الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

التغيير الديمقراطي بين النقد الهدام والنقد البناء

 
عمر إسرى
 
يقول الشاعر الإنجليزي الحداثي ويستن هيو أودن، صاحب قصيدة "المواطن المجهول": "نحن نفضِّل أن ننهار على أن نتغير"... والمسافة بين "الانهيار" و"التغيير"، هي نفسها التي توجد بين "ثقافة الهدم" و"ثقافة البناء"، بين "النقد الهدام" و"النقد البناء"، حيث يسعى الأول إلى الهدم دون بناء البديل، بينما يهدف الثاني إلى تصويب الأخطاء وإصلاح الثغرات من خلال الإتيان بالبديل.
 
إن النظرية النقدية كانت وماتزال عاملا رئيسيا لنهضة الشعوب، فالفكر الذي رسخ الحداثة وانتشل أوروبا من ظلام العصور الوسطى، تجسد في فلسفة عصر النهضة التي نضجت مع كانط وصولا إلى ماكس هوركايمر وغيرهما. فالأمم لا يمكن أن تتجاوز ركودها الفكري ونكساتها دون نزعة نقدية بناءة، تشخّص التخلف وتدعو إلى الإصلاح مع طرح أفكار لتحقيقه على أرض الواقع، ننتقد المشروع السائد الذي أثبت فشله نظريا وعمليا ثم نطرح الحل.
 
تعج اليوم مواقع التواصل الاجتماعي بالأفكار النقدية للواقع المعاش وللمشاريع الموجودة، أفكار وإن تفاوتت في قيمتها وعمقها، فثقافة "الإلغاء" و"الهدم" تسري في شرايين الكثير منها، فنجد عددا غير يسير من الناس الذين لا يتسامحون مع أي فكر أو توجه يختلفون معه، وغالبا ما يلجأ بعضهم إلى انتقاد الأشخاص وأفكارهم فقط من أجل أن يثبت أن رأيه هو الحقيقة الساطعة الوحيدة التي يفترض من الجميع تقبلها، سلوك يؤدي في الكثير من الأحيان إلى السب والقذف والهجوم العشوائي وتبخيس الأشياء دون الإتيان بأشياء أفضل منها، وصولا إلى ترسيخ التطرف والأفكار السلبية ونشر الإحباط في أوساط الشباب.
 
لا شك أن النقد ضروري جدا لتجاوز الأزمات وحل المشاكل التي يعيشها المجتمع، وعلى رأسها التخلف والتطرف والفساد والتفقير، لكننا لسنا في حاجة إلى النقد الذي لا يتيح لنا فرصة لتجاوز المشاكل، ولا يؤدي إلى طرح بدائل للبرامج والمشاريع، التي نراها فاشلة، فهذا نقد ميّت، يهدم القديم دون أن يبني الجديد، وهو ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى التخريب والقطيعة عوض الإصلاح والتجديد، وإلا فما الفائدة من النقد أصلا؟ ففي جميع السياقات، سواء تعلق الأمر بالنقد الداعي إلى القطيعة الجذرية أو ذاك الذي ينادي بالإصلاح، يظل طرح البديل إجباريا، بديل مؤسس على النزعة النقدية، ومتسم بالقدرة على الخلق والإبداع الذي يتفادى الأخطاء ويستفيد منها دون أن يخشاها.
 
كما أن النقد من صلب التنافس كمعيار لجدية الادعاءات، على أن يكون بعيدا عن أساليب التكفير والتجهيل والتخوين والتبخيس المجاني والشخصنة، وغير ذلك يبقى التنافس الشريف والبناء مشروعا ومطلوبا لتحقيق التقدم داخل مجتمع ديمقراطي تعددي، إلا أن ساحة التنافس للأسف تعج بالكراهية والحقد وتصفية الحسابات الشخصية والمؤامرات والمناورات وغيرها، بعيدا عن المصلحة العامة، وهنا يصير النقد جزءا من المشكل لا جزءا من الحل، فبين النقد البناء والهدام، يختلف الهدف بين الرغبة في كشف الحقيقة وتحسين الأوضاع، وبين إثبات الذات ووهم الانتصار النرجسي بطعم الحقد وبأدوات السب والشخصنة، بين من يقدم البدائل للخروج من الأزمات وتحقيق التطور، ومن يخرب من أجل التخريب.
 
