأي العام.
الإعلام في زمن التناوب علاقة ملتبسة
وإذا كان هذا واقع حال الإعلام في إسبانيا بعد مرحلة فرانكو، فإن "التناوب التوافقي" في المغرب، وإن حظي بترحيب وطني ودولي، فإن التأييد الذي لقيته هذه التجربة في بدايتها من وسائل الإعلام، سرعان ما تحوّل إلى انتقاد لأدائها على صفحات الجرائد، خاصة بعدما "فشلت" الحكومة في إحداث تغيير عميق في قطاع الصحافة والإعلام والعمومي، وفي ظل عجز الطبقة السياسية على فهم متطلبات هذا القطاع الاستراتيجي وخصوصياته المهنية.
فالمغرب وإن عرف، على المستوى السياسي والدستوري والحقوقي، دينامية متواصلة زمن التناوب، إلا أن العلاقة مع وسائل الإعلام ظلت دائما تشكل فضاء للتوتر بين الدولة والصحافة، على الرغم من أن التحول إلى الديمقراطية، غالبا ما يفضى إلى نزاعات أساسية بين الحكومات والإعلام. كما أن الاختلاف حول مفاهيم حماية القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والأمن القومي والنظام العام، غالبا ما تُتخذ كذرائع لتبرير التدخل السياسي في الصحافة.
وعلى الرغم من ذلك، انتعشت الكتابة الصحفية، في مرحلة التناوب حول الذاكرة السياسية الوطنية بشكل ملحوظ، وتميز ما كانت تنشره الصحف بجرأة كبيرة في تناول قضايا كانت تعد من المحرمات إلى حين، بسبب "الخطوط الحمراء" والإفراط في ممارسة الرقابة الذاتية لدى معالجة ملفات التاريخ السياسي الوطني. وتنافست الصحافة المكتوبة، في هذا الصدد، على تقليب صفحات الماضي، وحظيت هذه الحفريات الإعلامية باهتمام متزايد من لدن الطبقة السياسية ومعها فئات واسعة من الرأي العام، وهو ما مكّن من إحداث نقلة نوعية في التفكير والبحث.
كما سُجل انتعاش ملحوظ في الإقبال على الصحافة، وعرف الأداء المهني نتيجة ذلك تطورا، مع الاستناد في تحليل المادة الصحفية على مقاربات تسند على قواعد المنهج التوثيقي، وتعزز المشهد الصحفي والإعلامي أيضا بالتحاق جيل جديد من الشباب بـ"مهنة المتاعب"، من المتوفرين على تكوين عال.
الصحافة تخلخل يقينيات أحداث الماضي
وإذا كانت الصحافة قد تمكّنت من نفض الغبار عن ملفات الماضي، بالتساؤلات حول ظروف وتداعيات بعض الأحداث، فإنها أثارت في المقابل جدلا واسعا، حول وظائف الصحافة، ودور الصحافي في تناول هذه الأحداث، التي عادة تكون من اختصاص المؤرخين، لأن تحرير المادة الصحفية، تختلف عن الكتابة التاريخية، لتعامل الصحافة الفوري مع الأحداث بمنهجية إعلامية وتحويلها إلى مادة صحفية، حتى تكون في مستوى إدراك فئات واسعة من القراء والمشاهدين والمستمعين.
هذه التحولات خلقت، على مستوى أداء الإعلام، واقعا جديدا، وتخلخلت بموجبها يقينيات سادت لردح من الزمن حول فصول من أحداث الماضي التي طرحت وفق مقاربات مستجدة، وأعيد قراءتها وتحليلها بدون قيود في مرآة الصحافة. وخلقت هذه الوقائع المنشورة جدلا واسعا بين مختلف الأطراف الحزبية والحكومية والإعلامية، ومعها طرحت إشكاليات متعددة من قبيل ما هي حدود التّماس بين الفاعل السياسي والصحافة، ودور الإعلام في زمن التناوب التوافقي.
الانتقال الديمقراطي.. الصحافة أداة اتصال مستقلة
وإذا كانت الصحافة الإسبانية تمكنت، خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، من التحول إلى أدوات اتصال مستقلة عن الحكومة وذات خط تحريري يعكس توجهات القائمين عليها بفضل أجواء الحرية ما بعد فرانكو، وساعد الإعلام على ترسيخ الديمقراطية، والارتقاء بمستوى العمل الصحفي، فإنه على العكس من ذلك ساد التوتر زمن التناوب ما بين الصحافة والدولة، وانصب الجدل حول العلاقة الملتبسة في مراحل الانتقال الديمقراطي بين الفاعل السياسي والفاعل الإعلامي.
فالتناوب وإن "لم يكن تلك العصا السحرية التي تحقق المعجزات"، فإن وسائل الإعلام، جعلت قطاعات عريضة من المجتمع المغربي، تتوق إلى "استعادة السنوات الضائعة"، لكن ابتداء من أواخر سنة 2000، وبعد "الخروج عن المنهجية الديمقراطية" في 2002 بتعيين وزير أول تكنوقراطي من خارج الأحزاب السياسية، "وقع إحكام للقبضة من جديد على الصحافة"، حيث تعرضت ثلاث جرائد للمنع من الصدور، ليس بحكم قضائي، وإنما بقرار حكومي.