يقول الناقد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للأدب توماس ستيرنز إليوت: "إذا لم تكن تملك القوة لتملي شروطك على الحياة، فلا سبيل لك إلا أن تقبل بالشروط التي تملى عليك"، وعلى نفس الإيقاع نقول "إذا لم تمارس السياسة مورست عليك"، جميل أن ننتقد الوضع السياسي ببلادنا المتسم فعلا بأزمة بنيوية لا يمكن "إخفاؤها بالغربال" كما يقال، مفيد جدا أن ننبه المؤسسات والأحزاب والرأي العام إلى المسار الخطير الذي نسلكه والذي سيؤدي بنا إلى مستقبل غامض، لكن الأفيد أن نشخص المشاكل والاختلالات التي نعاني منها بشكل علمي وموضوعي، ونبحث لها عن أجوبة وحلول عملية، وعوض الاكتفاء بالصراخ ولعن الظلام فلنوقد شمعة ثم شمعتين وهكذا...
 
صحيح أن الاحتجاج صحي إذا كان هدفه تصحيح الأوضاع وتحسينها في كل القطاعات، إذا كان يسعى إلى المساواة والحرية والعدالة والديمقراطية، لكنه لا يكفي أبدا لتحقيق الإصلاح، لذلك فنحن نحتاج اليوم إلى شباب يعبر عن طموحاته وتطلعاته عن طريق الانخراط الفعلي في مشاريع تسعى إلى تحقيق ما يتطلع إليه، شباب يمتلك أدوات النقد البناء ويساهم في طرح البدائل خدمة للوطن والمواطنين، هذا هو أصل ورهان مشروع حزبنا الشبابي "التجمع من أجل التغيير الديمقراطي"، هكذا انطلقنا من نقد ذاتي بناء أفضى بنا إلى ضرورة الانتقال من "ثقافة المقاومة والنقد" إلى "ثقافة بناء المشروع" و"ثقافة البدائل".
 
كنا ننتقد كثيرا وننتج قليلا، واليوم رهاننا أن نواصل النقد البناء مع طرح البدائل، يقول المثل الدارج المترجم من الأمازيغية "اللي قال العصيدة باردة يدير يدو فيها"، وهو مثل حي يعبر عن صعوبة ممارسة العمل السياسي في ظل التخبط والفساد المستشري والثقافة السياسية شبه المنعدمة والعزوف السياسي الكبير، هو قرار صعب ومرير، لكنه المسار الوحيد الذي سيقودنا إلى المساهمة في إصلاح ما يمكن إصلاحه، في محاولة للتعبير عن عدم رضانا عن تدبير الشأن العام، من خلال مشروع حقيقي يطرح البدائل والأجوبة الشافية للأسئلة الحارقة، عوض الاختيار السهل المتمثل في لعب دور المتفرج الذي يؤاخذ اللاعبين على أخطائهم وهو يتناول الفشار على المدرجات.
 
قد يصيح قائل: الشروط الموضوعية لم تنضج بعض، فنجيبه: من سيقوم بإنضاجها، إن فضلنا جميعا مقاربة "الخمول والكسل" والاكتفاء بالصراخ من وراء شاشات الهواتف الذكية، ثم ماذا فعلتهم حتى تنضجوا شروطكم الذاتية أولا؟
 
إننا في مشروعنا الحزبي ندرك جيدا جسامة المجهود الذي ينتظرنا، بعد سنوات من "الفساد السياسي" و"السياسات الحكومية الفاشلة" والإحباط العميق لدى الكثير من الناس من الفعل السياسي ككل، لن يكون سهلا أن نقنع الكثيرين بأن ساعة التغيير الديمقراطي قد حانت، وأننا قادرون على صنع الفرق، لكن هذه العراقيل لن تثنينا في التماس طريقنا نحو المستقبل كشباب يحلم بالمشاركة الإيجابية في المساهمة في إصلاح الأوضاع، وإن لم نستطع فلا بأس في ذلك، يكفي أن نبث الأمل والطموح في أوساط الشباب ونقنعهم أن التغيير ممكن، يكفي أن نبادر إلى الخروج من دائرة "الفراغ" ومقاربة "الكرسي الشاغر"، وهذا ما بدأنا في تحقيقه فعلا، حيث نرى اهتماما مضطردا للشباب بالسياسة، شباب كان يؤاخذنا قبل سنتين عندما أطلقنا مشروعنا، صار يسلك طريقنا، ودينامية شباب درعة تافيلالت التي ظهرت منذ أسابيع نموذج حي، ومازالت نماذج أخرى ستظهر.
 
الشباب في حاجة لمن يحتضنهم ومن يشركهم في بناء المشروع، وفي تفعيل المشروع، لا لمن يؤثث المشهد بهم ويلقنهم ممارسات سياسية رديئة ستطيل زمن الأزمة وستعيد إنتاج نفس النخب، هم في حاجة لمن يؤطر الكثير منهم وينقذهم من اليأس ويحمل مطالبهم ويتحول إلى صوتهم من أجل مستقبل أفضل، وإن من شأن الانتقال من النقد الهدام والمجاني إلى النقد البناء، أن يشكل بداية حقيقية لوعي شبابي كبير يقود إلى مساهمته الفعالة في التنمية والتقدم.
 
صحافي وفاعل سياسي